كان رئيس السلطة الفلسطينية أثناء زياراته للنرويج يقول عن تيري رود لارسن بأنه صديقه، وأكثر من ذلك في أحدى المرات قام بمناداته يا صديقي أمام الكاميرات.. الآن وبعد تصريح نبيل ابو ردينة المستشار الإعلامي للرئيس عرفات، أصبح لارسن شخصا آخر و لم يعد هو نفسه، مما يعني ان الصديق لم يعد صديقا، ولم يعد وجود لارسن مريحا للسلطة الفلسطينية بعد انتقاد الأخير لشخص رئيس السلطة الفلسطينية في تقريره أمام مجلس الأمن الدولي قبل أيام قليلة.

يجب ان نعترف أن للارسن مهمة دولية في شرق المتوسط، وأنه يتحدث باسم الأمين العام للامم المتحدة، فهو موفده هناك، بالإضافة لكونه احد مهندسي اتفاقية اوسلو ، مع زوجته مونا " التي عينت بعد توقيع اتفاقية اوسلو سفيرة للنرويج في تل أبيب وكذلك بعض الأصدقاء من حزب العمال النرويجي، المنقسم في تأييده ومعارضته للفلسطينيين بالتساوي، فنصفه معنا والنصف الآخر علينا، ولارسن يقف بين النصفين.

بعيدا عن مفهوم المؤامرة السائد في الوسط العربي، وقريبا من موضع المشكلة،وإذا ما ركزنا على الفساد والفوضى التي تعيشها السلطة الفلسطينية نتيجة الاحتلال أولا وقبل أي شيء آخر، ثم نتيجة التركيبة الخاطئة لسلطة اوسلو ثانيا، فأنه يجب ان لا يضع كل البيض في سلة لارسن الذي خدم بتقريره شارون وبيرس وحكومة الوحدة الصهيونية المقبلة، وحجب بعض الوهج عن قرار محكمة لاهاي في قضية الجدار، وجاء مرضيا لشارون.

هذا ليس مفاجئا بالنسبة لمن يعرف لارسن، فهو بالنهاية صديق كذلك للصهاينة. ويجب علينا الاعتراف بان أوضاع السلطة الفلسطينية ليست طبيعية ولا حتى نصف طبيعية، بل أوضاع مزرية للغاية، تتطلب التحديث والتطوير والترقيع والتقطيب خاصة في مرحلة صعبة كالتي تمر بها القضية الفلسطينية. لا يوجد فلسطيني يرفض التطوير وإعادة البناء إلا إذا كان منتفعا او لصا؟ و نعتقد أن هناك حاجة فلسطينية ماسة للتطوير والتحديث وللوحدة الوطنية الحقيقية في مركز القيادة، إذ لا يوجد الآن قيادة فلسطينية تمثل خيارات الشعب الفلسطيني، ووجود السلطة الفلسطينية بأركانها الى جانب أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية الذين عفا ومضى عليهم الزمن لا يمثل النسيج الفلسطيني الحقيقي ولا يضمن الوحدة الوطنية الفلسطينية.وأي وحدة مغلوطة ستنجب بضاعة أسوأ من بضاعة اوسلو وشقيقاتها.

ان التوقيت الإسرائيلي لانتقادات لارسن جعله مصدر لعنة له ولمهمته في فلسطين. فالتوقيت سيء للغاية لأنه جاء لخدمة الصهاينة في مرحلة ما بعد قرار محكمة لاهاي حول جدار الفصل العنصري، والذي اعتبر انتصارا فلسطينيا مدويا كان الفلسطينيون بحاجة له. وتقرير لارسن جاء ليساعد الصهاينة في عزلتهم، حيث ان رفضهم لقرار لاهاي حشرهم في زاوية المنبوذين، لأنهم تمسكوا بخرجوهم عن القانون الدولي. وتقرير لارسن يقف في صف اسرائيل، حيث لا يقف معها الآن سوى المتصهينين والمنتفعين. بالإضافة للخارجين عن القانون الدولي كالولايات المتحدة الأمريكية.

موقف لارسن ليس الأول في هذا المضمار ولن يكون الأخير، فالذين مارسوا ضغوطا على المفاوضين الفلسطينيين في مفاوضات اوسلو السرية من اجل ارضاء الطرف الصهيوني، بحسب ما جاء في كتاب الباحثة النرويجية هيلدا هنريكسن فيغى قبل عدة اسابيع، لن يكونوا أمناء في الوساطة ونقل الأخبار من ارض فلسطين المحتلة. لكن سيبقى مسجلا له موقفه الجريء والإنساني أثناء مذبحة مخيم جنين ،فقد وصف لارسن ما حدث هناك بالأعمال البغيضة أخلاقيا والمثيرة للصدمة، مما جعله هدفا للضغوطات الصهيونية، فتعرض لهجوم شخصي عنيف من شارون وأتباعه، وأتهم باللاسامية والوقاحة وفي النهاية أعلن عنه شخصا غير مرغوب به في كيان الصهاينة. طبعا كان لارسن يومها يتحدث بلسان إنسان مصدوم بما رآه من دمار وجثث متعفنة وزلزال دمر أجزاء من المخيم، وكانت صرخته الأولى يا للفظاعة! تدوي بقوة، نسمع صداها كلما شاهدنا صورته على أنقاض مخيم جنين، فالصورة تتحدث عن نفسها. ونذكر كيف قام لارسن تحت التهديد والضغط والحملة الصهيونية عليه بسحب تصريحاته بشأن مذبحة مخيم جنين؟ نعم لقد لحس تصريحاته واعتذر للصهاينة بعدما هددوه بفضائح مالية، وحاولوا الكشف عن المساعدات المالية(122 ألف دولار) تلقاها هو وزوجته من مركز بيرس للسلام(تأسس سنة 1997) بدعم مالي نرويجي، وهنا يجب التذكير بأن جهات نرويجية عديدة ومنها لارسن وزوجته وشبكة اوسلو السرية لعبوا دورا كبيرا في منح جائزة نوبل للسلام لبيرس مناصفة مع عرفات ورابين سنة 1994.

هناك من الفلسطينيين وخاصة أهل اوسلو من يعتبرونه صديقا للفلسطينيين وهذا الكلام سمعته منهم شخصيا أكثر من مرة، ونفس رئيس السلطة الفلسطينية خاطب لارسن أمام وسائل الإعلام في اوسلو يا صديقي ... لكن صداقة لارسن للفلسطينيين لا تعني انه عدو للإسرائيليين، بل على العكس فالرجل صديقهم قبل ان يكون صديق أهل أوسلو من الفلسطينيين ، وصداقته لإسرائيل أقدم وأمتن منها للفلسطينيين، إذ تربطه علاقات حميمة مع شيمون بيرس و داني ياتوم المدير السابق لجهاز الموساد وآخرين.وهو بهذا يتساوى مع سري نسيبة وياسر عبد ربه ودحلان والرجوب وغيرهم، فهؤلاء لهم صداقات صهيونية يعتزوا بها، حتى ان الرئيس عرفات لازال يصف الجنرال رابين بشريكه في سلام الشجعان.. من هنا تتجسد لدينا القناعة بأن أهل اوسلو من الفلسطينيين" الواقعيين" اختاروا تحالفاتهم منذ بدأت مفاوضات اوسلو السرية برعاية لارسن وغيره من النرويجيين وقد لا يتخلوا عنها برضاهم.

أما اليوم وبعد تقرير الأخير في مجلس الامن الدولي حيث قال "أن السلطة الفلسطينية في خطر حقيقي من الانهيار ولا يمكن ان يعزى فقط للغارات والعمليات الإسرائيلية في المدن الفلسطينية" و " ان عرفات قدم مجرد دعم رمزي وجزئي للجهود المصرية لإصلاح أجهزة الأمن الفلسطينية" ووصف لارسن تلك الأجهزة " بالضرورية لوضع نهاية للفوضى في الأراضي الفلسطينية ولاستعادة السلطة الفلسطينية صدقيتها الكاملة كشريك" كما اعتبر لارسن ان "عرفات يتحمل مسئولية هذا النقص في الصدقية و ان احتجازه في رام الله بمقاطعته ليس عذرا لعدم اتخاذ اجراءات".

يبدو ان الرئيس عرفات ضاق ذرعا بلارسن وقرر معاقبته بنفس الطريقة الإسرائيلية التي عوقب بها في سنة جنين الساخنة. حيث ان كلام لارسن هذا كان الصاعقة التي نزلت على رؤوس اركان السلطة الفلسطينية، ومن هنا جاء الرد عنيفا وغير موفق على لسان نبيل ابو ردينة حيث وصف لارسن بالمشبوه والمنحاز والمنافي للحقيقة واعتبره شخصية غير مرغوب فيها في الأراضي الفلسطينية. لكن ابو ردينة لم يتذكر أن الفرق بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني كبير، فالسلطة تعتمد بقوة على الدعم المادي النرويجي،والمشروط باستمرارها في عملية السلام. إذن هل تستطيع سلطة مرتهنة ماديا ان تعاقب الذي ساهم ويساهم في توفير الدعم لها. هنا يجب ان نفكر قليلا... فتيري رود لارسن سياسي نرويجي معروف، ويهم النرويج سمعتها الدولية والسياسية، لذا لن تسمح بالتعرض للارسن خاصة إذا كان التعرض آت من طرف ليس بحجم وقوة كيان إسرائيل.

نعتقد ان قرار السلطة الفلسطينية كان مستعجلا ومرتجلا وغير مدروس.. بالرغم من الألم الذي سببه التعامل الدولي مع قضية الفلسطينيين، حيث ان لارسن قفز فوق مأساتهم لأجل خاطر إسرائيل وأمريكا، وتجاهل الأفعال القبيحة والفظيعة للاحتلال، فقفز بتقريره فوق معاناة شعب فلسطين اليومية بسبب الاحتلال العنصري الدموي، ووضع الضحية مكان القاتل والقاتل مكان الضحية، وصارت قضية فلسطين والمأساة اليومية مسالة فوضى وفساد وعدم رغبة الرئيس عرفات في ضبط الوضع. مما يعني ان للرئيس عرفات أسبابه، ومن تلك الأسباب ما هو شخصي وحركي وإقليمي، فطريقة عمله وقيادته منذ أصبح رئيسا للمنظمة ثم السلطة كانت امتلاك المال لامتلاك الولاء، وبهذه الطريقة استمر ودام في بحر التناقضات الفلسطينية والعربية، حيث كان المال متوفرا مما وفر الموالين كذلك، ولارسن يفهم هذا جيدا، أما الآن فقد اختلفت الأمور وهناك منافسون لعرفات من داخل فتح والسلطة، أي صناعة فتحاوية، وكذلك بعضهم من صنع إسرائيل وأمريكا.لهؤلاء مشاريعهم وأهدافهم ، وهم اصل الفساد والعفن اليومي في مؤسسات السلطة وهم الذين ساهموا في تعميم الفساد والفوضى، ولم يتخلوا حتى اللحظة عن مشاريعهم وأحلامهم ولعبتهم اليومية، حيث لهم أيضا أهدافهم، أما لارسن فهدفه النهائي تحقيق السلام بين الطرفين و نقل الحقيقة، لكنه هذه المرة أخطأ أكثر مما أصاب، حيث انه لم يكن موفقا في اختيار التوقيت كما في إعداد التقرير.

يجب ان نتذكر انه بعدما كان الاحتلال في السابق اعتبر لارسن شخصا غير مرغوب به وقاطعه عاد لاحقا وتعامل معه وكسب بعض التصريحات والمواقف، حيث تراجع لارسن عن موقفه في مخيم جنين. لكن الآن في حال رفض لارسن التراجع عن تقريره ماذا سيكون رد فعل السلطة الفلسطينية التي أعلنت أنه شخصاً غير مرغوب به على أراضيها، كرد على إشارته لوضع السلطة الآيل للانهيار و لمسئولية رئيس السلطة عن عدم تقديم دعم حقيقي لإصلاح أجهزة السلطة؟ مع العلم أن للرجل مواقف احترمت شخص عرفات ودافعت عنه، وللارسن مواقف متوازنة في المسائل العامة، ومنها موقفه من شرعية الرئيس عرفات نفسه، وموقفه الفوري من مذبحة مخيم جنين، كذلك موقفه الذي يفرق بين الإرهاب والكفاح المسلح،ودور الأمم المتحدة في حل الصراع والوجود على الأرض الفلسطينية....رغم كل تلك المواقف والزيارات الدورية التي حرص لارسن على القيام بها لعرفات إلا أن الرئيس الفلسطيني تعامل مع تصريحات الأخير بوصفها تافهة و لا تستحق الرد عليها. الأهم الآن هو تجاوز الأزمة مع الأمم المتحدة، فبقاؤها سيطغى على قضية الجدار، و رفض لارسن التراجع عن تقريره أو فقرات منه، سيزيد من حرج السلطة، عندها ماذا سيكون موقفها، هل ستقاطعه فعلا؟ وإذا قاطعته فهل تعتقد انها الكاسبة من المقاطعة ؟ خاصة ان هكذا موقف مستعجل لن يغير كثيرا، فالسلطة الفلسطينية نفسها مقاطعة من قبل عالم لا يلتقيها كي لا يغضب شارون والقيادة الصهيونية وبوش والإدارة الأمريكية.والسلطة الفلسطينية بحاجة للدعم المادي النرويجي والأوروبي ومن الدول المانحة، وهؤلاء لا يدفعون أي شيء بدون مقابل، وتيري رود لارسن ليس اللواء غازي الجبالي، كي يتم اختطافه أو ارهابه...