قبل أيام مرّت علينا ذكرى 14 تموز المحزنة و الأليمة حاملةً معها ذكريات ذلك اليوم التي يبدو أن العبر لم تستخلص منها حتى الآن بدليل قطع الحلوى التي وزّعت على المارة و مسيرات الفرح التي أجتاحت بعض شوارع بغداد في ذلك اليوم و التي نظّمها الحزب الشيوعي العراقي و بعض أحزاب اليسار الأخرى منطلقين من نفس الفكر ونفس العقلية و نفس المنظور الآيديولوجي الذي ظننّا بأن اليسار العراقي قد أعاد النظر فيه بعد تجربته السياسية الغنية التي تجاوزت النصف قرن.. و اليوم تحل علينا ( لا أهلناً بها و لا سهلاً ) ذكرى 17 تموز الأكثر حزناً و أيلاماً على قلوب أغلب العراقيين ألا ما رحم ربي لما تحمله لهم من ذكريات مرة لا يزال طعمها عالقاً في ألسنتهم و سيبقى ما بقي الليل و النهار.. فأذا كان أنقلابيوا 14 تموز 1958 قد قاموا بمجزرة أو أثنتين على الأصح أحداهما كانت في صبيحة يوم الأنقلاب بحق العائلة المالكة و الأخرى عام 1959 في مدينتي كركوك و الموصل فأن أنقلابيوا 17 تموز 1968 قد أرتكبوا ما لا يعد و لا يحصى من المجازر سواء بحق شعبهم أو بحق أشقائهم و جيرانهم.. و أذا كان نظام 14 تموز 1958 قد أعاد العراق خطوة أو خطوتين الى الوراء بقرارات أقتصادية و سياسية خاطئة لم يراعى فيها مستقبل البلاد كان الغرض منها ركوب موجة ما كان يسمى حينها بالقوى الثورية و قوى التحرر فأن نظام 17 تموز 1968 أعاد العراق الى ما قبل الثورة الصناعية أي الى العصور الوسطى بقراراته الرعناء و حروبه العبثية و ممارسات أفراده الهمجية و اللامسؤولة و التي يعود سببها الى الأجواء و البيئة التي نشأ فيها أقطاب ذلك النظام حيث السرقة و الجريمة و الضياع و ضحالة الثقافة التي كانوا يحملونها والمبنية على فكرة الشعور بالنقص و آيديولوجيا ألغاء الآخر و تصفيته.
أن البحث في كيفية وصول هذه النماذج من البشر الى سدة الحكم في 17 تموز 1968 يعود بنا الى ما حدث في 14 تموز 1958.. فهذا اليوم أسّسَ لمفهوم أستعمال القوة والسلاح للسيطرة على الحكم و رسِّخ لمبدأ الأستحواذ على السلطة عن طريق السطو و الأنقلاب بعيداً عن الكفاءة و المؤهلات و الخبرة السياسية التي تتطلبها طبيعة العمل السياسي و التي ينبغي توفُّرها في كل من يُفكّر الخوض في عالم السياسة و الوصول الى السلطة.. و بعد هذا التأريخ أصبح لكل من يريد و يرغب و يحلم بالسلطة الحق في الوصول الى أعلى مناصبها بمجرد تمكّنه من أقتحام القصر الملكي أو الرئاسي برفقة مجموعة من الجنود ليعلن بعدها البيان رقم واحد و الذي غالباً ما يكون مليئاً بالشعارات الطنانة و الكلام الفارغ الذي لا يشبع جوعاناً و لا يغني فقيراً.. فلولا ما حصل في 14 تموز ما وصلنا الى نماذج من رجال السلطة كأولائك الذين جاؤوا على ظهر دبابة يوم 17 تموز و الذين لم يكن بالأمكان قلعهم من الحكم و أجتثاثهم من السلطة ألا بأحتلال البلاد كما حدث في 9 نيسان 2..3 لأنهم و ببساطة لم يتعلموا ممن سبقهم على تداول السلطة و نقلها من طرف سياسي لآخر تبعاً لكفائته و خبرته السياسية.. لذا كانت محصلة سنوات الجمهورية و أنقلابات تموز ( المجيدة !! ) هي عودة العراق محتلاً كما كان قبل قرن من الزمن و عودة جنود الأحتلال و دباباته لتسرح و تمرح في شوارعه و كأن دهراً من أعمارنا و أعمار آبائنا و أجدادنا قد ضاع بدون فائدة.. فها نحن اليوم نعود من جديد الى نقطة الصفر التي بدأ منها أجدادنا قبل مئة عام.
أن ما حدث في 14 تموز لم يستند الى مبررات قانونية و لم يتم عبر الطرق السلمية التي تتبعها الدول أو المجتمعات المتحضرة في نقل السلطة من جهة الى أخرى عن طريق الأنتخابات أو تغيير نظام الحكم من شكل الى آخر عبر أستفتاء شعبي و التي أعتمدتها الأحزاب السياسية العلنية أيام المملكة العراقية أسلوباً حضارياً للنضال.. على العكس من ذلك فقد أستندت الأحزاب السياسية السرية و أنقلابيوها على مر العهود الجمهورية في العراق على النظرية الميكافيلية و على مبدأ الشرعية الثورية المبني على الشعارات الفارغة و الطنانة و البعيد عن أي تخطيط أستراتيجي أو برنامج سياسي حقيقي لبناء البلاد و تطويرها و أعتمدتهما أسلوباً لنضالها الغير شرعي للأستحواذ على السلطة من الأخرين.. و بدلاً من أن تنتقل السلطة الى أناس أكثر وعياً و خبرة ممن سبقوهم في النظام السابق سيطرت على الحكم شريحة من ضباط الجيش المحدودي الثقافة و العديمي الخبرة في السياسة و في أدارة شؤون البلاد مدفوعين بجملة من الشعارات الغوغائية التي كانت تسيطر على الشارع آنذاك و بخبرة لابأس بها في أعتلاء ظهر الدبابة و الضغط على زناد الغدارة التي أصبحت بديلاً عن صندوق الأقتراع الذي كان موجوداً في العهد الملكي و الذي أصبح فيما بعد سلواً و تقليعةً يسير عليها كل من يريد القفز على السلطة بدلاً من الكفاءة و الكياسة و الخبرة السياسية التي كان يمتاز بها رجال العهد الملكي.
يقول هاني الفكيكي في كتابه " أوكار الهزيمة " : ( أعتبرنا ظاهرة الأنقلابات العسكرية العربية نتيجة حتمية للتجربة للبرلمانية على النمط الغربي.. و تماشياً مع موضة ذلك الزمان و تقليده الثوري قدّمنا الديمقراطية الشعبية بديلاً عن الديمقراطية البرلمانية و صندوق الأقتراع ).. وهو ما يوضح و بدقة طريقة التفكير و المنهجية التي أتبعها أنقلابيوا 1958 و 1968 لتبرير سَطوهم على السلطة و أستحواذهم على الحكم عن طريق التآمر و أستخدام القوة العسكرية متذرعين بالشرعية الثورية الهمجية و بتفويض الشعب المسكين الذي لم يكن يعي و يعلم أصلاً ما يحاك من ورائه و بأسمه من دسائس و مؤامرات في ثكنات الجيش و الذي كان في غالبيته جاهلاً بالسياسة و كل همه هو توفير لقمة العيش لأبنائه.
و مما يبعث على التساؤل و العجب الشديد هو أن القسوة بل و الهمجية الغير مبررة التي أنتهجها بعض أنقلابيوا 14 تموز من تنظيم الضباط الأحرار مع أفراد العائلة المالكة المسالمين التي تعود بنسبها الى سلالة خير الأنام الرسول محمد (ص) أنقلبت الى تسامح و وداعة مع الكثير من بلطجية الأجهزة الصِدامية لبعض أحزاب تلك الفترة علماً بأن الكثير من هؤلاء الضباط بدئاً بالزعيم قاسم مروراً بعبد السلام عارف و ناجي طالب و صولاً لرفعت الحاج سري كانوا أصحاب حضوة لدى ساسة العهد الملكي و بعضهم كان من المقربين للقصر.. لذا فمن الصعب على المرء الموازنة و التوفيق بين برودة دم الضباط الأحرار عند أقدامهم على تنفيذ جريمتهم النكراء بحق العائلة المالكة و بين الأنسانية التي هبطت عليهم فجأة من السماء عند محاكمتهم لعصابات الأغتيال السياسي.. و في حين حكمت محكمة المهداوي بالأعدام على أنسان مخلص و رجل شريف و نزيه كسعيد القزاز و لم تأخذها به لا شفقة و لا رحمة عَفَت و من باب عفى الله عما سلف عن مجموعة من المجرمين الذين شائت الأقدار السيئة و السوداء أن يكون أحدهم و بعد عقد من الزمان و بالتحديد في 17 تموز 1968 نائباً لرئيس الجمهورية ثم و بعد عقد آخر من الزمان و بالتحديد في 17 تموز 1979 رئيس العراق الحاكم بأمره و الذي أوصل العراق بفعل تهوره و جنونه و دمويته الى ما هو عليه الآن من حالة يرثي لها العدو قبل الصديق.
لذا فأن ما حدث صبيحة 17 تموز 1968 لم يكن صدفة ساقتها الأقدار لشعب العراق بل أنه أمتداد لما حصل صبيحة 14 تموز 1958.. فأنقلابيوا 17 تموز قد ساروا على خطا من سبقهم من أنقلابيوا 14 تموز و 8 شباط ممن أستبدلوا ديمقراطية الأنتخابات بهمجية السطو المسلح للوصول الى السلطة و أسسوا لسلطة القرية و العشيرة بدلاً من دولة المؤسسات و المجتمع المدني و جعلوا من مقدرات الشعوب رهناً بيد من يُحسن أستخدام غدارته و لو كان من سقط المتاع.
و ها هو صباح 14 تموز 2..4 قد عاد علينا و معه الدماء و الآلام و الأحزان مع ذلك التفجير الجبان الذي قام به من يحمل فكر الشرعية الثورية التي قامت على أساسها جميع الأنقلابات العسكرية في العالم و منها أنقلابا 14 و 17 و 3. تموز في العراق ذلك التفجير الذي ذهب ضحيته أناس أبرياء من أهلنا و أحبتنا.. و نسأل الله أن يكفينا و يكفي أهلنا في العراق شَر المخفيات في 17 تموز و 3. تموز 2..4.. و لا أعلم حقيقة ما سر هذا الأصرار على الأحتفال و الأحتفاء بذكريات شهر تموز رغم أنه قد أصبح شؤماً علينا بكل تواريخه سواء كان منها الفردي أو الزوجي.

[email protected]