انتشرت في السنوات العشرينات الماضية ظاهرة جديدة على الساحة الإسلامية العربية، هي ظاهرة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وأصبح لها أعلاماً يدافعون عنها، ويضيق صدرهم بأي نقد موجه لها. غير أن واجبنا نحو إسلامنا وأمتنا يمنعنا من الوقوف صامتين أمام هذه الظاهرة. خلال هذه المداخلة سأحاول أن أجيب على السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح عند بدء أي ظاهرة جديدة ما أسباب نشوء هذه الظاهرة ؟ وما أسباب اعتناق الدعاة الجدد لها؟؟ . سيكون مدخل الإجابة من خلال تقديم لمحة موجزة عن تاريخ فلسفة العلم، أي عن الأسس التي يستند إليها العلماء عندما يمارسون عملهم، الأسس التي تعطي العلم تعريفه وصورته وماهيته خلال فترة تاريخية معينة.
سأكتب عن ثلاث مراحل مرت بها فلسفة العلم أثناء تطورها، مرحلة التصور الديني للعلم، ثم مرحلة فلسفة العلم الحديث، ثم مرحلة فلسفة العلم المعاصر.
التصور الديني للعلم:
للوقوف على التصور الديني للعلم نعود إلى المعاجم اللغوية التي تشكلت في الفضاء الديني، استنادا إلى المعجم الوسيط نقرأ أن العلم هو إدراك الأشياء على حقيقتها، بمعنى أن الأشياء وحقائقها موجودة سلفاً، والعلم قوة كاشفة (لا مؤثرة ) مهمتها إلقاء الضوء على هذه الحقائق وكشفها، أي أن التصور
الديني للعلم يعتبر الحقائق العلمية قيمةً ثابتة، معطاة سلفاً و بشكل نهائي، وعلى هذا يكون العلم تابعاً للمعلوم وفقاً للقاعدة الفقهية المعروفة.
الله تعالى ضمن هذا التصور هو من خلق الكون، و قدر حقائقه منذ الأزل. والأحداث تحدث وفق ما قدّر الله لها أن تحدث، لأن الله أقام الكون على النظام، وقدّر كل شيء بقدر، فلا شذوذ ولا صدفة، هذا يعني أن ما يحدث إنما يحدث وفقاً لإرادة الله، وأن المستقبل إذا كان داخلاً في علمه تعالى كان حدوثه بحسب علمه واجباً.
فلسفة العلم الحديث:
استمر هذا التصور الديني للعلم متحكما بالعلم والعلماء حتى حدوث ثورة العلم الحديث على يد كوبر نيكوس وغاليلو ونيوتن ومن عاصرهم من العلماء، ثم جاءت الثورة الفرنسية لتدق المسمار الأخير في نعش تسلط رجال الدين على العلم والنص المقدس. أوروبا كانت ميداناً للعلم الحديث وعلماؤها كانوا فارسين الثورة العلمية، لأن الأمة الإسلامية كانت قد دخلت طورا التقهقر والانحطاط. اعتبرت ثورة العلم الحديث الكون مجالاً مغلقاً على نفسه، مكتفياً بعلله الداخلية، لا يحتاج إلى إله مفارق ليدير أحداثه وعملياته، إنما يقوم بها بواسطة مبدأ أساسي هو الحتمية العلمية، وهو مبدأ يفيد عمومية قوانين
الطبيعة وثباتها واضطرادها، فلا شيء يحدث مصادفة، ولا شيء يتخلف، فكل ظاهرة من ظواهر الكون مقيدة بشروط تجعل حدوثها اضطرارياً، هذا معناه أن الكون منتظم، كل ما يحدث فيه ضروري ذو علاقات ضرورية ثابتة، تجعل كل حدث من أحداثه مشروطاً بما يتقدمه أو يصحبه من أحداث أخرى. الطبيعة وفق هذا التصور لا جواز فيها ولا طفرة ولا معجزة، بل كل ما فيها ضروري، وكل ما يحدث لابد أن يحدث، ويستحيل حدوث سواه، فالحتمية العلمية صارمة لا تستجيب لدعاء الناس، ولا تحابيهم أو تكرههم، ولا يستطيع الناس مهما فعلوا أن يغيروها. بذلك تكون الحتمية العلمية قد فصلت الذات العارفة عن الموضوع فصلاً حاداً، وأحكمت يدها على العلم ومصير الناس.
فلسفة العلم المعاصر:
ظلت الحتمية العلمية مسيطرة على العلم، حيث كان البحث عن قوانين لا تتغير بالنسبة لجميع المشاهدين هو أهم هدف للعلم، حتى جاء أنشتاين حيث جعل مكان الراصد وسرعته معينان أساسيان للطبيعة، فحسب النسبية إذا وقع حادثان في اللحظة نفسها من و جهة نظر مراقب، فإن الحادثين من وجهة نظر مراقب آخر في حالة حركية أخرى يكونان منفصلين عن بعضيهما البعض بفترة زمنية معينة، من هنا كان مفهوم التأني في العلم المعاصر، ويعني استحالة الحكم بأن حادثاً وقع قبل الآخر كما يشترط التفسير العلي. فالأحداث توجد بحيث يكون من الممكن افتراض تتابعها الزمني في الاتجاه المعاكس، مما يناقض التسلسل الزمني الكلاسيكي للأحداث الحتمية في اتجاه واحد غير قابل للارتداد. ففي الفيزياء التقليدية كانت العلية ترتبط ارتباطاً وثيقاً باتجاه الزمن، حيث تكون الحادثة الواقعة في مطلق الماضي علة للحادثة الواقعة في مطلق المستقبل، أما بعد النسبية فقد أدركنا أن الذهن البشري يستطيع إدراك نظم مختلفة للترتيب الزمني، يعتبر النظام الكلاسيكي واحد منها. بعدها تم اكتشاف مبدأ اللاتعين، ويعني استحالة التعيين الدقيق لموضع الإلكترون وسرعته في نفس الوقت لأننا لو أردنا أن نحدد سرعته فلا بد من إثارة الاضطراب في موضعه، وبالتالي فان دقة أحد الجانبين ستكون على حساب دقة الآخر، بسبب تدخل الراصد أثناء تسليط الشعاع على الإلكترون لتحديد موقعه.
ثم جاءت نظرية الكوانتم التي اعتبرت الضوء من طبيعة موجية تارة، ومن طبيعة جسمية تارة أخرى، عكس الافتراض التقليدي الذي يفترض أن الضوء دفق من الجسيمات. اجتمعت هذه النظريات وحطمت الحتمية العلمية معلنة بزوغ فجر العلم المعاصر الذي يعتمد على مبدأ اللاحتمية، فحل الترابط الإحصائي بين الأحداث محل الترابط السببي، والاتجاه المحتمل محل الاتجاه الضروري، واحتمالية الحدث محل حتميته، لم يعد حدوثه ضروريا ولا حدوث غيره مستحيلا، أصبح التنبؤ العلمي أفضل الترجيحات بما سوف يحدث لا كشف عن القدر المحتوم. أصبحت نظريات الاحتمال الأساس المعرفي للعلم، وكل ما تستطيعه الأحداث الملاحظة أن تفعله هو أن تجعل النظرية محتملة، ولكنها لا تجعلها ذات يقين مطلق أبداً، فنفس المقدمات التجريبية للعلم تجعل نتائجه احتمالية لا يقينية، وتم اعتماد المصادفة كمبدأ علمي أصيل، فالكون قائم على اللانظام واللامركز وأحداثه تحدث مصادفةً وبشكل احتمالي وليس حتمي.
هكذا أدخلت النسبية ولأول مرة الذات العارفة كمتغير في معادلة الطبيعة، طبعا إن دخول اللاحتمية في منهاج العلم لا يعني الفوضى، وأخذ حساب الذات العارفة لا يزعزع العلم، لأن النظريات العلمية لها مقاييس نستطيع باستخدامها معرفة النظرية العلمية من غير العلمية، أحد أهم هذه المقاييس هو مقياس
القابلية للتكذيب والاختبار، فعندما يقول لنا أحد ما أن الحديد يتمدد بارتفاع درجة الحرارة فإننا نستطيع أن نأتي بقطعة حديد ونقيس طولها في درجة الحرارة العادية ثم نعرضها لدرجة حرارة عالية ونقيس طولها مرة ثانية، فإذا وجدنا أنه ازداد فهذا يعني أن نظريته صحيحة، أما إذا شذت بعض قطع حديد أو كلها عن هذه النظرية فهذا يعني ضرورة البحث عن نظرية أخرى لها قدرة تفسيرية أكبر. أما إذا قال لنا أحد الدعاة الجدد أننا إذا عملنا صالحا ومارسنا الفروض الدينية وطبقنا الأخلاق الحميدة سنذهب إلى الجنة، ثم ادعى أن كلامه علمي، يكون لزاما عليه أن يدلنا على تجربة علمية نستطيع
من خلالها التحقق من صحة كلامه، وإذا لم يستطع أن يدلنا على تجربة تؤيد وتثبت نظريته، فنتمنى منه أن يصنف نظريته في مجال الروحانيات لا العلم احتراماً للاثنين معاً، ولعقولنا أيضاً.
الآن ما هو المشهد الحاضر على الساحة ؟ : نلاحظ أنه في الوقت الذي تخلى فيه العلم عن الحتمية، واعترف بتأثير الذات العارفة على النظريات
العلمية، نرى بعض المتطفلين على العلم يحاولون استبعاد أي تأثير للذات العارفة، ويفصلونها عن الموضوع فصلاً حاداً، وكأنهم لو اعترفوا بتأثير الذات العارفة على الموضوع يرتكبون بذلك أكبر المحرمات. " وما يزيد الطين بلة " أنهم يستخدمون هذا التكتيك عندما يتحدثون عن أمور ليست من
اختصاص العلم مثل الدين والروحانيات. مثلا عندما يتحدثون ويدعون إلى أحد الأديان يقحمون العلم في حديثهم ويقولون أن إيمانهم بهذا المعتقد قائم على حقائق علمية، ولا تأثير لذو اتهم ورغباتهم على طريقة إيمانهم، كأنهم يخافون أن لا يصدقهم الناس، وهم يثبتون بتبنيهم هذا التكتيك جهلهم لفلسفة العلم
وألف باء أصول الدافع الديني. وبعد أن يتمسحوا بالعلم يعلنون بأعلى صوتهم أنهم مع حرية الاعتقاد وضرورة احترام الآخر المختلف عنهم ليقع في تناقض خطير، لأنهم عندما يقولون أن إيمانهم قائم على حقائق علمية فهذا يعني أن كل من لا يعتقد باعتقادهم الديني يكون إنساناً جاهلاً وغير علمي، ليمسحوا الأرض بادعائهم احترام حرية الاعتقاد واحترام الآخر، سواء أعلنوا ذلك أو أضمروه، لأن هذاالاستنتاج يكون في حكم تحصيل حاصل. انتشر هذا التكتيك كالنار في الهشيم، وتبناه الدعاة الجدد للمذاهب والأديان، زغلول النجار عن الإسلام، و مريم نور ونواف الشبلي عن مذهب وحدة الوجود، مواقع الإنترنت ومنظمة شهود يهوه عن العهدين القديم والحديث، وذلك عملا بالمبدأ القائل " ما حدا أحسن من حدا ". أولئك الدعاة لا يعرفون أن التصور
الديني للعلم قد قطع معه من قبل العلم الحديث أولا، ثم جاء العلم المعاصر ليعزز تلك القطيعة فلم يتبنى أياً من فروعه ( بياني، برهاني، عرفاني كشفي ) لأنها خاضعة لمنطق الفهم الديني للعلم الذي يعتبر حقائق الكون والأشياء موجودة سلفاً، بينما العلم المعاصر يرى الحقيقة نسبية، وهي بنظره بناء
يبنى وليست معطى نهائي مهمتنا الكشف عنه، يترتب على هذا الكلام أن محاولة الجمع بين التصور الديني للعلم والتصور المعاصر للعلم محاولة عقيمة تدل على جهل مدقع بالاثنين معاً. الآن سأحاول الإجابة على السؤال الذي طرح في أول المداخلة، لماذا يتمسح الدعاة الجدد بالعلم:
أظن أن أول الأسباب هو التقدم الصاروخي للعلم وابنته التكنولوجيا في الغرب طبعاً، الذي تجاوز إشكالية الدين / العقل، ويعالج حاليا إشكالية العقل / العلم، بينما نحن لم نتجاوز إشكالية النقل/ العقل، فيحاولون أن يتشبهون بالعلم لظنهم أنهم بهذه الطريقة يدخلون الحضارة من بابها العريض.
السبب الثاني: هو جهلهم لتاريخ تطور فلسفة العلم، خصوصاً فلسفة العلم المعاصر التي لا تعتبر النظريات العلمية نظريات يقينية حتمية الصدق، وإنما تعتبرها ذات احتمالية عالية لإبقاء باب الشك مفتوحاً ضماناً لتقدم العلم، بينما الدعاة الجدد يعتقدون أن العلم يقيني وأنه مازال متوقفاً عند نيوتن وحتميته العلمية، وانطلاقاً من اعتقادهم بيقينية العلم يحاولون إسقاط هذه اليقينية على ادعاءاتهم الروحانية والدينية والمذهبية لتصبح يقينية.
السبب الثالث: هو بعض العلمانيين الذين يتطرفون في طرحهم للعلمانية ويفهمون فلسفة العلم كما يفهمها الدعاة الجدد لكنهم يستخدمونها بالاتجاه المعاكس ليثبتوا أن العلم ينفي وجود الله تعالى والحاجة إليه وللدين، أنا أظن أن كلا الطرفين مخطىء، لأن العلاقة بين الدين والعلم علاقة تكامل وليست علاقة تطابق كما يفهمها الدعاة الجدد، وليست علاقة مفارقة كما يفهمها العلمانيون المتطرفون. ان يحث الناس دائما لطلب العلم والتزود بالمعارف، ولكن لا يلزمه بمنهج معين، الدين لا يحتاج إلى العلم كي ينتشر، لأنه نوع من القبول بدين ينظم لنا علاقتنا مع الله ويحدد لنا موقعنا في هذا الكون. كي يستفيد الإنسان من الاثنين معا عليه أن يستعمل كلا منهما في مجاله الخاص به، وحسب المنطق لذي يحكمه، لأن لكل منهما منطق خاص وآلية عمل مختلفة.
أخيراً:
أقول لأصحاب الإعجاز العلمي في القرآن الكريم: إن المعجزة هي خرق للقانون الطبيعي، هي فعل يتحدى الله الإنسان أن يأتي بمثله، فإن جاء بمثله انتقل من خانة الإعجاز إلى خانة الفعل الإنساني انتفت عنه صفة الإعجاز، ويكونوا بذلك قد ألحقوا الضرر بالإسلام (عن حسن نية ) من حيث لا
يدرون.....

طرطوس
[email protected]