العراق يعاني، ويعاني العراق، مصطلحان لهما معنيان مختلفان عند أهل النحو والصرف وهذا الاختلاف له تطبيقه على ارض الواقع.
ولنترك النحو إلى أهله وننظر إلى العراق بامسه ويومه واعتقد غده أيضا، فهل هذا العراق يعاني أم القول الثاني يعاني العراق؟.
لاشك أن الحوادث والظروف التي مرت على العراق ولو ضمن فترة التاريخ القريب تؤكد أن العراق يعاني وان معاناته هذه قد تمثل أنموذجا لأنواع المعانات وأشكالها وصورها التي مرت على البشرية جمعاء، بل قد يُمكّننا هذا الفهم إلى القول أن ما عاناه العراق ويعانيه يمثل صورا لتلك الإشكال والصور التي مرت على الأقوام السالفة سواء على الصعد الاجتماعية والامنيه والسياسية والاقتصادية والاخلاقيه والدينية ... الخ من مناحي الحياة.
إلا أن الذي عاناه العراق خلال عقود حكم العبثيين والصداميين والعفلقيين مَثْلَ حالة فريدة من تلك التي اشرنا لها وذلك للمنهج والطريقه التي عمل بها هؤلاء المنحرفون عن أسس الانسانيه المعروفة والمتعارف عليها في تهديم أي بناء وتحطيم أي مرتكز وقلب كل قيمه حسنه إلى سيئة بحيث أن معاولهم وجرائمهم طالت وشملت حتى العلاقات العائلية بين الأب وابنه والرجل وزوجته وغيرها.
واليوم وبعد أن ذهب هؤلاء إلى أقذر مزابل التاريخ، وبعد أن انبرى كل الخيرين والشرفاء من الذين طبختهم هذه المحن وتجرعوها سما زعافا مشمرين عن سواعدهم لبناء العراق وليس أعادة بناءه لان النخر والسوس بلغ إلى أسفل أي أساس في ميادين الحياة كافة. لابد أن نتحدث بشكل مفصل وموسع عن عنواننا أعلاه وبتحديد واضح لما يعانيه البلد وأهله.
وستكون البداية في الإنسان وتكوينه وقيمه وتطلعاته لان الإنسان هو أساس البناء وهو الباني ليكون أخيرا هو المستفيد من هذا البناء.
عاثت يد المجرمين في الإنسان العراقي خلال الفترة الممتدة من 17 تموز 1968 يوم استلامهم الحكم في مسرحية انقلاب تموز 68 وحتى مسرحية تسليم البلد إلى القوات الغازية والمحتلة في حرب عام 2003 ، بل إننا نؤكد ومن شعاراتهم الخبيثة أن ما كانوا يعملون عليه هو الإنسان العراقي فحسب:
{ نكسب الشباب لنضمن المستقبل } { الإنسان هدف الثورة }
وقد حصل فعلا كل ذلك وخصوصا قيامهم بتسميم المناهج التعليمية والدراسية وحصر توجهات الشباب الذين هم الأمل الوضاح للإنسانية جمعاء نحو فكر قومي شمولي منغلق يسلب الإنسان إنسانيته { نفذ ثم ناقش } وذلك خلال الفترة الأولى من حكمهم، ومن ثم تحول الفكر والتوجه والعمل إلى عبادة الإنسان والتأليه له وسحقه بشكل كامل : { إذا قال صدام قال العراق } و { صدام هبة السماء في الزمن الصعب} إلى غير ذلك من الشعارات التي عمل المجرمون البعثيون وبكافة مستوياتهم الحزبية على ترسيخها وخصوصا في شريحة الأطفال والشباب مستخدمين أساليب الترغيب والترهيب وضمن حالة من الخوف والفزع الذي ارتعدت له فرائص كل حر أبي وشمل هذا الفزع كل الفئات ألعمريه .
لقد أدى هذا العمل الإجرامي إلى استحداث قيم اجتماعيه واقتصاديه وسياسية لدى الإنسان العراقي لا توصف بالشذوذ عن القيم الانسانيه السوية بل يتعدى ذلك إلى وصفها بأنها حرب على تلك القيم السامية والقضاء عليها وإحداث قيمهم الاجراميه.
وأنا ألان اكتب وصفا لنفسي وابني وأهلي ومجتمعي الذي عشت معه المحن وأعيش معه ألان الأمل.
لقد أدى الفزع الذي عشناه ومن كل شيء ابتداءا من التحدث بصوت عالي في كل مكان عائليا أو خاصا وانتهاءا إلى الركون والموافقة على تنفيذ أي أمر من أي درجة من درجاتهم الحزبية التي طمس صدام وزمرته شخوصهم وشخصياتهم إلى بهائم لا يعرفون من حياتهم إلا علفهم وإشباع نزواتهم، فكان أن تحولنا إلى الركون لهم ليس لحفظ أنفسنا مطلقا وبدون جدال ولكن لحفظ الاقربين منا إلى درجات رابعة وسابعة في القرب والى غيرها من الحالات التي يمكن للذين عانوا منها نشرها لكي يستطيع الباحثون دراستها واستنباط الفائدة منها بالرغم من كثرتها التي لا تحصى.
ولأنني لست طبيبا نفسانيا ولا إنسانيا، ولكنني أجد الأثر النفسي والجسدي للخوف والفزع على شخصي ونفسي مرورا بعائلتي الصغيرة وصولا إلى المجتمع.
ولأضرب مثلا في نفسي، فقد تصديت إلى عصابة السارقين والمنحرفين والمجرمين في دائرة من دوائر وزارة الصناعة وبوجود الوثائق الكاملة ولا أريد هنا تفصيل الموضوع بقدر ما أريد التأكيد على أن اللجنة المنحرفة أخلاقيا في أساسها والتي يرأسها عميد برئاسة الجمهورية من أهالي ناحية العلم في تكريت وعضوية عقيد امن من أهالي تكريت وموظف من المالية من أهالي الموصل وممثل لديوان الرقابة المالية من أهالي الكوت.
وبعد بيع ضمائرهم جميعا ولمدة سنتين من اللف والدوران على الوثائق الدامغة تم تحويل الوثائق إلى ضبط الإفادات لعدد غير محدد وغير معين من العاملين البسطاء ودفع رشوة إلى عبد حميد حمود بمقدار 200 مليون دينار اشترك في دفعها كل المجرمين وخصوصا التاجر السارق النهائي .
حينذاك تجسد الفزع في أعظم صوره، فكيف يمكن للإنسان البسيط هذا أن يقول الحق وهو يرى أن وزير الصناعة في حينها عدنان العاني هو الذي يرأس العصابة !!! وان عزيز صالح النومان مسؤل تنظيمات المحافظة ومهدي محيبس عكاف مسؤل امن فرع حزب المنحرفين ولواء الأمن كامل البطاط مدير امن المحافظة ومسؤل الرقابة المالية في المحافظة هم ضمن العصابة!!!؟؟؟...
إن استخدام التخويف وإثارة الفزع في نفوس العراقيين خلال ثلاثة عقود أدى إلى أن يحمل العراقيون اخطر مرض نفساني وهو ازدواجية الشخصية لديهم، وهذا ما كنا نفعله ونعيشه ونحسه. وهنا لست في موضع الدفاع بعد أن بانت الحقائق كلها، ولكنها الحقيقة التي يجب أن يعرفها الجميع.
لقد عمل كل الشرفاء في الداخل على حفظ متعلقيهم من الأهل والأقرباء وذلك عندما انصاعوا مرغمين لتنفيذ أوامر أرذل أراذل البشر أمثال النومان وغيره من الذين عبدوا شهواتهم وفروجهم فنفذوا أوامر فرعونهم بالصورة التي أرادوا منها الحصول على رضاه ليس ألا مع ما يحملهم هؤلاء وأمثالهم من أمراض نفسيه واخلاقيه يأبى ويعافها حيوانات الغابات ووحوشها.
أن أي توجه صادق وحقيقي من القائمين ألان بعملية البناء لعراق حر ديمقراطي مستقل، يجب أن يعالج هذا المرض الخطير ويعيد للإنسان العراقي ثقته بنفسه أولا وبعائلته ثانيا وبمجتمعه ثالثا وأخيرا بكل أدوات ومظاهر الدولة والتي رآها العراقي صورة قذرة وبشعة لصدام والصداميين فحمل عليها بمعاول الحقد والكراهية من اجل إزالتها من مخيلته وواقعه، حدث هذا أبان حكم صدام وهو الذي حدث بعيد الاحتلال من نهب وحرق وتهديم للبنايات.
فها نحن هنا نوجه الدعوة إلى المختصين النفسانيين خصوصا والآخرين عموما للقيام بدراسة هذه الظواهر التي أنتجها الفزع وإعطاء الحلول الناجعة لمعالجتها وان يتولى الاختصاصيون كل حسب اختصاصه عملهم في البناء، والمقصود من هذا أن يتجه الاختصاصيون كل إلى اختصاصه ولا ينغمس الجميع في بحر السياسة والخوض فيها فبناء العراق يحتاج ألان إلى اختصاصهم قبل آراءهم السياسية.
وبتوفيق الله سنكمل في حلقات قادمة ما نستطيع وصفه للعراق الذي يعاني.
وهو من وراء القصد.


[email protected]