كأني بهم يفقهون حذافيرَ عشقه أنملةً أنملةً من فؤاده، يُجرون حساباتهم الدقيقة لخطواتنا وسؤالنا، وربّ حاجة أن تلحق بركب حظوتهم فيه،ولا نستحق!
يديرون حلكة الأوراق في مظاريف السّر، ينسون اللهَ ينظرُ بباطنهم،وخفيةً يرتبون أسنّة عِرقهم، ونخبهم، وعليتهم، ومراتبهم.
عندما يشرعون باستخطاط مرادهم، يهنِونَ قليلاً في كتابة اسم الله استهلالاً، ثم يخطفهم بطرٌ أخّاذٌ لتدجين خطاباتهم الضريرة بفرياتٍِ لقيطةٍ وأباطيلَ هزيلة؛ ليستروا عورةَ وطنٍ مشاعةً للعيان ما عداه، عورةَ وطنٍ تكشطُ نبلَ الصفوةِ، ويعمون عن تكشفها، كي لا ترى وجاهته خربشة الحقيقة أو خدش الأسئلة.

يا إلهي..
إنهم يسترون العورة بسائغ الحبر في أقلامهم!
إنهم يبخسون عوراتنا فجيعتها، ويلبسونها ضباب الحسنى التي يشتهون، يدلقون حفناً من قداسة على سحنهم وسخا وسخا باتجاه مداهنة معاليه علّه لا يبصر إلاّ برمادهم وحدهم.

يحبذون الطهارةَ الكاملة، قبل أن يُنَصّبوا رجسَ الزيفِ شهادةً عند مقامه الرحب لمعيةٍ مثلهم، مقامه الـحَنِق جدا لقلوبنا نحن، كما يزعمون!

يبذرون حقائقهم أنّى يشاءون وكيف يستحسنون.. يرممون فخره حتى يعمره اليقين، فيسبر أرواحهم الغرور، ويتأبط غفلتهم ادعاءٌ تزدانه الشوائب!

يضرمون فتيل الظن في كل حاجة لنا تبتغي من معاليه بعض سلوانْ، يتربصون بنا ريب المخاوف، يكيدون لنا شرك الوشاية في كل غاية، ويغدقون في تملقهم، يتمددون حصنا معتما بين جنابه العزيز وبين كفوف تستعف قدرا من الصبر، ويبترونها بعد ردهٍ من الذل، كأنهم مزاريب الجحيم.

يزرعون نصالهم في خدر طيبتنا، ويجتهدون عميقا عميقا؛ ليلصقوا السوء بخطواتنا، وأن نظرنا قاصر، وأن أنفاسنا نكرة، وأن ربنا بلا سماء، وربهم فسيح الزرقة والغفران!

هكذا يزنون عرش حظهم في معاليه، ويسنون مجدهم من رضاه، ونحن قلة في باب الهوان، لا يغطي سوءتنا دعاء أو صلاة.. كما يدعون.

هم يكيلون الصفعات لتوقنا كيما ننقي وجاهة معاليه من أحلامنا، فكلما شفَّ السؤالُ بداخلنا إلى إجابة من مقامه الرفيع، كلما جففوا مقلنا منه، وأجهضوا خصاصتنا أن يكشف ـ بيد الله ـ ضرنا.

لقد ألفينا الممكنين في الأرض سعةً ينبرون على شأن المنام إصلاحا، وإقامة القسط فيه، واليوم تقرع صرخاتنا، ألفَ باب، وألفَ منضدة، وألفَ انتظار، وذو التمكين موصد الجوانب بأزلام من جلدتنا، بل من حديد!.. زبانية ما ثقفوا الرحمة مطلقا، إنهم كسُنَّةٍ حميدة، لا يتقلبون، تظل بأيديهم مزاليج بأسنا، ويحكمون شدائد العوز بين ظهرانينا!

هكذا نراهم، إذا ما حلّ طائره البهي، عجلوا إلى خدره العاجي، يحملون أضابير خضر وحمر، موشاة بنسيج الذهب، يسعون بدفاتر مجدهم، ومحاضر أعمالهم الجليلة، يخبرون معاليه أن تلك المصلحة قضيت على نحو بهيج، وأخرى أنجزت كما يصح لها ثغره الباسم، ومنجزات لا تُعد سيرى نورها في وجوه الناس الطيبين.

ثم يشهرون له آيات من وحيهم لتزهو به في وسائل الإشهار، واصفةً عبقرية إدارته الرائدة بصنيعهم، مبجلة بعالي الكلام نجاحاته التترى المجتباة بأيديهم التي للتو اغتسلت خلف بابه من نكاية بأمل صغير في لقاءه، أو للتو تحللت من براثن توقيع يشي بأمانة تداهم موازينهم!

وإذا ما تبادرت لذهنهم سِنَةٌ، وغفلوا قيد بارقة عن مديحه، ضرج وجهه التأفف، وضجّوا من فورهم يطفقون على وجوههم يبررون الأخطاء مروراً بنا، يستحيون حسناتنا ضغينة يقبضونها إلى ممتلكاتهم غنيمة!

وهكذا يحذرون أن نقضَّ مضاجع زيفهم، وهو يتلبسه غبش الثناء ويقر في علياء لا يمسها شوك أسئلتنا ولا تسوءها حمّى حاجتنا!

حتما..
لن نحمل سلاح الوجع ولا رصاص الوهن في جبهته السامقة، ولن يحيلنا هذا الجوع إلى " راديكالايين " يُوسمون بهوس الحسد ممن يرون جلال عرقهم ونقاء دمائهم، فنحن لن نركم هذا الرفض بأظافر الحقد، أو نصفع الأبواب بحمم الغلّ وذخائر النقم، بل سنطوي هذه الأماني على أكف الهزيمة، وسنخرج من هذه المدن التي يديرونها له.
لن نكون أسامة بن زيد ولا الخطاب ولا الأيوبي، لن نكون من سادة الشهداء، لن نكون غيفارا ولا ماو ولا مالكلوم اكس ولا بولي فار، لن نكون غاندي ولا نيلسون مانديلا، نحن سنكون كما نحن، نحب رملا مديدا لنا وطن فيه ونحب رفقة لنا فيها ذاكرة من أمهات وأباء وصحاب قرأوا ليلا آيات لوطن لا يريد أن يرى النهار في وجوه الزبانية إياهم، فصفدوهم إلى الغياب!

يا سيد الماء الأسود..
قليلا من طرفك لترى فينا الحقيقة القابلة للتفاوض، والحقيقة القابلة للتعايش، والحقيقة التي تمور بعيدا عن المطلق، فلا تبصر بهم ولا تنظر لحبكة الدسائس، فنحن نعلم عن هذا الوطن حبا ونعلم عنه عشقا ونعلم عنه أنه لا يقبل حَبْكَ ألوانهم في الهوية، فالأرض تشد أطرافها كي لا يفيض إلى عوراتها أحد غيرنا.

يا سيد الإجابات المطلقة..
مرة واحدة فقط ترجل عن هذا العاج البعيد، واقترح يدا دافئة لهذا السؤال:
لم لا ترى إلاّ بهم، وبسوطهم المسوم ؟

من هذا الذي يقتص من بيادرك كل الحصاد سواهم؟
من هذا الذي يدبر أفكا فينا غيرهم؟

يا سيد الكلمة الأولى والأخيرة..
هذا الوطن لا يحتمل كل هذه المزايدات، فهو ليس نظير أثمانهم البخس، وليس محل كلماتهم الزهيدة، إنه أعلى بكثير ممن قد أسوقه أو تسوقه دفاتر المجد قدرا رفيعا لشأنه.
هم من ناموا خسة بين دفتي نعمه، ورتعوا بذخا في جنبات خيره، واتسعوا خدعة في أماننا الفسيح، ونحن من رتب ليلنا بكاء للوطن، ونحن من وهب العالم سعة في العطاء، ونحن من بشّر الكف بالكف لتلتحم حدود البلاد.

يا سيد الرؤية الواسعة..
هذا الوجع الطويل كالمسافة التي بيننا، يؤرق الوطن، ويستحيل الحلم إلى تلويحة لن ينفض غبارَ خذلانها أحد.

الآن سنولي هذه المدن الدبر لتسري فيها رائحتهم وحدهم، لتنهش الصدور أوساخها من بعدنا، وقد تفيق الكراسي الكبيرة من غفوة العلو على ذلك، قد تسيخ المقامات من بعدنا إلى دبيب يأسنا، وقد يسأل أحدهم: من فينا أبو ذر الغفاري؟

نحن من نحن، نحن بنا لا بسوانا، نحن بهذا الرمل وبهذه السماء، نحن بهذا المتاع نودعك، كيما تظن فينا عتابا عظيما، ونسكب عبرة واحدة تخذلنا، فنحن من نحن، نحن نسد القلب بإيمان لهذا الوطن الذي تتربص به مخاوف شتى!
والخوف لا يعرف من ينظر إليه، ونحن مسمولين بوجهه آناء الليل وكل النهار، فلسنا حاشية تدخر كلمات الرفعة، ولسنا مريدي سمو الدواويين، نحن من نحن، نحن نعشق في الشمس، ونقرأ ترتيلنا في المساء وننام كالعصافير المتعبة.

يا سيد الضوء البعيد..
هذا كتاب لأعوام عجاف عشناها، فانظر في أمر تلك الرائحة التي تنوس بعدنا، فإن تركت فيك الأذية فأنت سيد قومه، ولازما عليك أن تأتي بغيرهم يحبونك ونحبهم، أو قد تطول إغفاءة المقام وتستحيل المدن إلى رمادهم.

نحن هناك...
ليس فينا أبو ذر الغفاري، فنحن من نحن، إلاّ أننا مثله لا نحمل السلاح، فقد تعلمنا منذ رحمة السماء أن الجبناء وحدهم يغمدون السلاح في خاسرة الوطن.