يكتسب دور مصر ومكانتها إقليميا ودوليا بعدا خاصا في كل وقت وحين فطبيعة مصر الجغرافية تتميز بخصوصية وفرادة تتميز بها عن غيرها من الدول التي ربما شهدت تغيرات جغرافية وتعددت مسمياتها عبر التاريخ وربما يعود ذلك كما قال جمال حمدان لعبقرية المكان وخصوصية الوضع الجغرافي المصري ولهذا فمهما كانت طبيعة التغيرات التاريخية وعمقها كما هو الحال لما تتعرض له المنطقة حاليا والتي تشير المؤشرات إلى حدوث تغيرات جذرية في المنطقة وخصوصا تغيرات جيوسياسية كما ستشهد ضمور دور بعد الدول وتمدد دور دول أخرى ولا يستبعد المحللون أن تشهد المنطقة تحولات سياسية واقتصادية مهمة في غضون السنوات القادمة وربما تشهد تغيرات جغرافية فستختفي مسميات بعض الدول وتظهر مسميات أخرى جديدة لها كما ستتغير ملامح بعض الدول بالزيادة أو النقصان فالأردن على سبيل المثال مرشحة لزيادة حجمها بصورة أو بأخرى لتضم أكبر قدر من الفلسطينيين الذين سيتم ترحيلهم قسرا من فلسطين حسب المخططات الصهيونية المدعومة أمريكيا وسوف تشهد دولا أخرى تغيرات جوهرية في جغرافيتها عن طريق التقسيم لأكثر من جزء كما هو الشأن المرشح في كل من العراق والسودان وربما المملكة العربية السعودية وهو ما يستدعي تنبها سياسيا واجتماعيا بحيث تتلاحم الشعوب والحكام في تلك البلاد للوقوف ضد هذه المخططات والتصدي لها عن طريق وحدة وإرادة واعية تجمع بين الشعوب وحكوماتها لأن الصراع والصدام بين الشعوب والحكام في هذه البلاد تحت أي مسمى ربما ساعد بشكل أو بأخر على نجاح المخطط الذي يجري تنفيذه على قدم وساق دون وعي حقيقي أو استعداد للتصدي له ومواجهته صحيح أن هذه المخططات ليست بعيدة عن مصر أو دورها في المنطقة باعتبارها الرائدة سياسيا واجتماعيا وثقافيا كما أنها ستؤثر حتما على حجم الدور المصري مستقبلا فتستطيع تحجيمه لبعض الوقت لكنها لن تستطيع تنحيته أو محوه أو إبطاله.
أما عن مقومات الدور المصري إقليميا ودوليا فيمكن الإشارة إليه في مجموعة نقاط على النحو التالي:
-التراكم التاريخي: يقوم الدور المصري إقليميا ودوليا على رصيد حضاري قد يكون فريدا من نوعه في تاريخ الأمم والشعوب وهو ما يمكن تسميته بتراكم الخبرة التاريخية فتاريخ حضارة تمتد لأكثر من سبعة ألاف سنة لا يمكن تجاهله والغريب في الأمر أن هذه الخبرة الحضارية والتاريخية لازمت الشخصية المصرية وانطبعت بها كما لازمت المكان وتعاملت معه فلم تشهد مصر عبر هذا البعد التاريخي تغيرات جغرافية كبيرة يمكن أن نقول أنها أثرت جوهريا في طبيعة مصر الجغرافية وربما نتيجة لهذه الخصوصية المكانية ارتبط المصري منذ أقدم العصور بأرضه ورغم الهجرات التاريخية التي عرفتها الشعوب كان الشعب المصري أقل هذه الشعوب هجرة ومغادرة لأرضه فقد ارتبط بها وارتبطت به فلم تقبل أرض مصر غريبا ولم ترحب به واستطاعت في نهاية الأمر أن تقتلعه فلم تسمح له بمد جذوره ورغم هجرة كثير من المصريين في العصر الحديث لبلاد الشرق والغرب في العصر الحديث نتيجة لأسباب سياسية واقتصادية إلا أن الإنسان المصري يظل مرتبطا بأرضه كثير الحنين إليها يحلم بالعودة إليها والاستقرار فيها بعكس كثير من أبناء الدول الأخرى الذي يهاجر ويستقر وتنقع صلته بوطنه وأصله.
طبيعة الشخصية
-طبيعة الشخصية المصرية: من مقومات الدور المصري إقليميا ودوليا أن الشخصية المصرية تتميز بمجموعة عوامل لازمتها عبر التاريخ ولم تؤثر عليها لحظات التحول التاريخي بحيث طغت على طبيعة هذه الشخصية وأول سمات الشخصية المصرية هي الوسطية فمصر كوسط جغرافي تمثل حلقة ربط بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب تركت هذا الانطباع قويا في شخصية أبنائها فتميزت طبيعة الإنسان المصري منذ القدم بالوسطية والاعتدال ولم يعرف المزاج المصري العنف أو التطرف يمينا أو يسارا وإن حدث فمن بعض الأفراد الذين يمثلون شذوذا واستثناء أو خروجا على القاعدة التي تقوم دائما أبدا على التوسط والاعتدال وهذا هو حال مصر منذ القدم التي عرفت توحيد الإله الواحد وعبرت عن ذلك منذ إخناتون ورفضت هرطقة المسيحية الرومانية ووقفت ضدها وحافظت على جوهر المسيحية السمحة كما جاء بها المسيح عليه السلام كما وقفت الكنيسة المصرية ضد تأليه المسيح في مواجهة الكنائس الرومانية التي ذهبت لتأليهه.
وهو نفس الموقف الذي وقف فيه المصريون في ظل الإسلام من حركات التطرف بكافة أشكالها فحينما جاء المعز لدين الله لفتح مصر على يد قائده جوهر الصقلي وقبل استقرار المعز بأرض مصر وانتقاله إليها من المغرب اشترط عليه المصريون أن يعيش هو وجنوده وأنصاره في مدينة مستقلة وهي القاهرة ولا يخالطوا المصريين لأن المعز وجنوده وأنصاره كانوا يؤمنون بالمذهب الإسماعيلي وهو أحد مذاهب غلاة الشيعة ولا ينسجم مع طبيعة الشخصية المصرية ولا المزاج المصري ولا التربة المصرية وسرعان ما تلاشى المذهب الشيعي من مصر بمجرد انتهاء عصر الفاطميين رغم انه ظل لأكثر من ثلاثة قرون وهو نفس الموقف الذي وقفه الشعب المصري من تيارات العنف الحديثة التي تزيت باسم الإسلام فيما عرف بالجماعات الإسلامية وهي أفكار في معظمها وافدة لاتتلائم مع طبيعة الشخصية المصرية ولا طبيعة الأرض المصرية التي تأبى الغلو والتطرف أيا كان طبيعته ومصدره وهنا نلاحظ أن الشخصية المصرية لم تشهد تغيرات جذرية رغم طول التاريخ وتراكم العصور والعهود وكثرة الوافد عليها من الشرق والغرب ومن الشمال والجنوب وذلك لأن الشخصية المصرية كانت دائمة قادرة على الحفاظ على طبيعتها.
القدرة على الامتصاص والاستيعاب
-القدرة على امتصاص الوافد وابتلاعه: من مقومات الدور المصري التي تؤكد قدرة هذا الشعب على استيعاب الأحداث الراهنة ومواجهتها بحكمة وتجاوزها دون أن تترك آثارها السلبية لفترة طويلة على مصر شعبا وتاريخا وجغرافيا هو أن التاريخ يعلمنا ( وهو أكبر معلم وملهم ) أن مصر كانت دائما قادرة على امتصاص الصدمات واستيعابها والخروج منها معافاة رغم عمق الجراح وألمها فجميع الطغاة الذين غزوا مصر وحاولوا احتلالها لمعرفتهم بخصوصية المكان وطبيعة الشخصية المصرية خرجوا في النهاية صفر اليدين فمنذ الأسكندر المقدوني وحتى نابليون بونابرت أصحاب الأحلام الكبرى بتأسيس إمبراطوريات كبرى كان حلم كل منهم أن مركز هذه الإمبراطورية يجب أن يكون مصر وأنه بدون مصر لا يكتمل الحلم ببناء إمبراطورية عظيمة وربما لهذا السبب يمكن أن نقول أن حلم الأمريكان بإقامة إمبراطورية جديدة مختلف عن حلم السابقين كالإسكندر المقدوني ونابليون بونابرت فالحلم الأمريكي يقوم في الأساس على إقامة إمبراطورية اقتصادية بخلاف حلم الأسكندر وبونابرت الذي كان يقوم على إمبراطورية سياسية وبالتالي يكون للمكان فيه أهمية وخصوصية أما الإمبراطورية الاقتصادية فتركز في الأساس على السيطرة على منابع الثروة وضمان تدفقها دون عوائق وهو ما يختلف عن الحلم السياسي بكل تأكيد من هنا فإن طبيعة مصر المكان والإنسان قادرة دائما على امتصاص الآخر واستيعابه وربما لهذا السبب تجد أن مصر قادرة على أن تضع حد ونهاية للعدوان والاحتلال مهما كان حجمه وسطوته فجميع الطغاة خرجوا من مصر مهزومين لأن طبيعة مصر المكان والإنسان لا تلين ولا تقبل بالأجنبي والغريب الذي لا يريد أن ينسجم مع طبيعة الأرض والبشر وهذا ما تشهد به أحداث التاريخ القديم والبعيد وهو ما يعيه المستعمر جيدا.
هذه من وجهة نظرنا أهم مقومات الدور المصري الذي تؤكد جدارة مصر مكانا وشعبا وتاريخا لأن تلعب في كل وقت وحين دورا إقليميا ودوليا بحكم تراكم الخبرة التاريخية وطبيعة المكان وخصوصيته كمركز هام يربط بين قارات الدنيا ولا يمكن التقليل من هذا الأمر بالقول أن طبيعة الحياة والعلاقات بين أركان الدنيا عن طريق الاتصالات أصبحت مختلفة ومن هنا فالتركيز على وضع مصر القديم اختلف الآن في ظل سيولة الاتصالات في عصر العولمة فالارتباط بين الأماكن أصبح مختلفا عن ذي قبل وبالتالي استراتيجية الأماكن لم تعد بذات الأهمية كما كان الوضع سابقا وهي حجج لا يمكن قبولها بإطلاق فمازالت قناة السويس أحد أهم الممرات حيوية بين قارات الدنيا في نقل البضائع والشحنات الكبيرة التي لا يمكن نقلها بالطائرات كما أن محاولة دولة الكيان الصهيوني إنشاء ممر موازي لقناة السويس حتى يحول جزءا كبيرا من الملاحة فيها ودخلها لصالح دولة الكيان يظل حلما عصي على التحقيق وفي حال تنفيذه لن يكون بديلا ولا منافسا للقناة بحال من الأحوال ليس معنى هذا أن نغفل عما يدبر لنا من هنا وهناك وهي محاولات تستهدف مصر ودورها الريادي بالدرجة الأولى وقد تستطيع التأثير على هذا الدور لبعض الوقت فتصيبه بالانكماش وتحجم من تأثيره وفاعليته لكن لن تستطيع إلغاءه ووتكبيله على طول الوقت لأن مصر لها خصوصية تتفرد بها كمكان وتاريخ وحضارة وإنسان لكن هذه الخصوصية تحتاج من أهلها الوعي بها والسهر على تنميتها والوعي لما يدبر لها من حولها حتى لا نكون من أنصار التغني بأمجاد الماضي المنقطعين عن العصر وتحدياته ومتطلباته فنعيش في كهوف منعزلة عما يدور حولنا ويؤثر فينا وفي مستقبلنا.

كاتب مصري /جامعة الإمارات
[email protected]