كان جدى رحمه الله يقول لى أن الزمن قد تغيير،واننا نقترب من يوم القيامة،لان أحوال الناس قد تبدلت،واصبح الرجال يقلدون النساء فى الملبس والزينة،وكان ينصحنى جدى بأن اصلى و(اعرف ربنا) فى تعاملاتى،راجيا منه اصلاح أحوال الخلق،وكنت أعتبر نصائح جدى ارشاد وتوجيه لى فى حياتى،وما أن اصبحت فى سن الشباب حتى بدأت اتعامل مع نصائح جدى على انها أراء متخلفة،وان جيلنا له قوانينه واساليبه الخاصة فى الحياة،وعند قرأت نداء الليبراليين العرب تذكرت نصائح جدى،واكتشفت انها حكمة بليغة،وسيطرت على رغبة فى أن يبدأ الحساب،لان أحوال الخلق لم تتغير فحسب وأنما انقلبت 180 درجة،او كما قال أحد السياسيين المصريين 360 درجة بالمعنى السياسى !!
- لقد أصبح أعداء حرية الفكر وحرية الرأى والتعبير هم من يسمونهم بالليبراليين العرب،الذين يدعون لنصب محاكم التفتيش وحرق من يكفر بنعمة بوش....
- لقد اصبح دعاة القمع والقهر يسمونهم اليوم المثقفين والمفكرين والليبراليين واشياء كثيرة تذكرنى بتسمية لاحد البلدان العربية تضمنت اكثر من 6 صفات متناقضة.....
- لقد اصبحت سمة العصر-بجهود هؤلاء المباركة- ترفع شعار..من لا يفكر مثلنا وجب عليه الحد،ولم تعد المشكلة فى قمع الرأى الأخر الذى مازال يمارس،بل أن الليبراليين العرب نصبوا(لا أدى يريدون تنصيب من؟؟؟)حاكما على افكارى وافكارك،واياك ثم اياك ان تدور فى تلافيف مخك التافه افكار لا تعجبهم....
دارت هذه الأفكار فى ذهنى بعد أن قرأت وثيقة بعنوان نداء من الليبراليين العرب إلى الأمم المتحدة تطالب بتشيكل محكمة دولية لضبط واحضار ومحاكمة من يروج للفكر الأرهابى،ويقدم الفتوى والنصح للأرهابيين.... إلخ.
وتتضمن هذه الدعوة السيئة الصيت عدة نقاط تكشف عن مكامن الضعف فيها،وتحمل فى ذاتها بذور فناءها:
أولا: يريد السادة اصحاب الدعوة من الأمم المتحدة تشكيل محكمة يمثل أمامها مروجى الفكر الأرهابى ( بل إن الحكمة تقتضي انشاء محكمة دولية من قبل الأمم المتحدة لمحاكمة الارهابيين وفقهاء الإرهاب الذين يقدمون للإرهابيين فتاوى دينية تشجعهم على الإرهاب)ولم يحدد السادة ماهية الحدود الفاصلة بين الفتاوى الدينية التى تشجع على الأرهاب،ولا حتى المعايير للوصول إلى ذلك،وتركوا الأمر مفتوحا ليقرره الحكم او الحاكم!!، وما ذكر من أمثلة (لا تودى وتجيب) من فتاوى وردت على لسان بعض رموز التيار الدينى المتشدد،لا يمكن أن تشكل معيار لان هناك الآف من الفتاوى المختلفة والمتباينة بل وحتى المتضاربة،التى تصدر عن قادة هذه التيارات والجماعات ولا ندرى عنها شيئا؟ بل أن أعتبار هذه الفتوى أو تلك تتناسب مع تعاليم الدين أو تخرج عنها؟ او أنها ترويج للأرهاب ام مجرد رؤية تنسجم مع المنطق الدينى؟هى مسألة نسبية تدخل تحت باب كبير يسمى الأجتهاد، يستوجب الحوار والبحث والتمحيص من جانب كافة العلماء والباحثين- على أختلاف قناعاتهم- للوصول إلى رؤية تتلائم واصول الدين وطبيعة حياتنا العصرية الراهنة.
ثانيا:أن حرية الرأى والفكر،وصراع الأفكار والأراء هى السبيل الوحيد لتطوير المجتمع المدنى المعاصر،وبناء قاعدة فكرية سياسية اخلاقية وأجتماعية تتلائم مع تقاليد وطبيعة مجتمعاتنا،وتدفعها للأمام فى عملية التطور والرقى،وقد خاض الآف وربما مئات الآف من المثقفين معارك ضارية،دفعوا ثمنها ارواحهم لتحقيق حرية الفكر والرأى،وكان الخصم المتشدد والدموى أحيانا،والحكم فى نفس الوقت هو السلطات الحاكمة ووزارات الداخلية،واقبية المخابرات،التى أستولت على مدار أكثر من نصف قرن على حق الحكم بصحة وخطأ الأفكار،وعاقبت الخاطئين ليس بالسجن فقط،وانما ايضا بالتعذيب والأعدام.
واليوم نجد أن من يسمون أنفسهم بالليبراليين العرب يتطلعون للعودة لهذا الأسلوب من الديمقراطية،ويقننون قمع الرأى الآخر،وقهر من يختلف معهم.
ثالثا:مهزلة العجز والأصرار على السيطرة على الريادة فى أوساط المثقفين والسياسيين والمفكرين العرب، لانى عندما أكون عاجزا عن التصدى لمهمة وطنية وانسانية مثل مهمة مواجهة الأفكار الدينية المتشددة التى تقود للأرهاب،لابد وأن اكون صادقا مع نفسى ومع الأخرين وأترك قيادة الحملة لمن يقوم بهذه المواجهة ويمارس الدور الطبيعى للمثقف او المفكر العربى،وهو خوض صراع لا هوادة فيه ضد هذه الأتجاهات،ويمارس ذلك على ارض الوقع يوميا فى مصر او فى لبنان او فى فلسطين،او اى موقع تتواجد فيه هذه الأتجاهات وتنشر افكارها،وما على سوى تقديم الدعم لهذا المثقف الملتزم بقضايا بلاده،بدلا من أن اصر على التصدى للقيادة عبر تغيير مهماتى من مثقف او مفكر يقوم بتوعية المجتمع إلى ضابط شرطة يعتقل ويقدم للمحاكمة.
فأذا كنتم قد وصلتم إلى قناعة بفشل القلم والحوار..المقالة والمحاضرة فى توعية المجتمع وفضح فكر الأرهاب،فلا داعى لان تفرضوا علينا فشلكم واختياركم لقوة السلطة بدلا من الأدوات التى نعرفها،والأكثر تآثيرا فى هزيمة التطرف والأرهاب،بعبارة أخرى من يفشل فى ممارسة دوره كمثقف يخدم مصالح المجتمع فلا داعى لآن يصبح ضابط شرطة فى أوساط المثقفين!!
وبقى أن اتوجه للسادة الداعين لهذا النداء بنداء مضاد..
اذا كنتم قد وصلتم إلى قناعة بفشلكم وعجزكم عن مواجهة(وحش التطرف والأرهاب)،وعدم القدرة على التآثير فى وعى المجتمع بشكل أيجابى،فلتتركوا الأخرين يقومون بأداء هذه المهمة،والزعم بأنكم تريدون حماية المجتمع من (الفتاوى الدينية المُحرّضة على الإرهاب)والتى ترون انها(تلعب دورًا مباشرًا وأساسيًا في التحريض عليه")،ليس مبررا كافيا لكم امام فرج فودة او نجيب محفوظ او المفكرين العرب العلمانيين،فى أيجاد محاكم تفتيش تمارس الأرهاب الفكرى،لتمنع القوى المدنية من بناء قاعدتها الواسعة فى المجتمع من خلال صراعها ضد كافة اشكال التطرف والظلامية،وايضا ضد كافة اساليب مصادرة الرأى والقمع الفكرى.ولابد أن اقول لكم أن اسلوبكم فى مواجهة (الارهابيين من أفراد وجماعات وتنظيمات بما في ذلك الأفراد الذين يشجعون على الإرهاب بإصدار الفتاوى باسم الدين) يتطابق مع اساليب هذه الجماعات التى تعتبر كل من يختلف معها كافر ويحق أقامة الحد عليه،مع الفارق فى أنهم لا يعتبرون أنفسهم من الليبراليين العرب.


مازن عباس – صحفى مصرى مقيم فى موسكو 2-11-2004