مما لا شك فيه أن واقع الحال من عدم الاستقرار الذي يتجاذب العالم يشير إلى، أن هناك غموضاً كبيراً مثيراً للشكوك. ولعل أبرز معالم ذلك الحراك بين الشركات المتعددة الجنسيات، وترادف ذلك مع أزمات اقتصادية حادة نتيجة الأمراض السياسية التي تعانيها الدول غير القادرة على معرفة مدلول ظاهرة مفهوم سيادة الدول الخاصة بالقرن الحالي.

إن المؤشرات تؤكد، أن بعض الدول تتعرض للتحلل بينما هي تنطلق في لحظة سريعة باتجاه العالم الذي سوف يتجاوزه المستقبل، عطفاً على معطيات تشير إلى التحول السريع الذي ينتظر العالم ويستعد له الغرب الرأسمالي، بحيث تكون الدول بكل تفاصيلها تحت سيطرة خط التقدم الإنساني، وتكون القيم والأخلاق والإيحاءات والضمانات الإيديولوجية الغربية هي اللائقة بالإنسان، حيث ينهض بالسيطرة عبر الشركات العابرة للقارات من أجل استنباط خامات الأرض وأرزاقها وأقواتها، ويصبح هو من يصنع المادة ويقيم الصناعات المتنوعة ويستخدم ما تنتجه له كل الخبرات البشرية والفنية والعلمية.

المؤشرات الإيديولوجية ليست مفتعلة، وفق نظرية المؤامرة كي يصاب بها العالم العربي وحده فقط، دون شعوب العالم أجمع؛ بل إنها النتيجة الحتمية التي يطرحها التاريخ، والتي أنتجت منهجية الاقتصاد العابر للقارات. فالليبرالية أصبحت تستعصي على الأدلجة من حيث تستعصي على الشمولية، بحيث تصبح الليبرالية بديلاً متجاوزاً كل الإيديولوجيات المتصارعة على رأس المال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، إذا كانت الإيديولوجية في الأساس تعني كمفهوم منظومة من الأفكار؛ أي: إنها تتضمن مستوى من الدوغمائية التي تطرح نفسها كجزء من اليقين، وأن تخترق الشرط السيادي للدول، ليبقى رأس المال، ولا يزال المحرك الأساسي في حياة المجتمعات، على الرغم من أن الحياة البسيطة في الماضي كانت تقوم على علاقات اقتصادية عمادها الأرض في شقها الظاهري، حيث تغيير وجه الأرض الأصفر، ليتحول إلى شتى الألوان التي تنتجها الأرض في صورة ثمار وزرع، نتيجة جهد بشري بعيداً عن رفاهية الآلة والتكنولوجيا.

لقد كان الاقتصاد في ذاك الوقت متواضعاً، وكانت ثروة العالم محدودة، ولم يكن ثمة نظريات اقتصادية أو اتجاهات فكرية اقتصادية تحكم المجتمعات البشرية. لكن عندما ظهرت الثورة الصناعية، وبدأ العمل في المصانع ظهرت رؤوس الأموال الضخمة من جرّاء بيع السلع المصنعة عبر العالم، وظهر الاقتصاد القائم على الصناعة والتجارة والخدمات وتبدّلت معالم الحياة، وظهرت الشركات كنتيجة لتوسع الاقتصاد وظهور رؤوس الأموال الضخمة. وكانت الشركات الأولى قد ظهرت في دول الغرب، حيث اتجهت دول غربية عديدة إلى إقامة شركات مشتركة فيما بينها، منها شركات نفطية كشركة (شل)، وشركات تصنيعية مثل شركة (كونكورد) السابقة لتصنيع طائرة مدنية، وشركة (إيرباص) التي تعتبر أكبر منتج للطائرات المدنية في العالم في هذا الوقت. ومع التغير الكبير الذي حدث بعد سقوط الشيوعية والعالم الاشتراكي فقد توسعت الشركات الغربية، ونقلت مقراتها ومصانعها إلى دول عديدة أخرى في اتجاهات العالم المختلفة، وظهر مفهوم الشركات المتعددة الجنسيات، وهي التي تخضع ملكيتها لسيطرة جنسيات متعددة، كما يتولى إدارتها أشخاص من جنسيات مختلفة، وتمارس نشاطها في دول كثيرة على الرغم من أن استراتيجيتها وسياستها وخطط عملها تصمم في مركزها الرئيسي في دولة معينة تسمى الدولة الأم، إلا أن نشاطها يتجاوز الحدود الوطنية والإقليمية لهذه الدولة، وتتوسع في نشاطها إلى دول أخرى تسمى الدول المضيفة.

وتتعدد أنشطة الشركات المتعددة الجنسيات بين الشركات الصناعية والتكنولوجية وشركات التجزئة والخدمات، ومن أكبر هذه الشركات الصناعية هي شركة فولكس فاجن الألمانية التي لها وجود في مناطق كثيرة في العالم منها أمريكا والصين وروسيا، وينضوي العديد من العلامات التجارية تحت اسم المجموعة مثل: أودي وبنتلي ولامبورغيني وبورش وسكودا، إضافة إلى السيارات الثقيلة مثل: مان وسكانيا. كما تملك المجموعة ما يقرب من 42 شركة فرعية عبر العالم وأصبحت الصين أكبر سوق لها، وتنشط المجموعة في 150 دولة ودخلها السنوي 250 مليار دولار. ومن شركات التكنولوجيا يمكن تمييز شركة أبل التي تعد أكبر الشركات التكنولوجية من حيث القيمة التسويقية والإيرادات وتقع أغلبية متاجرها في الولايات المتحدة والصين ودول الغرب وبعض الدول العربية، ومن شركات التجزئة هناك شركة كارفور وأمازون، وسوى ذلك من الشركات التي طبعت وجه العالم الحديث بطابعها وأصبح مفهوم السيادة واسعاً، ويحتاج إلى إعادة تعريف تستوعب الحالة الاقتصادية الموجودة في العالم. ولا شك أن تلك الشركات العابرة للقارات تفرض أنماطها الاقتصادية وأسعار مبيعاتها على الدول المضيفة، الأمر الذي يستدعي حوكمة تلك الشركات وإلزامها بقوانين الدول المضيفة، فلا يجوز أن تبقى مرتبطة مع مقراتها الرئيسية وتتلقى أوامرها وتعليماتها وسياساتها الاقتصادية والإنتاجية والتسويقية لتلك المقرات بل يجب أن تخضع المقرات الفرعية لسيادة الدولة المضيفة، وأن تلتزم بقوانينها وتشريعاتها الاقتصادية لكي تحفظ هذه الدول لشعوبها ثرواتها القومية.

*