غوص في معانة وظروف إيواء المقيميين غير الشرعيين يفرنسا

شهدت فرنسا في بداية الستينات هجرة مكثفة إلى أراضيها في وقت كانت فيه في أمس الحاجة ليد عاملة مهاجرة، ففتحت ذراعيها للمغاربيين والأفارقة رافعة شعارات "فرنسا أرض من لا أرض له" و"فرنسا أرض الخيرات"، لكن الصدمة النفطية الأولى سنة1974 بمتغيراتها الاجتماعية والاقتصادية ستشكل قطيعة بين زمنين وفرصة لفرنسا وغيرها من الدول الغربية للحد من الهجرة،والتخلص من المقيمين غير الشرعيين بأراضيها،فسنت الحكومة الفرنسية سلسلة من القوانين والإجراءات لعل أبرزها إحداث مراكز في مختلف أنحاء فرنسا لإيواء المهاجرين غير الشرعيين في انتظار النظر في قضاياهم والبت فيها،وطردهم فيما بعد إلى بلدانهم الأصلية، يوجد في فرنسا اليوم ثلاثون مركزا لإيواء المقيمين غير الشرعيين، ويجرى حاليا بناء أزيد من ثلاثين مركزا جديدا لاستيعاب الأعداد الهائلة للمهاجرين غير الشرعيين،ويعد مركز ليكان في ضاحية مدينة ليل(شمال فرنسا) واحدا من أقدم هذه المراكز الثلاثين ويحتضن أزيد من أربعين نزيلا.

كيف تحولت فرنسا من دولة تحمي حقوق الإنسان إلى دولة بوليسية في نظر العديد من المهتمين بالشأن الفرنسي ؟ ماهي الأوضاع القانونية لنزلاء مركز ليكان لإيواء المهاجرين غير الشرعيين؟ ماهي حكاياتهم المأساوية وظروفهم الصحية والنفسية؟ وماهي تحركات الرأي العام والمجتمع المدني الفرنسي في سبيل إيقاف سياسة تشييد العديد من مراكز الإيواء التي تخدش صورة بلد يستمد فكره من عصر الأنوار؟

قدر فرنسا أن تكون أرض استقبال المهاجرين :

يوجد في فرنسا اليوم حسب أرقام رسمية أزيد من خمسة ملايين مهاجر مقيم بصفة قانونية،وفي دراسة أجزها نخبة من أساتذة التاريخ الفرنسي ونشرتها أكاديمية مدينة تولوز بعنوان "الدور الاقتصادي والعسكري للمهاجرين في تاريخ فرنسا الحديث" ندرك المساهمة الفاعلة للمهاجرين المغاربيين ولأفارقة في بعث الاقتصاد الفرنسي من جديد، وتشيد البنى التحتية لفرنسا مابعد الحرب العالمية الثانية، وقد كان للمهاجرين أيضا دور في دعم الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية، من خلال وضع هؤلاء المهاجرين في الخطوط الأمامية لأشد المعارك الطاحنة،لا أحد في فرنسا ينفي الدور الجليل للمهاجرين المغاربيين والأفارقة ومساهمته في بناء فرنسا الحديثة، وبعد أن كانت الحكومة الفرنسية تطبع على جبين المهاجرين قبلات الشكر والتقدير وترصعهم بالأوسمة ونياشين النصر،أصبحت اليوم تراقب تحركات المهاجرين الجدد وتفتش عنهم في القطارات والساحات وشوارع المدن الخلفية، حيث يكفي للشرطة الفرنسية لون شعرك الأسود أوسحنتك السمراء لكي تخضعك لتفتيش دقيق.

جاء ذكر اسم شارل باسكوا وزير الداخلية الفرنسي في حكومة الرئيس الراحل ميتران أواخر الثمانينات، ذكر في فضيحة الكوبونات النفطية، غير أن الرأي العام الفرنسي يتذكر جيدا قانونه الذي وصفته جريدة لوموند بالبوليسي، والذي شدد الخناق على المقيمين غير الشرعيين ومن وتيرة وآلية طردهم،وامتدادا لسياسة الحكومات الفرنسية المتعاقبة حول الهجرة جاء قانون وزير الداخلية الأسبق نيكولا ساركوزي حول الهجرة في 26نونبر2003، والذي عزز من دور مراكز الإيواء ودعا إلى تناسلها من أجل امتصاص أكبر عدد من المهاجريين غير الشرعيين.

ماريان ديبون باحثة في علم الاجتماع في جامعة باريس الخامسة تتسائل "هل أصبح من المفروض على الفرنسيين استقبال فقراء دول الجنوب، إطعامهم، تشغيلهم ورعايتهم اجتماعيا وصحيا ؟ فرنسا اليوم تعيش في ظل مشاكل اقتصادية، وبطالة متفشية علاوة على مشاكل المهاجرين وحيرتهم بين الاندماج في المجتمع الفرنسي أوالمحافظة على تقاليدهم وثقافتهم الأصلية"، تتناسى ماريان ديبون باحثة علم الاجتماع، أن روابط قديمة، ووشائج حزينة تجمع فرنسا بالدول المغاربية والإفريقية، أهمها استعمارها لهذه الدول لسنوات طويلة كمال البورجي طالب بجامعة مارن لافالييه يرى" أن قدر فرنسا هو استقبال المهاجرين الشرعيين وغيرهم إلى أن يتحضر الجنوب أو أن يرث لها الله الأرض و من عليها ".

النسخة الفرنسية من غوانتانمو

" في أواخر السبعينات علم الرأي العام الفرنسي، أن الشرطة الفرنسية تقود جماعة من المغاربيين عنوة من أجل تكديسهم في إحدى السفن المنطلقة من مرفأ مرسيليا، والمتجهة نحو الجزائر، لقد أحدثت هذه الفضيحة رجة داخل المجتمع الفرنسي والنخب الفرنسية،وعلى النقيض من ذلك أصبحت اليوم أخبار طرد المهاجرين تعم وسائل الإعلام الفرنسية، ولا يتفاعل معها من الرأي العام الفرنسي إلا النزر القليل" هكذا وصف أنطوان لوماريك عضو هيئة تحرير صحيفة جهوية تصدر بالضاحية الباريسية انتقال طرد المهاجرين غير الشرعيين من السر إلى العلن،حيث أن الحكومة الفرنسية أوجدت لذلك المصوغات السياسية والقانونية وضمنت بذلك صمت الرأي العام أمام سياسة تدشين مراكز الإيواء عبر مختلف التراب الفرنسي و التي لا يعرف عنها المواطن الفرنسي شيئا.

مدينة ليكان مدينة صغيرة وهادئة، تبعد عن مدينة ليل بكيلومترات معدودة، تعرف مدينة ليكان بمطارها المدني وقربها من الحدود البلجيكية (حوالي 25ميلا)، مطارها و قربها من الحدود جعل دوائر الهجرة الفرنسية تفكر في إنشاء مركز لإيواء المهاجرين غير الشرعيين حتى يجرى التقاطهم بسهولة،وترحيلهم بطريقة أسرع.

من مطار ليكان يبدو مركز إيواء المهاجرين غير الشرعيين كمنزل ريفي كبير ومسيج، هجره سكانه منذ زمن بعيد، تعلوه الأشجار ومحاط بتلال صغيرة، أضوائه خافتة ولا يسمع له صوت ولا ضجيج، الدخول إلى المركز يتطلب منك الإدلاء ببطاقة التعريف وسبب الزيارة الذي رمى بك إليهم، مدة الزيارة لا تتعدى ساعتين تخضع في ثلثها لتفتيش دقيق، ينزع فيه حزامك الجلدي،واستجواب لا يكاد ينتهي حتى يبدأ من جديد، نزلاء المركز يتحدثون لغات متعددة، وعندما تنحبس الألسنة ويستحيل التعبير،يجنح النزلاء نحو لغة الإشارات أو يعودون إلى التعبير بمزج جميع لغات أوروبا في لغة واحدة،العتمة تعشش في أركان المركز وفي مراحيضه النتنة وحماماته المنزوعة الأقفال، ينعم نزلاء المركز بتلفزة صغيرة وقلم حبر جاف، ينتقل بين أصابعهم، وشفرة حلاقة تسلم كعهدة يتم إرجاعها قبل العاشرة صباحا،ويستفيد النزلاء من وجبات تسلم فيها قطعة خبزة واحدة وبعض الجبن الفرنسي ولحم الخنزير وسلطة ذابلة، للنزلاء الحق أيضا في زيارة ممرضة المركز كل صباح، أسرة المركز نظيفة و مرتية بعناية، ربما لأن نزلاؤه يقضون أغلب الوقت في تنظيف حجراتهم، التدخين ممنوع في المركز، ويفتح بابه على رأس كل ساعتين.

لكل نزيل حكايته،منهم من قدم من كوسوفو هروبا من ويلات الحرب،ومنهم من ترك بلدان أوروبا الشرقية والتي لم يحن عليها بعد الاتحاد الأوروبي، ومنهم أيضا أفارقة من بلدان متنوعة، ما يثير الانتباه هو تواجد مغربي واحد فقط بين النزلاء، وجزائريين وكأن للمغاربيين مناعة عدم السقوط في فخاخ الشرطة الفرنسية.

مركز ليكان يشبهه البعض بمعتقل غوانتنامو الألباني" فريد موندري" يرى بأنه يعيش في معتقل تغيب فيه أبسط شروط حقوق الانسان، لا يستطيع التواصل مع الشرطة الفرنسية رغم وجود المترجم، يغيضه الذهاب والإياب لمقابلة القاضي بأصفاد ثقيلة، وإجباره على النوم كل مساء قبل العاشرة "لسنا في حضانة أطفال" هكذا يختم كلامه، وعلى النقيض من ذلك يعتبر" محمد الدوات" جزائري متزوج من فرنسية بدون أوراق ثبوتية أنه يحل في المركز للمرة الثانية خلال هذا العام،يرى "الدوات" أن إقامته في المركز فرصة للهروب من نكد زوجته البدينة،وأعباء الحياة الزوجية،"الدوات" قضى في المركز أحد عشر يوما ربح فيها كيلوغرامات عديدة،ووفر عشرات الأوروات التي كان سيغدقها على حانات مدينة ليل وملاهيها.

يقدم نفسه باسم فرانسوا يغير جنسيته كما يغير ملابسه الداخلية، مرة ليبيري ومرة كامروني، ليفرج عنه في جميع المرات لأن عدم امتلاكك لأي ورقة تعرف بشخصيته يجعله في مأمن من الطرد ولكن مدة إقامته في المركز قد تتجاوز الشهر وهو ما يغيظه كثيرا يقول فرانسوا "من سينفق على زوجتي وطفلي الرضيع وعائلتي بإفريقيا، أتريدون من زوجتي بيع جسدها..."

أفغانستانية تلعن الطالبان، أرملة فيتنامية جميلة،روسي بشعر طويل وقامة فارعة وملابس رثة،مقدوني لم يذق طعم النوم منذ أربعة أيام يقضي يومه جيئة وذهابا بين غرف المركز، روماني أشقر قدم نفسه للشرطة الفرنسية كبرتغالي، بعد أن تم التقاطه م نبحر المانش رفقة جواز مزور بسذاجة،حكايات لا تنتهي، معاناة، و ثغرات قانونية لجهل النزلاء باللغة الفرنسية وعدم إلمامهم بالقانون الفرنسي.

المنظمات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني نقطة الضوء الوحيدة :

من يقدم لك يد العون،

عندما تسمى سعيد أو محمد.

النوم يفارق الجفن،

و سماؤك تصير سجنا إلى الأبد.

مقطع من أغنية فرانسيس كابريل الجملية سعيد ومحمد، والتي أهداها لجميع المهاجرين و الغرباء في فرنسا، من يقدم لك يد العون إن كنت عربيا،أو إفريقيا؟، منظمات حقوقية على رأسها لاسيماد التي تأسست سنة 1939 تساهم مساهمة كبيرة، في توضيح العديد من الحقائق للمقيمين غير الشرعيين، بل وتناصرهم في وقفاتهم الاحتجاجية وقد منحت لاسيماد من طرف القانون الفرنسي سنة 1984 حق متابعة ومقابة نزلاء مراكز الإيواء للمقيمين غير الشرعيين،حيث تملك مكتبا صغيرا في أغلب المراكز يمكنها من الالتقاء بالنزلاء، وتوجيههم قضائيا ومساعدتهم على المستوى الاجتماعي والنفسي، ويشتغل في لاسيماد متطوعون وموظفون يقومون بزيارات دورية لجميع مراكز الإيواء المنتشرة عبر فرنسا.

و تخلد فرنسا في السابع عشر من أبريل من كل عام يوما وطنيا، ضد سياسة مراكز إيواء المقيمين غير الشرعيين،وتقوم العديد من جمعيات المجتمع المدني بوقفات احتجاجية أمام هذه المراكز، وقد تطور الأمر في الشهر الماضي إلى محاولة اعتصام عدد من الفرنسيين في أرض كانت ستستغل لتشييد مركز إيواء جديد في الضاحية الباريسية.

[email protected]