لا بأس؛ سأستدين هذه "النصيحة ـ الجملة ـ العنوان". هكذا ربما يكون عليه العنوان"أحلمُ" ولو مجرد حلم بعراق "مُعافى". عند ذلك يطيب الحلم حتى ولو كان كاذبا.
الشخص الذي ينصحني تلك النصيحة الغريبة التي تبدأ بفعل أمر شاعري "احلمْ" هو إنسان رقيق وسعيد؛ إنه يوحي لي بذلك على أية حال. الأشخاص السعداء والمترفون ينصحون الناس "الغلابة" المبتلين بالهموم المستفحلة نصائح جميلة. بل هي في الحقيقة نصائح خرافية لا تمت للواقع المُعاش بصلة. الواقع الذي يدرك فيه صاحبي أن العراق يرقد على سرير المرض دون رغبة منه بالاعتراف بأسباب المرض الحقيقية: جنون الطغاة الذين جاء بالغزاة. إنه أشبه بإهداء للكلام، أي كلام! أنا الصائم عن الكلام منذ سقوط طاغية العراق "المحبوب عربيا" حتى ظهوره في قفص الاتهام مجردا من الأبهة، ومن تلك النظرات التي كانت تكفي وحدها لقتل الخصوم ومحق أي أثر لهم دون أن يرف لها جفن. كم يحب بعض الناس المرفهين من الأغنياء بعض الجوانب من حياة الطغاة؟ لكن لصوت العدالة وقع آخر في نفوس المقهورين الأبرياء. إنه الموسيقى التي ينتظر سماع لحنها وكلماتها الأشخاص المعذبون في الأرض. أولئك الناس الذين لا يحبون الزعماء الدجالين كثيرا. الذين يحبون القصائد أكثر، والحرية أكثر مما يتغنون ببطش الرؤساء الأغبياء المتشددين، والأباطرة المجوفين، ورجال الدين المهرجين الكذابين من أصحاب اللحى الشيطانية الرثة.

دعني أحلم بـ "عراقٍ مُعافى"؛ تلك ليست نصيحة سيئة بأي حال من الأحوال. خصوصا عندما يهديها لك شخص وهو يتمشى على ساحل البحر الأبيض المتوسط، ساحله الجميل وعاصمته النظيفة، مرتديا المايوه الأبيض النظيف، ويفوح منه العطر الطيب المستورد من أرقى المحلات في باريس.

"أحلمْ بعراق مُعافى"..

بعد ربع قرن من التشرد عن العراق! أحلمْ بوطنك الأم بعد صار عمرك خمسين، ستين، سبعين، ثمانين، تسعين، قرن، فقط أحلمْ بوطنك "مُعافى". يا له من كلام جميل. والناصح يعرف جيدا أنك تشرب كل مساء كئيب وغريب يمر عليك خارج الزمن وخارج الحدود دنا من الخمر كي تنسى آلامك الممضة، وتبلع في حالات الإفلاس وفراغ الجيوب درزنا من الحبوب المنومة كي تنام، وربما يبلع البعض حبوبا مضاعفة للقضاء على أمراض الكآبة والقلق النفسي في صقيع المنافي الاسكندنافية الرائعة. لكن، ومع ذلك، يجب احترام هذه النصيحة الفذة إذا توفرت لديك الرغبة بجني بعض الفائدة من هذه الحياة العجيبة. لكن أسأل نفسي، أتساءل وسط هذا الزمان المجنون والوقت الغريب الذي أهدرنا فيه أعمارنا من دون حساب بانتظار تحقق الأحلام الصغيرة، لنا كبشر في هذه الدنيا من المفترض أن ننعم ببيت وبوطن وبعمل لائق، والأحلام العظيمة في "وطن حر وشعب سعيد". أين هذا الزمان وأين المكان اللذان سيشهدان تحقيق مثل هذه الأحلام التي تكاد أن تقترب من الخرافات؟ هل سيكون مجرد قبر صغير لي ولأحلامي الصغيرة والكبيرة؟ حتى مجرد الحلم بقبرِ في الوطن يُعد ضرب من ضروب الترف بالنسبة للمواطن العراقي المنفي منذ أكثر من عشرين عاما. مواطن لم يجمع المال ولم يخن أحلامه الصغيرة، الرقيقة، التي طالما أقتات على أمدها حتى الرمق الأخير.

ماذا أقول لأخوتي من المثقفين العرب الذين يعملون في صحف مأجورة يمدها دكتاتور يجثم على روحي منذ أكثر من عقدين؟ ويواصلون الدفاع عن هذا الدكتاتور الصغير، الأرعن، الواضح حتى لمجرد طفل عراقي يبيع عمره في الشارع الوسخ والمهدم كشهادة واضحة على انحطاط هذا النظام ومقدار همجيته! ماذا يمكن القول لبشر تعرف أنهم يفهمون، وأنهم مرهفون، حين يغدقون عليك النصائح المغشوشة، ويتقبلونك كونك مريضا نفسيا؟ ويدعونك بكل تهذيب أن تذهب للالتحاق بالأخوة المجاهدين في "الفلوجة" فيما إذا تيسر لك وكنت "سنيا" تحت رايات القائد الفذ، الجندي المسّرح من الجيش الأردني لأسباب صحية، وطالب المتوسطة الفاشل دراسيا، والعلامة الإسلامي المجاهد أبو مصعب الزرقاوي. أو تحت ألوية القائد الشاب مقتدى الصدر كجندي في جيش المهدي المنتظر فيما إذا قيض لك وكنت "شيعيا". ويمتعضون منك حين تعلن ببساطة "إنني لم أعد صالحا" للحروب أو القتال أو الدجل. يمتعضون وهم الجالسون في بيوتهم الآمنة، وينعمون بالدف بين أفخاذ نسائهم القبيحات المدللات.

أولئك الأصدقاء المثقفون، الأدباء المرهفون، الطيبون عندما يحتسون الكؤوس بالمجان، اللماحون حين تغيب هالة المال والجاه والسلطان هنا لتشرق هناك في مكان آخر. مثقفون جدا يشحذ مخيلاتهم رؤساء تحرير صحف أقل منهم علما وأقل منهم مجدا وأقل منهم ثقافة. رؤساء تحرير صحف تأسست بأموال شعب العراق لتدق الطبول وتزمر لحروب الدكتاتور، وليتم السوق التهريجي لأبناء وفتيان العراق إلى مقاصل الحروب القومية ـ الوهمية الكاذبة أمثال الأساتذة المصري مصطفى بكري والفلسطيني عبد الباري عطوان ومن جر جرهما من الإعلاميين الغوغائيين على غرار الدكتور فيصل القاسم. شعراء وأدباء، مثقفون كان عليهم الاعتماد بنشر هاجس الإحساس بالحرية وبكرامة الإنسان في بلدانهم. وهاهم يتخاذلون تحت بريق الشهرة وطعم التحويلات والمكافئات المالية المشجعة. والعجيب أنهم أنفسهم لا يذهبون للفولجة أو إلى أي مدينة في العراق للاشتراك في مقاومة الأمريكان تحت ذريعة "إنهم مثقفون أحرار" وأصحاب قلم!

لكن التاريخ واضح كوضوح دروسه العميقة والبسيطة التي غالبا ما ينساها التلاميذ الكبار في مدرسة الحياة الصعبة. حيث صرح الدكتاتورية يتهاوى أمام ناظرهم في أكثر من بلد وعلى أكثر من رقعة سياسية من أنظمة الحكم الشمولية. لكنه "دكتاتورهم" الخاص، وأبن جلدتهم وولي نعمتهم. مَنْ كان يعرفهم قبل ذلك؟ قبل أن يتدخل صانع المعجزات ويلقي بهم وسط العدسات والأضواء والشهرة والمال؟ وبعد أن رأوا المقابر الجماعية، ودب في أرواحهم دبيب الخوف من العواقب وهم المرهفون الحساسون من مساندة الباطل ضد الحق، يبدءون بالتنظير في الطريق إلى التبرير. ويفضلون إسداء النصائح الهادئة، البعيدة عن الإعلام وغير المؤذية لدخلهم الشهري. على غرار "نمْ جيدا" "لا تشرب كثيرا" "حافظ على صحتك". وفي سرائرهم الدفينة يتمنون لك الموت السريع لأنك كنت على الدوام أنظف سريرة منهم.

ما أعظم دروس التاريخ؛ إنها تكشف لك جميع المزيفين من الأبطال والأدباء والزعماء، ربما حتى بهذا الوقت القياسي بحساب التاريخ، وقت ارتقاء دكتاتور صعلوك على تلال من الجماجم والدماء على مقدرات بلد عظيم كالعراق، ومن ثم وقوعه في فخ القدر ومزابل الزمان. عندما سقط هذا الوهم الكاذب ورأوه كما رآه الناس بدأ البحث عن منابع أخرى ووسائل جديدة لملء الفراغ الروحي الذي يتمتع به أولئك المثقفون المرهفون. هكذا يجزلون النصائح المفيدة للمعذبين ـ بالفتحةـ الحقيقيين دون الشعور بأي حياء.