لم تفلح سلسلة من التفجيرات البشعة التي استهدفت خمس كنائس مسيحية في وسط بغداد ونينوى في الأول من أب/أغسطس الجاري، أن تضيف ولو فقرة جديدة على سجّل الإرهابيين الملطخ أصلا بدماء الآلاف من الوطنيين والأبرياء الذين سقطوا جراء النهج "السلفي" الانحرافي الذي اختارته "مجموعة" من أتباع ما يسمى بالتيار الإسلامي السياسي والأصولي. لآن الدين الإسلامي كغيره من الأديان السماوية الأخرى هو براء عن كل تطرف أو فتنة من شأنها تعكير صفوة الإنسان المسالم والمؤمن بالله بغض النظر عن الدين أو الانتماء العرقي. في وقت نجحت فيه الفئة الضالة تلك في إثبات الحقيقة القائلة بأن المواطنين المسيحيين الآشوريتين، الكلدانيين، السريان هم شركاء أصليين ضمن العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد.
فكرامة المواطن العراقي ستبقى مصونة وفقا للصياغات الجديدة لدستور البلد. وفي الحالة هذه مثلما سيختفي دور الانتقائية البغيضة عندما يتعلق الأمر بالحقوق الوطنية، كذلك تستدعي الضرورة تفعيل دور المواطنين كشركاء في تحمّل المسؤولية الكاملة لإنقاذ العراق من المأزق السياسية والاقتصادية المتفاقمة. فالتفجيرات التي طالت الكنائس المسيحية هي امتداد لدوي السيارات المفخخة التي لم توفر أقدم المراجع الشيعية في كربلاء، النجف والكاظمية، تلك التي تعودت فيها حفنة من الملثمين والمحسوبين على الجماعات الإسلامية المتطرفة أن تعلن مسئوليتها عن الجرائم البشعة هذه من خلال شرائط مصورة تتسابق فضائيات عربية معروفة علي بثها.

العربي وذاكرته المثقوبة
"عندما نأخذ الإسلام في مجموع تجاربه فلابد من قبول التعارض في القيم التي خلفها. وتجارب الإسلام ليست ما يدعيه كل فريق لنفسه بوصفه الإسلام، وما عداه هو الكفر، بل هي مجموع ما يدعيه الفرقاء كلهم. إن نبوة، محمد إسلام، وخلافة الراشدين إسلام، ولكن الإسلام أيضا هو الأمويون والعباسيون، كما هو الفرق التي خرجت عليهم وحاربتهم بالفكر والسلاح". هكذا يكتب الباحث العراقي الراحل هادي العلوي في كتابه المعنون "فصول من تاريخ الإسلام السياسي" ص420- 421.
إن التعارض الذي ذكره باحثنا الكبير هادي العلوي وفي مقدمتها التفسيرات الخاطئة للآيات القرآنية من قبل حفنة من الحكام المسلمين أقطاب النظام العربي الشمولي أو الفصائل المتطرفة والمحسوبة زورا على الإسلام، مثلما هو التعارض هذا موضع خلاف وشك لدى كل مسلم مثقف ومعتدل كذلك هو وقعه في قلوب كافة الوطنيين والمثقفين المسيحيين داخل العراق وخارجه.

فلو رجعنا إلى بدايات حرب الثماني سنوات، تلك التي أشعلها" الطاغية المسلم" صدام حسين بحق أول جمهورية إسلامية دشنها "الإمام المسلم" آية الله العظمى الإمام خميني شباط 1979، لقدر لآي مواطن عراقي غير مثقوب الذاكرة، أن يتذكر وقع الآيات القرآنية التي كانت تبثها أبواق النظام ليل نهار في سبيل تشريع الغزو والقتل مع إباحة جرائمه الغادرة في استعمالات الأسلحة الكيماوية، تلك التي جاءت على الآلاف الآلاف من الإيرانيين "المسلمين" في جزيرة ( فاو) جنوب العراق وعبادان وقصر شيرين بالإضافة إلى الآلاف من الأكراد " المسلمين" والأبرياء في مدينة حلبجة في إقليم كردستان العراق.

الحديث الذي اخترته لإضاءة العنوان المدون أعلاه، يتيح لآي مواطن عراقي غيور أن يدرك خطورة المنحى السلبي الذي اختارته مجموعة من الجماعات الإسلامية معظمها أجنبية داخل العراق وفي مقدمتها جماعة التوحيد والجهاد، أثناء نعتها المسيحي العراقي بالصليبي، في سبيل تبرير جرائمها البشعة بحق الكنائس باعتبارها أقدس أماكن العبادة. رغم أن التاريخ يذكرنا بأن الآشوريين، السريان، الأرمن والكلدان الذين آمنوا بالمسيحية قبل الحروب الصليبية بأكثر من ألف عام.

فالتيارات الأصولية المحسوبة قسرا على الدين الإسلامي، عليها أن تستوعب الحقيقة القائلة،" بان المسيحي العراقي، ليس مواطنا أجنبيا كما تعودت النظم العربية الفاشية أن تزعم ضمن خطابها السياسي، بل هم الأصحاب الحقيقيون لأرض وحضارة وادي الرافدين قبل وصول جحافل الجيوش الإسلامية إلى المنطقة بآلاف السنين. فقد أنفرد الخليفة الثاني عمر في التاريخ الإسلامي برده على الوالي الذي أشار عليه بوقف إجبار دخول المسيحيين إلى الإسلام لئلا يفرغ بيت المال الإسلامي، فاجابه الوالي (( يسعدني أن يصبح المسيحيون جميعا مسلمين لآن الله أرسل نبيه رسولا هاديا وليس جابيا))، ص32 من كتاب سياسة واقليات في الشرق الأوسط لمؤلفه لورانت شابري وان شابري. هذه الاجتهادات أو التفسيرات الغريبة لحفنة من الحكام في التاريخ تحولت إلي مرتع خصب لصياغة مفردات ما يمكن نعته اليوم بثقافة العنف لدى معظم التيارات الأصولية ضمن الأديان السماوية الثلاثة.
وبقدر ما يتعلق الأمر بالأهداف الأساسية وراء استهداف المسيحيين العراقيين، فان النهج الإرهابي هذا، هو بالأساس امتدادا للسياسات الشوفينية التي نفذتها أجهزة النظام العراقي البائد في سبيل إجبار المسيحي لدخول الإسلام مرغما أو النزوح الجماعي للفلاحين أو المواطنين المسيحيين صوب المدن العراقية الكبيرة. " الجدير بالذكر إن هذا الشكل من الهجرة كان يشجع عليه الإسلام الذي اتجه إلى توسيع رقعة المدن على حساب الريف والبوادي. وحرم على المهاجر أن يعود إلى موطنه السابق. كما حرم إعادته من طرف السلطة. وتقنن ذلك بحديث(( لا تعرب بعد الهجرة)) أي لا عودة إلى مواطن الأعراب لمن هاجر إلى المدن. ص 354 فصول من تاريخ الإسلام السياسي. التوجه الذي تحاول فيه من جديد جماعات "إسلامية" مختلفة أو جماعات الموت كما تسمي نفسها، التخفي وراء عباءة الدين واختطاف الأبرياء من أجل المال. وكانت عملية توجه أهالي الفلوجة يوم الأربعاء الموافق 4 أب/ أغسطس الجاري، إلى المنزل الذي كان فيه أربع رهائن أردنيين، وتحريرهم بعد هرب الخاطفين، خير دليل على صحة قولنا.
وفي الختام يجب التأكيد على المهام المترتبة على عاتق الحكومة العراقية رغم معرفتنا بالصعوبات الجمة التي تحدق بمستقبل العراق وآفاقه الجديدة. وفي طليعتها اتخاذ خطوات تشريعية وقانونية للاعتراف بوجود وهوية الشعب الآشوري، الكلداني والسرياني إلى جانب الشعوب العراقية الأخرى. وأن الحيف الذي لحق بالكلدواشوريين بتقليل نسبة مشاركتهم في الحياة العامة وتزوير نسبتهم في عدد السكان بقصد التقليل سيعدل على الفور حتى لا تنفتح شهية القتلة في استهدافهم واسترخاص دماء أبنائهم. كما يتعين الضرب بقوة على كل طروحات الغلو والتطرف التي تتخذ من الديانات لبوسا لإخفاء مشاريع متخلفة تريد إعادة العراق إلى قرون التخلف والظلام، يكتب رئيس تحرير جريدة الزمان العراقية تحت عنوان للزمان كلمة ــ جريمة كبرى.