ما يحز في النفس من ألم ان الانسان يجد نفسه مذهولاً وهو يتجول في مدن العراق وبخاصة الاحياء الشعبية الفقيرة

لو تمعنا في الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي صدر بموجب قرار الجمعية العامة للامم المتحدة في 10 / كانون الاول / 1948 لوجدنا كيف تؤكد بنوده على حماية الانسان والجماعة من ظلم وتسلط وجبروت الانسان نفسه، ففي كل بند يشرح اسباب الحماية لكي يتمتع كل انسان بجميع الحقوق والحريات التي ذكرها الاعلان ويحذر من التجاوزات غير القانونية وتلك القوانين التي تصدرها السلطات القمعية غير المنتخبة بشكل ديمقراطي على حرية الفرد.. ولو تمعنا جيداً في المادة 25 من الاعلان لوجدنا كيف يسهر الاعلان على حق الانسان في حماية نفسه وحقه في العيش الكريم وكذلك اسرته، لكن هذا الانسان وبخاصة الذي يجد نفسه فوق الحقوق وفوق الناس وفوق الطبيعة ولا يعترف بالواجبات يطغى بعدما يتصدر المسؤولية ويخرب ويدمر من حوله في سبيل تحقيق مصالحه الانانية الضيقة ولا ينتبه الى الطبيعة التي تحيط به والبيئة التي يعيش فيها..
من هذه المقدمة البسيطة نريد الدخول في موضوعة مهمة وملحة في الوقت الحاضر، لأنها لا تقل أهمية عن العديد من القضايا الملحة التي يجب العمل على انجازها عن طريق برنامج حيّ وعملي يشترك فيه المسؤولين عن الادارات والوزارات وصولاً الى رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية وقطاعات الشعب الواسعة التي من مصلحتها انجازها، وهي البيئة والاضرار التي الحقت بها نتيجة للسياسة الخاطئة التي انتهجتها سلطة البعثفاشي، فكانت الحروب الخارجية والحروب الداخلية واستعمال الاسلحة المحرمة دولياً التي ساهمت في القضاء على آلاف الهكتارات من الاراضي الصالحة للزراعة، وحرق الغابات والاشجار مما ادى إلى خسارة العراق مئات الالاف من النخيل في الجنوب والاشجار المثمرة في كردستان العراق وكما جرى تملح الاراضي الذي يقدر بــ ( 65%) من الاراضي الزراعية، ثم الاهمال المتعمد لمناطق واسعة من البلاد وعدم وضعها في برامج السلطة لأسباب مواقف هذه المناطق من السلطة نفسها وعدم الاهتمام بالاراضي الزراعية واهمالها و بالانهار والمحاولات المعروفة لتجفيف الاهوار وما تركه من اضرار بالبيئة العراقية التي تعتبر من القضايا الاساسية التي تخصها وغيرها من القضايا ذات الصلة بقضايا البيئة ومهمة الحفاظ عليها من الدمار والتلوث، ولا يتحمل المسؤولية رأس السلطة صدام حسين واركان قيادته كمشرعين للقوانين ولسياسة البلاد فحسب وانما ايضاً اكثرية الموظفين الكبار في الصف الثاني والثالث حتى اصغر موظف في الدولة الذين كانوا يتفننون في التنفيذ والايذاء وكأن الامر لا يهمهم كمواطنين عراقيين عليهم الحفاظ على الطبيعة والبيئة العراقية.
ولا نغالي اذا نقول ان 90% من الذين يتصدرون مواقع متقدمة في السلطة القمعية يساهمون بشكل مباشر وغير مباشر في تدمير الطبيعة وايذاء البيئة من خلال تصرفاتهم واهمالهم لواجباتهم لا بل السكوت على الخراب والدمار الناتجان عن الصناعة ورمي النفايات والمياه الثقيلة وعدم متابعة وسائط النقل وغيرها من الافات التي خلقها الانسان للتمتع بها لكن في الوقت نفسه تقوم بتدمير الطبيعة وتلويث البيئة التي تحيط به، على الرغم من معرفته الأكيدة بمضار هذا التلوث والدمار على صحته وعائلته وعموم الناس..
خلال 35 عاماً على سلطة حزب البعثفاشي في العراق لم ينجو من تدميره وخرابه واذيته ليس الانسان فحسب وانما الطبيعة العراقية والبيئة التي يتعايش الشعب العراقي معها، وما يحز في النفس من ألم ان الانسان يجد نفسه في حالة ذهول تام وهو يتجول في مدن العراق وبخاصة الاحياء الشعبية الفقيرة التي تعيش حالة البؤس والفاقة في بيوت تشبه زرائب للحيوانات يتكدسون في غرفها كما يتكدس الدجاج في القن المعد له، الامراض تأكل اجسادهم كبيرهم او صغيرهم، النفايات والاوساخ والمزابل والمياه الثقيلة منتشرة حول مساكنهم ومناطقهم الشعبية، ملايين الحشرات من البعوض والذباب والبق وانواع اخرى تتاقسم معهم حياتهم وكأنها قدراً يلازمهم لا يمكن التخلص منه.. البطالة والفقر والاملاق اضافة للاضطراب الامني والتفجيرات والاغتيالات وغيرها من الاعمال الارهابية التي لا تبالي بحياة الناس..
الذهول ينتقل الى قضية غاية في الاهمية وهي البيئة المحيطة بالانسان العراقي نفسه، وكذلك الدمار والخراب والاهمال الذي يواصل مسيرته دون توقف بمصادر الطبيعية..
لقد انتبه العالم منذ فترة غير قصيرة الى ما يجري من خروقات واعمال تخريبية ووحشية ضد الطبيعة والبيئة وبدأ الناس يشاهدون ويلمسون مدى الاضرار الكبيرة التي تلحق بهما على حد سواء بسبب السياسة غير المسؤولة المبنية على المصالح والربح التي تهدف ليس استغلال الانسان فحسب وانما كلما تستطيع الوصول اليه.. هذه السياسة الرعناء غير المسؤولة الحقت بالطبيعة و بالبيئة الانسانية اضراراً متنوعة وصولاً الى حالة الاضرار التي الحقتها بطبقة الاوزون ومخاطره على المخلوقات في الكرة الارضية.
ان الاحساس بالخطر ادى بالضرورة الى إقامة العشرات من الجمعيات والمؤسسات والاحزاب التي واجهت هذه السياسة بالدفاع عن الطبيعة والنضال من أجل بيئة نظيفة خالية من التلوث الناتج عن التجارب النووية واستعمال المواد الكيمياوية في التصنيع العسكري وما تخلفه المعامل والصناعات ووسائط النقل والاهمال المتعمد بقضايا النظافة وتحسين شروطها الصحية كما انها بدأت بوضع خطط اصلاحية في برامجها الخاصة
و العامة لكي تكون على بينة وقريبة من هذه القضية المهمة وبالتالي مراقبة سياسة الدولة والقطاع الرأسمالي الكبير المستغل فيما يخص الاهدار والاضرار التي تلحق بالبيئة بسبب التلوث الذي يصيب مرافق الطبيعة من البحار والانهار والغابات والاراضي وقضايا التوث الصناعي وعموم وسائل النقل التي تساهم في تلويث الجو المحيط بالارض عموماً وبمحيط الانسان خاصة..
الحديث عن هذه الاضرار متشعب وكبير ولهذا نجد من الضروري ان تتنبه منظمات المجتمع المدني الناشئة في العراق وكذلك الاحزاب السياسية وجمعيات الدفاع عن البيئة وحماية الطبيعة الى خطورة المرحلة الحالية والعمل الجاد للتصدى لها من خلال وضعها في مقدمة اهتماماتهم البرنامجية وتبصير الحكومة وارشادها لكي تعمل جادة في التخلص منها وباسرع وقت ممكن، ولا يكفي توكيل احدى الوزارات او الدوائر بهذه المهمة لأن اليد الواحدة لا تستطيع التصفيق بل اعتبارها مهمة مركزية لجميع الوزارات والدوائر الرسمية الحكومية والاهلية والزام صناعات القطاع العام والخاص والورشات الميكانيكية وكل من له صلة بالتنظيم الصناعي التقيد بالحفاظ على البيئة وتصفية التراكمات الصناعية والابخرة التي تصدرها هذه المعامل الصناعية.. مع وضع سياسة توضيحية بمدى مضار تلوث البيئة على صحة وحياة الناس بدون استثناء حتى تضع المواطنين جميعهم في موقع المسؤولية وترفع من وعيهم بخصوص الحفاظ على نظافة البيئة والتخلص من التلوث الحاصل والمتراكم طوال سنين عديدة، ولتكون البداية من الوحدة السكنية الصغيرة اي البيت ثم الى الشارع الفرعي و العام والمنطقة والمدينة والبلاد برمتها، مع تفاعل المسؤولين وتخصيص ميزانية لهذه الاعمال.. كما ان البدء بعودة الاهوار الى طبيعتها الاولى لا يكفي وانما العمل بالتوجه لكري الانهار وبخاصة دجلة والفرات ونظافتها من المتعلقات التي طغت عليها خلال سنين بسبب الاهمال والاستغلال غير الطبيعي،وانشاء معامل لتصفية مياه المجاري والمياه الثقيلة ومياه المصانع التي تصب في هذين النهرين والانهار الباقية وتشريع قوانين صارمة تجاه كل الذين لا يلتزمون بقرارات الدولة فيما يخص البيئة والطبيعة في العراق. ان تلوث النهرين دجلة والفرات ليس ادعاء صحفي او وجهة نظر او دعاية، فالتلوث اصبح شائعاً معروفاً بسبب سوء استعمال الصناعات ورمي المياه الثقيلة وغيرها فيهما ولهذا تحول النهران من سيء إلى أسوء وباتت مياههما الملوثة تدمر المخلوقات النهرية حتى ان الصيادون بدأوا يشكون من الاسماك ذات الطعم النفطي الغريب، ولقد شرح احدهم في احدى اللقاءات التلفزيونية عن نهر دجلة " ان طعم لحم السمك تحول الى طعم النفط " وهي حالة لم يسبق لهم معرفتها وقد قال ذلك الصياد " ان السبب هو رمي مخلفات الصناعة ومعامل تكرير البترول ودهون السيارات المنتهية منها وغيرها من النفايات الاخرى"
ان 95% من المناطق الشعبية في جميع المدن العراقية تفتقد الى مجاري نظامية وصحية لتصريف المياه المستعملة والثقيلة والكثير من المجاري الموجودة مكشوفة وغير محصنة من الازبال والنفايات وغيرها مما ادى الى اغلاقها او اتخاذها مساراً آخراً حيث تكونت مستنقعات واسعة في الاحياء الشعبية، وبما ان اجور تنظيف المرافق الصحية عالية جداً وبسبب قلة الوعي الصحي راح الكثير من المواطنين يرمون المياه الثقيلة ليلاً في هذه المجاري المكشوفة ذات الروائح الكريهة وما تخلفه من امراض مختلفة ومرتعاً خصباً للذباب والبعوض والحشرات الاخرى.. ان مهمة نظافة الاحياء الشعبية وتأسيس مجاري لصرف المياه الثقيلة وغيرها تقع بالدرجة الاولى على عاتق الحكومة التي يجب ان تسارع في العمل لكي يتخلص المواطن العراقي من هذا التلوث الواسع الذي يقاسمه وعائلته العيش ونتائجه السيئة المضرة بالصحة العامة..
ويبقى الدفاع عن البيئة مطلباً ملحاً في هذه الظروف لان حياة المواطنين لا تقدر بثمن.
ان سنوات الحرب العراقية الايرانية ونتائجها المأساوية ونتائج احتلال الكويت وحرب الخليج الثانية، والحروب الداخلية ضد الشعب الكردي في كردستان العراق وفي الجنوب وسياسة النظام الشمولي المجرمة تجاه الانسان والطبيعة والبيئة في العراق، ثم النتائج المأساوية جراء الحرب الاخيرة واحتلال العراق، وما سببته من تلوث واسع جراء استعمال مختلف الاسلحة بما فيها اليورانيوم المخصب يتطلب الكثير من العمل الجاد لخلق بيئة نظيفة واعادة الاعتبار للطبيعة وموجوداتها القيمة على الارض.
من هذا المنطلق ندعو الحكومة الانتقالية المؤقتة المباشرة بوضع العلاجات السريعة والعمل المتواصل من اجل بيئة نظيفة وتخليص الاحياء السكنية الشعبية الواسعة من واقعها المزري وذلك بانشاء شبكات جديدة من المجاري لتصريف المياه وايجاد معامل للتصفية قبل رميها في الانهار وتخليصهم من مستنقعات المياه المستعملة والثقيلة وغيرها.. اننا ندرك ان ذلك صعباً جداً بسبب الظروف المعقدة التي تمر بها البلاد وبخاصة الاعمال الارهابية والتفجيرات وتدمير وتخريب البنى التحية وعرقلة اعادة البناء لكننا نرى ان البيئة وصحة الناس قضيتين مهمتين متلازمتين لهما نتائج ايجابية إذا مجرى الانتباه لهما وايجاد الخطط الجدية للمعالجة لكي ننقل العراق والشعب العراقي الى بر الامان ثم الاستمرار في عملية البناء التي ستكون حتماً لصالح الجميع.