ذَرّ الكاتب جيمس تراوب الكثير من الرماد في عيون الرأي العام في مقالته الصادرة في 18 يوليو في مجلة "نيويورك تايمز ماجازين" عن طريق وصف دور الإدارة الأمريكية في السودان باعتباره دورا إنسانيا ليس إلا. يجادل تراوب بأن إدارة بوش قد لا تكون راغبة في اتخاذ الإجراءات اللازمة لفرض سياستها الإنسانية على حكومة الخرطوم بخصوص الأزمة في دارفور لأن الإدارة "مشغولة بشكل شديد في قضية العراق بشكل خاص والحرب على الإرهاب بشكل عام". ويضع تراوب الاستنتاج التالي: إن الاتفاقية التي أبرمها كوفي عنان مع حكومة البشير السودانية تلزم السودان بنزع سلاح مليشيا الجنجاويد بشكل فوري، بالإضافة إلى أمور أخرى. "لكن ماذا سنفعل في حال عدم التزام السودانيين بوعودهم؟ عندما رفض الرئيس اليوغسلافي السابق ميلوسوفيتش تطبيق وعود مشابهة، تم قصفه. لكن لدى البشير جميع الأسباب التي تدفعه إلى الاعتقاد بأنه بمأمن من مثل هذا التهديد".

إذا نحينا جانبا ما يدعيه تراوب أن الإدارة الأمريكية ليست مهتمة سوى بقضية المساعدات الإنسانية في غرب السودان، فالسؤال المطروح هو: ماذا تريد الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية تحقيقه في دارفور في حقيقة الأمر؟ الشهادة التي قدمها نائب وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية تشارلس سنايدر أمام الكونجرس في 6 مايو وضحت بما لا يقبل الشك أن الهدف هو خلق الظروف الملائمة لعملية انفصال دارفور عن السودان، مثلما يتم السعي إلى هذا الهدف بنجاح في جنوب السودان. يتوقع مخططو هذه الأهداف أن يتم تشجيع أقاليم أخرى من السودان، مثل المنطقة الشرقية المحاذية لأريتريا (وبعض الأقاليم في دول مجاورة أيضا) على الانفصال، بحيث يتم خلق ما يسميه المنظرون الأنجلوأمريكيون "دولا فاشلة" في كل المنطقة بشكل متعمد.

أن ادعاء تراوب أن إدارة بوش لن تفعل شيئا بخصوص دارفور أمر مضلل. لأن واقع الحال هو أن عملية انفصال الجنوب تم التمهيد لها بممارسة جميع أنواع الضغوط والابتزاز حتى بدون الحاجة لقصف الخرطوم.

إن الوضع الإنساني والصحي في دارفور خاصة في مخيمات اللاجئين المليون سيئ جدا وسيزداد سوءا وخطورة بمجيء موسم الأمطار قريبا. لكن الكارثة ستستخدم سياسيا ضد حكومة السودان التي ستُحَمّل كل اللوم من قبل الولايات المتحدة وحتى أوربا والأمم المتحدة. لكن مهندسي هذه السياسات من بريطانيا والولايات المتحدة هم نفسهم الذين ساندوا الحركة الشعبية لتحرير السودان في سعيهم لفرض حالة شبه انفصال لجنوب السودان عن طريق حركة التمرد، ويبدو اليوم أن المتمردين في دارفور، حتى وإن كانت لدى سكان المنطقة مطالب مشروعة، إلا أنهم يتبعون نفس المسار ويتم دعمهم من الخارج بنفس الطريقة. سيحصل هذا في الوقت الذي تقيد فيه يدا مصر بمشاكل داخلية وتهديدات أمريكية بقانون "محاسبة مصر" وقصص انتهاك حقوق الأقليات فيها. ومما يفاقم جمود مصر الاستراتيجي هي النصائح القادمة من داخل مصر من جيل جديد ينمو في مؤسسات إعلامية واستراتيجية تطالب الحكومة بالمهادنة و "التزام الواقعية" وعدم إغضاب القوى العظمى "بعنتريات قومجية ناصرية".

إن الصورة الجديدة للإمبراطورية الأنجلوأمريكية، كما يطالب بذلك منظرو الجمعية الفابية البريطانية المنتجة لفكر حزب العمل وحكومة توني بلير، هي أنه يجب تنحية قضية أسلحة الدمار الشامل والحرب على الإرهاب جانبا كذريعة لشن الحروب الاستباقية و "تغيير الأنظمة" خاصة بعد الفضائح الكبيرة التي برزت في حرب أفغانستان والعراق، والتوجه نحو التدخل العسكري وتغيير الأنظمة "الفاشلة" كما يقولون "لأسباب إنسانية" وبسبب انتهاكات حقوق الإنسان فيها. ميزة هذه السياسة الجديدة هي أنها (بعد حملات إعلامية واسعة النطاق) يمكنها كسب تعاطف عدد أكبر من الدول والشعوب مع مثل هذا التدخل، وهو ما لم يحصل في حرب العراق. هذا سيصبح أكثر مقبولية من قبل رئيس أمريكي مثل جون كيري (في حال فوزه) ومؤيديه ومن قبل اليسار الأوربي أيضا. كان البعض من هؤلاء مثل عضو حزب العمل آن كلويد (Ann Clwyd) تطالب باستخدام القوة لتغيير نظام الرئيس موجابي في زيمبابوي كاختبار لهذه السياسة الجديدة. ونشرت كلويد مقالة مطولة حول فكرتها هذه في موقع الجمعية الفابية (www.fabian-society.org.uk). لكن يبدو أن السودان قد يصبح حقل التجارب لهذه السياسة بدلا من زيمبابوي.

كاتب في مجلة Executive Intelligence Review