لم يكن مفاجئاً لكثير من العراقيين ذلك الإعتداء الآثم الذي قامت به بعض القوى الظلامية التي تسرح و تمرح في أرض العراق يوم الأحد الماضي ضد الكنائس المسيحية في بغداد و الموصل و التي تمثل دور عبادة يذكر فيها إسم الله الذي تدّعي هذه القوى الكلام باسمه و هو سبحانه منها براء.. فمن قام بهذا العمل هم بكل تأكيد أصحاب الفكر الظلامي التكفيري الذين يصرحون و يتبجحون علناً في أدبياتهم و في حواراتهم بأنهم هم فقط على صواب و باقي الناس كلهم على خطأ و بأنهم هم فقط المؤمنون و باقي الناس كلهم كفرة.. و قد كفّر هؤلاء و منذ زمن من هم على ملّتهم من المسلمين قبل أن يكفّروا أتباع الديانات الأخرى و استهدفوا دور عبادة إسلامية و هدموا أضرحة لأولياء الله الصالحين في الرمادي و الفلوجة و حاولوا فعل نفس الشيء مع أضرحة أحفاد الرسول من أئمة آل بيته الكريم في الكاظمية و كربلاء قبل أن يستهدفوا دور عبادة مسيحية أو صابئية أو يزيدية.
إن المشكلة فيما حدث و يحدث في العراق للأقليات العرقية و الدينية هو ذلك النفس و التوجه القومي و الأسلامي المغالي في التطرّف و الذي يصر في خطابه المستهلك على دمغ العراق بالهوية العربية و الاسلامية فقط متجاهلاً بشكل مقصود وعن عمد أن العراق لم يكن عند ولادته التأريخية بل و لا حتى الحديثة عربياً و أنه الموطن الأصلي للكثير من القوميات التي لا تزال تعيش على أرضه الطيبة التي احتظنت منذ بدء الخليقة أناس من مختلف الجنسيات و الألوان و كان العرب جزءاً منهم و أنه ( أي العراق ) كان و لا يزال موطناً للكثير من الديانات في العالم كالديانة الصابئية و الديانة اليزيدية و الديانة المسيحية قبل أن يعتنق أبنائه الإسلام و أتباع هذه الأديان لا يزالون يعيشون على أرض العراق جنباً الى جنب مع أخوانهم المسلمين و هم من أطيب أبنائه و أشدهم إخلاصاً له و لترابه.. فبناة بلاد ما بين النهرين و مبدعي حضارة وادي الرافدين كانوا سومريين و آشوريين و أكديين و أكراد و فرس و تركمان قبل أن يكونوا عرباً و كانوا زرادشتيين و مسيحيين و يزيديين و صابئة و يهود قبل أن يكونوا مسلمين و هذه حقيقة يجب أن يعيها أصحاب الطرح السابق و سنظل نكررها حتى يفهمها من لا يريد أن يفهم و يعقلها من لا يريد أن يعقل و حتى يعم الإستقرار أرض وطننا الحبيب و يصبح موطناً حقيقياً لكل ابنائه.
فيوم كان نظام الحكم عروبياً عنصرياً كان المستهدف أقليّات قومية من غير العرب كالأكراد و التركمان و الأيرانيين و الأفغان.. أما اليوم و في خضم الفوضى التي تسود الشارع العراقي الذي تتحكم به قسراً قوى أصولية أسلامية متطرفة بعضها محلية و بعضها وافدة فأن المستهدف هو أبناء الأقليات الدينية غير الاسلامية كالمسيحيين و الصابئة و اليزيديين.. و هذا التوجه العنصري و الأصولي الذي زرعه النظام البائد تحاول اليوم بعض القوى الظلامية المدنسّة ترسيخه في المجتمع العراقي عبر مجموعة من الطروحات و الممارسات الغريبة عن واقع الأمة العراقية.
إن ما حدث في ذلك الأحد الذي كان دامياً و مؤلماً لكل عراقي شريف كان رسالة من هذه القوى الظلامية لكل أقليات العراق الدينية من مسيحيين و صابئة و يزيديين بأنكم غير مرحب و مرغوب بكم في العراق الذي يراد له أن يكون دولة طالبان أخرى و ربما أشد خليفتها الملاّ عمر أو من على شاكلته من المعتوهين و أنكم إن بقيتم فستعاملون كأهل ذمة لمَن عبروا الحدود و اغتصبوا أرضكم و أرض آبائكم و أجدادكم العظام الذين كانت لهم عند فجر البشرية في أرض العراق حضارة تدين لعلمها و سطوتها كل الأرض يوم كان أجداد الملاّ عمر و من يسير في ركبه الآن يسكنون الكهوف و الصحاري و الوديان.. إن السماح بالتعامل أو التلويح بالتعامل مع المسيحيين وغيرهم من ابناء الطوائف الدينية الأخرى في العراق كأهل ذمّة فيه أهانة لشريحة مهمة من أبناء العراق الأصلاء و إجحاف بحق أجدادهم من بناة العراق الأوائل لأن هذه الطوائف سكنت العراق و عاشت في ربوعه و صنعت تأريخه العظيم الذي يفتخر به اليوم كل العراقيين و ليس أبناء هذه الطوائف فحسب.
لذا فأن أبناء هذه الأقليات يعيشون اليوم في بلدهم و موطن أجدادهم العراق بين فكّي كماشة و يدفعون دفعاً من قبل بعض القوى الظلامية في العراق الى خيارين أحلاهما مر.. فأما أن يرضوا بأن يكونوا من أهل الذمة في مجتمع يسير بخطى حثيثة نحو الأصولية ! و في بلد يراد له أن يعيد مجد الخلافة الأموية و العثمانية !.. أو أن يتركوا أرض الآباء و الأجداد و يهاجروا منها الى بلاد الله الواسعة حيث لا يضام انسان للونه و لدينه و لقوميته.. و بالتالي فالعراق اليوم أمام كارثة أنسانية تعيشها هذه الأقليات و معها المجتمع العراقي ككل تتمثل في محاولة تغييب و ألغاء شريحة انسانية كاملة و أساسية من خارطة العراق و المجتمع العراقي و أحلال شرائح من دول الجوار العربي و الأسلامي محلّهم لأنها بنظر الكثيرين من أصحاب الطروحات العنصرية و الطائفية أكثر أحقية بالعراق و بخيرات العراق من أبنائه الحقيقيين الذين عاشوا و آبائهم و أجدادهم منذ بدء الخليقة في هذا البلد و كانوا بناته الأوائل و لم يكونوا وافدين عليه كغيرهم.. و يجب أن لا ننسى أن في مسيحيي العراق عدد كبير من الأطباء و المهندسين و الفنانين و رجال الأعمال و ما يحدث الآن هو محولة لافراغ العراق من هذه النخبة المهمة و العزيزة من أبنائه و هو ما لا يمكن أن يرضى أو يسمح به أي عراقي شريف نشأ و ترعرع في مجتمع عرف على طول التأريخ بوداعته و تسامحه و أحتضانه لكل أشكال البشر.
و ما يرد من أخبار من أرض العراق الحبيب لا يبشر بخير أذ يشير الى أن الكثير من العوائل المسيحية و الصابئية بدأت تهاجر من مدنها التي بدأت تسيطر عليها قوى أصولية الى مدن أخرى لا تزال فيها نفحة من الحرية و الأمل بعد أن تعرض أفرادها للكثير من الاعتدائات و التجاوزات بل و حتى القتل على أيدي أفراد هذه القوى ناهيك عن التهديد المباشر لهذه العوائل بترك المدن التي عاشت و ترعرعت فيها أباً عن جَد.. ففي البصرة وحدها قتل خلال الأشهر الأخيرة العشرات من المسيحيين كما هاجرت ما يقارب الثلاثة آلاف عائلة مسيحية من أصل أربعة آلاف الى مدن أخرى كبغداد و الموصل أي أن ثلاثة أرباع سكان البصرة من المسيحيين قد غادروا بيوتهم و مدينتهم خوفاً على أرواحهم و أرواح أبنائهم من مجهول يتربص بهم و يستهدفهم.
إن الحل لهذا الموضوع يكمن في الوقوف بوجه مثل هذه الطروحات و عدم السماح بترويجها في المجتمع العراقي بل و معاقبة كل من يدعو لها لأنها و ببساطة تخالف كل مواثيق و أعراف حقوق الأنسان و تنتهك أسس بناء المجتمع المدني و الديمقراطية في العراق.. و يجب أن يبدأ هذا الحل من النخب السياسية العراقية نفسها عبر أنهاء حالة جعل المناصب السياسية السيادية في البلاد حكراً على العرب و المسلمين من الساسة العراقيين و أن يكون للمسيحيين و مثلهم الصابئة و غيرهم من أبناء الأقليات العرقية و الدينية في العراق الحق في تبوء أعلى المناصب الحكومية و الأدارية بدئاً من منصب رئيس الجمهورية و نوابه مروراً بمنصب رئيس الوزراء و نوابه و صولاً للوزارات المهمة و ذات السيادة في أي حكومة عراقية حالهم كحال أقرانهم الآخرين من العراقيين العرب و المسلمين لا أن يكون الكرسي ( اللارئاسي ) في مجلس الحكم و المقعد الوزاري اليتيم ( اللاسيادي ) في الحكومة المؤقتة منّة يمن بها عليهم أقرانهم من العراقيين كما حدث مع أخواننا المسيحيين و لا أن يحرموا تماماً من أي منصب في مجلس الحكم و الحكومة المؤقتة كما حدث مع أخواننا الصابئة و اليزيديين.. حينها فقط سيشعر المسيحي و الصابئي و اليزيدي بأنه مواطن من الدرجة الأولى في بلاده حاله كحال مواطنيه من المسلمين له ما لهم من الحقوق و عليه ما عليهم من الواجبات.
إن ما يجمع أبناء أرض الرافدين أكثر و أعمق و أكبر مما يفرقهم.. فما يجمعهم إله واحد هو الله سبحانه و تعالى و وطن واحد هو العراق الحبيب وهما كافيان ليعيش الجميع في حب و ألفة و تآخي كما كانوا و كما سيبقون بأذن الله.. و لتكن لنا في أمير المؤمنين أبا الحسن علي بن أبي طالب (ع ) قدوة حسنة حينما قال " الناس صنفان.. أما أخ لك في الدين أو نضير لك في الخلق ".


[email protected]