كلما يقترب الإسلام المعتدل الأصيل، من الآخر المتعصب، يرتعد هذا المتعصب، ويبتعد أكثر من الحوار معه، ذاهباً الى من سمى نفسه اسلامي، وهو متعصب مثله، ليسقط افكار الدخيل على الأصيل. وكلما اقترب من الواقع، ومدّ يد الحوار، هرب منه أعداؤه، وراحوا يلتفون ويبحثون عن طرق ملتوية، والنبش في خزعبلات صدرت من جهلة حسبوا عليه ، توارثها الكثيرون، عبر التأريخإلى اليوم. فهم يرفضونه، ويرفضون حواره. لأنهم يغشوه، ويغشون قوة الحجة والدليل لدى الإسلام المحمدي الأصيل، فيتحججون بالدخيل.
فالدكتور مفيد المسوح، لاأعرفه ولا أعرف جنسيته، ولا دينه، لكنني قارئ جيد لمقالاته ومداخلاته، لاسيما في الوضع العراقي. كما أنني لم أعرف توجهه الفكري أو العقائدي، والسياسي، ولو أنه يبدو ماركسي الفكر.
كتب الدكتور مفيد المسوح على (إيلاف ) في 7/14/2004مقال تحت عنوان(تحزيب الأديان عملٌ رجعيٌّ معادٍ للتطور.) وهذا اسلوب مجحف وظالم للدين، وبحاجة الى أدلة كثيرة تضفي على الموضوع علميته. لأنه لايتناسق والوضع العام، الذي يجري على الساحة العالمية اليوم، من تجاذبات بين الغرب والدين الإسلامي، وهو بالتالي يصب في خانة أعداء الإسلام .
فترى الدكتور ودون أدنى دليل أو حجة، بل وبعيداً عن البحث المنهجي العلمي، الذي يتطلبه الموضوع المطروح بسبب حساسيته، ولكون الدكتور أكاديمي. ولا أدري ما يقصد (بالتطور وبالرجعي). فإن كان يقصد بقدم الدين فهذه كارثة ثقافية بحق البحث العلمي، وإن كان يقصد بالتطور ترك الماضي والغوص في أعماق الحاضر، وبهذا ينسى أو يتناسى أن الحاضر هو نتاج الماضي، وأن أساس الماضي هو الدين، سواء كان دين الطقوس الذي دفع الغرب بالتفكير للبحث عن البديل الجديد، أو دين الفكر الذي يمثله الإسلام، وهذا هو مصدر أغلب الأفكار سواء كانت الرأسمالية، أو الإشتراكية. فهو ظلمٌ للعمل ومنهجيته بالتعاطي مع هكذا مواضيع حساسة، تمتلك مساحة واسعة من معتنقي الفكر الديني وبالأخص الإسلامي. فهو يسعى وبجهد مفرط، للوقوف بوجه إبداع الفكر الديني المتطور، والمتجدد. والساعي الى اللحاق بالفكر العالمي، الذي هو نتاج لهذا الدين، بدليل ما يحفظه لنا التأريخ، الذي يؤكد بأن الكثير من مفكري العالم العلمانيين، أخذوا من الفكر الديني ، لاسيما الإسلامي وقولبوا افكارهم وفق ما يتصورون من كتابة أفكار جديدة تساعد الإنسان، العيش بحياة حرة كريمة، بطريقة تتجاوز الروح والنفس البشرية التي هي مقياس التطور، وأساس الإنتقال من الخير الى الشر. وبهذا تصبح الأفكار غير ذات جدوى إن هي أهملت الروح مهما كانت عظمتها.
وهناك صنفان من المفكرين، فمنهم من أعجب بالفكر الديني الأسلامي واستعان به،وأخذ منه المناس لرؤيته. وقسم درسه دراسة وافية وغاص في أعماقه ليخترقه ويهده من الداخل ثم يقولبه بقالب الجمود، بدافع فصله عن الحياة العامة وحصره في مجموعة من الطقوس الخاصة بالفرد،وتجميده تمهيداً لحشره بين الأديان الطقوسية، وهذا ما يسعى اليه الدكتور. دون مراعاة لشعور الأحزاب الإسلامية التقدمية، وإن كانت قليلة جداً قياساً بمساحة الإسلام وعظمة فكره. فالفكر العالمي العلماني مؤدلج للتكنلوجيا، وواضع للإنسان بالدرجة الثانية بعدها ،أو مساوياً لها. ومن يقول عكس ذلك فهو جاهل بالتاريخ، أو متجاهل له.
حيث أن الأنسان هو صانع للتكنلوجيا والتأريخ، ومتحكم بها، وليس العكس. وفي تفسيرالحياة وترابطها، فالإنسان هو أس الحياة. فهو العقل المطور، وهو الآلة المنفذة لهذا التطور، وهو المقدم وهو المؤخر، وهو المدمر، وهو الباني. كل هذا يأتي من طبيعة التعامل مع عقله، وروحه ونفسه،من خلال طريقة التربية، في صقل المواهب، والتأثير على جنبة الخير في داخله. أو إرجاعه الى الوراء، بالتأثير على جنبة الشر في داخله أيضاً. علما أننا نتفق بأن النفس البشرية تحمل الضدين ، الخير والشر . وهذا ما صرح به القرآن الكريم، وما اثبته علماء النفس والإجتماع العلمانيين، من خلال تجاربهم التي أجريت على الإنسان، وبحوثهم الميدانية عبر قرون.
ومن هنا لايمكن أن نرفض فكراً، مهما كان هذا الفكر، بناءً على ممارسة معتنقيه. فهناك بون شاسع بين النظرية والتطبيق، لاسيما إذا اختلف المنظر للفكر، والمطبق له. ففي الإسلام وحسب المعتقد الإسلامي، أن واضع الفكر، ومنزله على البشر، هو الله سبحانه، الحق المطلق، العارف بدقائق النفس البشرية وحاجتها. أما المنفذ والمطبق له هو الإنسان، الجاهل بأبسط أمور نفسه لولا العلم المكتسب. وهناك فرق كبير بين الخالق المبدع، والمخلوق المتلقي. تماما كما في الماركسية، مع الفارق الكبير بين الإثنين. فماركس هو الفيلسوف والمفكر والمبدع للفكر الإشتراكي ، أما المطبقين له هم مجموعة من البشر آمنوا به، فقسم طوّره وأبدع في تطويره وتطبيقه، والأعم الأغلب طبّقه كممارسة يومية، وأشرف على تطبيقه. فإن أخطأت المجموعة البشرية في تطبيقه، وأعطت النتائج العكسية، لايمكن تحميلها للفكر أو المفكر. تماما كما في الإسلام، بل تراه في الإسلام أكثر وضوحاً .
فالإسلام والقارئ لتأريخه، يعرف أن الفكر الإسلامي استغل من أعدائه، وبشكل واضح وفاضح ومخيف، وفسر وفقاً للإرادات والأهواء، فبعد أن عجزوا من إسقاطه اخترقوه. وعلى أثر ذلك تشعبت فرق ومذاهب، منها بالقوة والإجبار، فأساءت للإسلام، ليس كفكر لصالح البشرية بل كدين للنفس الإنسانية أيضاً. وأقصد هنا بفرعيه العبادات والمعاملات. بحيث أعطى النتائج المعاكسة لما أراده منه رب العزة والجلالة. فالتأريخ الإسلامي مليء بالمؤامرات وقطع الرؤوس. ومن أسس لهذه الثقافة التي تتنافى وتتعارض مع روح وفكر الدين الأسلامي، لم يكن هدفهم تطوير الدين، بقدر ما كان توظيفه وجعله يتماشى وأهواء خاصة، فرضت بالقوة والبطش على المجتمع الذي أخضعوه لتفسيراتهم المضرة بالدين ومحتواه، والتأريخ مليء بهذه الحقائق.
والواضح من عنوان المقال أن الدكتور لايفقه من الدين الإسلامي شيء، أو أنه ساوى بين الأديان عموماً،أي بين دين الطقوس ودين الفكر. أو هو مدرك لكل شيء لكنه أراد لي عنق الحقيقة. وقد يكون معتقده غير الإسلام. فالعنوان واضح الهدف، حيث تجده متطابق مع المضمون من حيث الغاية، التي هي ضرب الإسلام، لامناقشة فكرة تحزب الدين، ممكنة أو غير ممكنة. وهنا يقتضي مناقشة حيثيات الدين المعني بامكانية الصيرورة للتحزب من عدمها. ولابد من التفريق بين دين الطقوس، ودين الفكر. وبين دين التأمل، ودين العقيدة،ودين الظاهرة، ودين الحقيقة، ودين الغيب، ودين الغيب والشهادة. وبعد إثبات المعنى الحقيقي للدين يصار الى الخوض في إمكانية تحزبه من عدمها.
فالدين الإسلامي هو منهاج الهي لإدراك الحياة، فهو حركة في المجتمع وليس طقوساً جامدة، تخص الفرد المؤدي لها، وهي ولم تكن محصورة بينه وبين من يعتقد. والحزب الإسلامي هو وسيلة وليس غاية، كما في طقوس الديانات الأخرى. وعقيدته تشمل البشر جميعاً، ولاتقتصر على المسلمين وحسب. فهو مجموعة قوانين عامة في مختلف أوجه الحياة، أي هو منهج حياة. في الإجتماع، هو تنظيم حياة المسلمين فيما بينهم، وما بينهم وبين الأديان والمعتقدات والمجتمعات الأخرى. وهواقتصاد، وله نظرياته بالثروة وتوزيعها، والعمل والعامل وحقوقه، والسياسة العامة والعلاقات الدولية. كما له الى جانب هذا كله، عباداته الخاصة التي تشحذ همم المسلمين، وتهذب روحهم لتضعهم على الطريق الصحيح، في مجال تطبيق جانب العلاقات في المجتمع، والإقتصاد والعلاقات الدولية، والإعمار والتعليم، وغيرها. مما يشمل حياة الناس كافة، مسلمين وغير مسلمين.
وليس بالضرورة فرض مجموعة العبادات، من صوم وصلاة، وحج وزكاة. هذه الفروض التي تهذب النفوس وتنقذها من أدرانها، إن هي تركت للمزاج، وتأخذ بيدها الى طريق الخير، إن هي التزمت وفق المنهج الروحي للإسلام. فهذه قد تكون مواصفات، وهوية المنتمي الى الحزب الإسلامي الذي يعتبر، بل يجب أن يكون، الصفوة والطليعة في المجتمع الإسلامي ، التي تجتهد وتبذل الطاقة لفهم كنه الدين وأصوله، وتجهد لتطبيقة في الواقع. ومن ثم تنوير المجتمع المسلم به، وبناء علاقاته بينه وبين المجتمعات غير الإسلامية، سواء كان ضمن المجتمع الواحد أو شعوب الأرض كافة.
ويبدو أن هذا الجانب من الدين ــ العبادات ــ هو الذي يدفع الآخرين لتعقيد مسألة تحزب الدين والدعوة الى فصله عن السياسة. فالحزب الديني هو الضمان الأكيد لفهم الدين، ورسم آليات تطبيقه بما ينفع الناس بالحوار والمشاركة السياسية ، وليس بالشكل القسري الإقصائي، الذي تمارسه بعض الفصائل المتطرفة، والتي تمتلك مظهر التدين، وتفتقد لأبسط جواهره، التي تعم البشرية جمعاء. وإلا فما معنى أن يكون الدين إراهاباً، أو أن يكون سيفاً مسلطاً على رقاب الآخرين.
والحزب الإسلامي كذلك منفتح على العالم كله وليس على مجتمعه فقط، فهو لايقدس الفكرة، بقدر تقديسه تطويرها وفق المستجدات الحديثة، لتطبيقها في كل المجالات. وله نظرته الثاقبة في حقوق البشر، باختلاف ألوانهم وعقائدهم وأعراقهم، ودون ظلم لأحد. وهو لايمارس دعوته بالقوة والفرض على الآخرين، حيث أنه (لاإكراه في الدين). ولكنه يحافظ على حقه في تنوير المجتمع من عواقب الأمور التي ينهى عنها الدين، بالحكمة والموعظة الحسنة. والحوار الحضاري الجاد. فعندما يقول جل جلاله ( وجادلهم بالتي هي أحسن) الحسن هنا للجميع لتبيان الحق من الباطل بالحجة والدليل، وليس بالتهريج والتطبيل. فهو ــ أي الحزب الإسلامي ــ ملتزم بعدم بخس الناس حقوقهم إمتثالاً للآية الكريمة ( ولاتبخسوا الناس أشيائهم ) وواضح هنا عندما يشير القرآن الكريم للناس، أي أنه يعني كل بني البشر حتى أنبيائه عليهم السلام. فعندما سئل الحسين الشهيد عليه السلام ( أيهما أكثر عدداً ، الناس أم بني آدم؟ فأجاب بالناس أكثر، لأن بني آدم يستثني آدم وحواء ، أما الناس يشمل حتى آدم (ع) وحواء. والمحافظة على حقوق الناس قانون الهي ثابت لايمكن المساس به.
فالدكتور عندما بدأ في مقاله بالديانة المسيحية في أوروبا بالذات، كانت بداية صحيحة، إلا أنه سرعان ما أسقطها على الإسلام متجاهلاً للفرق الشاسع بين الديانتين . فكان فكره ماركسي رجعي يرفض التطور، ويلتزم باجتثاث الآخر وإن سعى هذا الآخر الى تطوير نفسه، لأن الرجعية هي العودة الى أ ساليب بالية وقديمة، التي تجعل من الإنسان آلة أكثر منه عقل. ففي الوقت التي بدأت المسيحية تطفر طفرات رهيبة بالأصولية التي تلغي الآخر، بل قسم منها تصفين، يطلق الدكتور صيحته المميتة على الإسلام لإفراغه من حضاريته في الفكر، وإنسانيته في الهدف، وحنوه على الإنسان ورفاهه، دون إحراج أو ممارسة للفرض. أما إذا أراد الدكتور صبغ الإسلام بارهابية المنحرفين، فالإنحراف زامن حياة المسلمين منذ نزول الرسالة، وقد أصاب المسلمين الحيف منهم أكثر من غيرهم. والمحرفون توارثوها أباً عن جد، وهم لايمثلون إلا مجموعة جهلة، تأثرت بحركات سياسية استغلت الإسلام عبر التأريخ. أو صممت غربياً بعد اتساع حركة التبشير . وهنا على الباحث المتتبع، أن يتبع منهجية سليمة في بحثه، حتى يصيب كبد الحقيقة، وإلا فلا يرمي الكلام على عواهنه، فيخسر نفسه ويخسر المجتمع الذي هو فيه.
وتأسيساً على ما تقدم نجد الحزب الإسلامي أكثر تطوراً وصدقاً لما يطرح من أفكار. من حيث أنه الوحيد الذي يؤمن بالآخرة ، وبذلك هو يعمل بإخلاص لإنقاذ البشرية ليس سعياً لتحقيق أهدافاً دنيوية، بل للفوز بالجنة التي خلقها الله سبحانه، جزاء لأعماله الصالحة التي مارسها الإنسان في حياته ، والتي هي بالضرورة لابد أن تمس رفاه الإنسان وتقدمه، ونشر المحبة والسلام بين شعوبه المنتشرة على وجه المعمورة. والحزب الإسلامي يكون صمام الأمان للسلام العالمي إن أحسن فهم الشريعة وأجاد تطبيقها في الواقع. لأنه الوحيد بين جميع الأحزاب ولاءه لله فهو يحول هذا الولاء عملاً صالحاً يفيد البشرية . وهو ليس نخبة تدور حول نفسها بل هو حركة في المجتمع، وعطاء دائم له. وهو أيضاً يمتلك القدرة على تحمل الآخر لأنه يمتلك لثالوثه المقدس في العمل والذي هو ( إذا وعد وفى،وإذا نطق صدق، وإذا ائتمن أدى الأمانة) .
أما الأحزاب العلمانية فهي متقلبة الأهداف، وفقاً للواقع إن اقتضى الأمر ذلك. وميكافيلية السلوك في استحصال الحقوق التي قد تكون في أصلها باطلة. فهي تسوغ لنفسها الكذب لتحقيق الهدف، والقتل لكسب سياسي ما، أو تغيير واقع يسير بالضد من مصالحها الآنية. وهي التي تقول ليس هناك عداوة دائمة ولاصداقة دائمة، بل هناك مصالح دائمة. وهذا ما يتنافى وفطرة البشر، ومصالحه العامة. لذا نجد التفاوت بين الشعوب، والتقسيم الظالم للثروة بينها.
لهذا وذاك، لابد للفكر الديني من أن يسود، ليعم العدل كل العالم، ويعيش الناس بسلام ومحبة. ولكن، بالتي هي أحسن، وليس بالذبح والإرهاب، والتفنن بالجريمة باسم الدين، ومصادرة حقوق الآخرين بعد تكفيرهم. ولا على طريقة البعثيين، من ليس معي فهو ضدي، أو نفذ ثم ناقش، حتى تحولت نفذ ولا تناقش، فحولوا البشر الى قطيع من التابعين والأذناب والمرتزقة. ولا على طريقة بعض اليسار المتطرف، بتقسيم المجتمع بساطين ، تقدمي الذي يمثلونه، ورجعي المخالف لهم بالفكر، لكي يكفرونه مثل تكفير الإسلامويين لمن يخالفهم. ولا على الطريقة الغربية بكل أحزابها، ممارسة الحياة بنظرة التعالي على الآخر، ومساواة المدنية بالحضارة، والحضارة، هي تمثل الإبداع الخلاق للإنسان بإنسانيته وضميره، وتجسيد جانب الخير فيها، وهذا ما يمثل الجانب الروحي في الإسلام. والمدنية تمثل تفجر عبقريته في الابتكار بذهنه وعقله، وبدون تزاوج الإثنين، تبقى المدنية سلاح الجبناء على الضعفاء الأخيار. وتبقى الحضارة، مجرد كلمة تجتر لتوظيف المدنية في ضرب الشعوب، ومصادرة ثرواتها وحقوقها. وإفراغ افكارهم من المساواة بين شعوب الأرض، باسلوب منافق. فهم يقولون عكس ما يبطنون، حتى قسّموا العالم الى عوالم، عالم أول و عالم ثانٍ وعالم ثالث. فالإسلام وحده الذي يساوي بين البشر، كل البشر في عقيدته. وهو واضح في فكره، وليس في ممارسة من اعتنقه رغبة ورهبة،وأساء فهمه، فدمره وأشعل عليه الحرب من أعدائه.