عندما أصدر منذ مدة أصحاب القرار في البيت الأبيض مشروعهم لإصلاح الشرق الأوسط الكبير، وما اصطحبه من هيل وهيلمان إعلامي وسياسي، وتهيئة متصاعدة وزاحفة للعقول والثقافات، اعتقد أغلبية الملاحظين والمتابعين والسياسيين أن العالم قد دخل حقيقة في مسار جديد ونهائي، تمليه المصلحة الأمريكية وقطبيتها وزعامتها، وتدعمه قوتها وعظمتها، وأنه لا مفر ولا سبيل لعدم تطبيق هذا المشروع بعز عزيز أو ذل ذليل!
غير أن تتالي الإنتكاسات الميدانية وتصاعد الفوضى والمواجهات من هنا وهناك، وتضارب التصريحات، وعدم تناسق المواقف الأمريكية والأوروبية، وهشاشة الإقتصاد العالمي، وقلق شعوب العالم وعدم اطمئنانها للمسارات الجديدة، والتأثيرات المروعة لأحداث سجن أبوغريب على النظر والفعل السياسي، ودخول منطقة الشرق الأوسط كلية في نفق مظلم من الاعتداءات والجور والإرهاب، كل هذه الأحوال الجديدة ألقت بظلال كئيبة وطرحت تساؤلات أساسية وهيكلية حول المشروع الأمريكي للإصلاح منطلقا وهدفا ومنهجية وإطارا.
فهل انتهى المشروع في العراق قبل أن يغادرها إلى أفق أرحب حيث كانت بعض مدن بلاد ما بين النهرين أول مقابره فكان حلم البداية مسارا، وكان واقع المسار تخبطا في نقطة ونهاية؟ أم لعل المشروع نفسه لم يولد ولم يكن غير أمنيات وأحلام تسبق كل ولادة غير ممكنة، حسمها الهرم أو المرض أو التداعي، وهو يمثل بالتالي نهاية حقبة حضارية قد غربت شمسها، وبداية دورة أخرى لا تزال تعيش بداية مخاضها؟ أم أن المشروع لن يلد، لأنه قد ولد ميتا، وأنه لا حياة لمن تنادي، لأنه لن يكون هناك نداء ولا منادى!
لعل المشروع الجديد القديم سوف يلتحق بالمشاريع المجهضة التي عرفت منها ذواتنا ومجتمعاتنا العديد من نسخها، سواء كان ناسجها ابن البلد أو غريب الديار، وبقيت على الرفوف وشكّلت بيوتا للعنكبوت، بعد أن عجزت أن تشكّل بيوتنا. وليست بالبعيد عنا ومنذ أقل من عقدين، دخل العالم في نشوى أحلام وآمال العالم الجديد التي بشرت به الإدارة الأمريكية عقب حرب الخليج الثانية، وظن الجميع أن تاريخا قد انتهى وأن تاريخا آخر بدأت تسطَّر أحرفه لتشكيل عقول وأسواق وثقافات، لكن نهاية المشروع سبقت نهاية التاريخ!.
مشاريع ردات الفعل
لعل المتابع لحيثيات بناء المشروع الأمريكي للإصلاح، يلاحظ السرعة التي تم فيها تركيبه والإعلان عنه وطرحه لا حقا على كبار الدول. وكانت عملية التسريب الأولى موجهة إلى البلاد المعنية لجس نبض تفاعل حكامها ومحكوميها. لم يكن المشروع وليد تفكير رصين، وفي إطار سليم ووضع مستقر وهادئ، ولم يكن تفعيلا لمسار تنظيري وحالة حوارية وتجاذب بيني، لم يكن ديمقراطي المنشأ ولا ديمقراطي المسار ولا ديمقراطي المصير. وضعته ثلة من أصحاب القرار في مكاتبها ومن وراء شاشاتها وبحساب رواية أطراف تخدمها، لم ينلها جرح ولا تعديل، وجعلته رد فعل مباشر لحماية أمن ديارها، ومواجهة سوط الإرهاب المسلط عليها.
إننا وإن كنا نتفهم هول المصيبة التي حلت بالأرض الأمريكية وما أدت إليه من خوف ورعب وتوجس، وما تولد عنها من محاولات على كل الأصعدة لكبح جماح إعصار الإرهاب وتجفيف منابعه، إلا أن بناء مشروع كبير لإصلاح البنى والتصورات والآليات التي تحكم ثقافات وعقليات وسلوك مجتمعات لها ماضيها وتاريخها وعرفها وتقاليدها وهمومها ومرجعيتها وهويتها، ويطال هذا المشروع جغرافية ممتدة شرقا وغربا، تجمع عالما لوحده أطلق عليه العالم الإسلامي، تشهد أراضيه تضاريس وهضبات وأودية ورمال متحركة، يتنوع كيانها وتتعدد إثنياتها وقومياتها، إن التلويح بفهم كل هذا التنوع وهذه الفسيفساء وتجميع قطعها في إطار واحد وصورة وحيدة لن يكون إلا منتوجا مشوها، يولد ميتا أو يحمل معه تابوت موته المحتوم بعد حين من الزمن.
إن ردّات الفعل لا تبني مشروعا ولكن تحدث توترا ورسما كاريكاتوريا كاذبا ومغشوشا توحي تركيبته بالوقوف والإلمام وهو على جرف هار، يُطَمْئن الحامل في لحظات غياب الوعي، ولا يؤثر في عمق الإطار المنزل عليه، فيكون طلاء ومساحيق على وجوه شاحبة ومصفرّة أنهكها الداخل المعتل وهتكت أوصالها جراثيم الحاضر والماضي. فيبقى البناء قاصرا والتغيير ترقيعا والمريض عليلا.
ليست مشاريع الإصلاح قرارا ينشأ بليل أو بنهار، ليس أمرا سلطانيا تطرق له الطبول ويبثه الأعوان فتلتزم به الرعية دون خدش أو مين أو مواربة، ليس الإصلاح اعتناقا لدين جديد تبناه رئيس القبيلة فتبعه أهلها، والناس على دين ملوكهم!
مشاريع الكيل بميزانين وغياب الإطار
كيف يمكن لمشروع بهذه الضخامة وهذه الآمال أن ينال طرفا من نجاح وقبول إذا كانت مصداقيته مهزوزة، وجماهيريته معدودة أو معدومة؟ كيف يطلب من هذه المساحة الممتدة الأطراف شرقا وغربا وجنوبا وشمالا أن تصلح من شأنها القاصر في ديمقراطية مغشوشة أو مغيبة، ومن بين أضلعها كيان تدعي حكومته الديمقراطية وأنها جنة في صحراء قاحلة وهي تتعدى على أبسط مظاهر الديمقراطية، من حقوق للإنسان في العيش بكرامة وسلام على أرضه وبين جيرانه؟ كيف لهذا المشروع أن ينال مقدار حبة من خردل من قبول، وأصحابه يرفضون لأصحاب الأرض أن يعودوا إلى أرضهم، بل وتجعل ممن استحوذ عليها ملاكا شرعيين لا لبس في لصوصيتهم واستهتارهم، وهذا ما عناه الرئيس الأمريكي أخيرا من خلال مباركته للاحتلال وقبوله بالأمر الواقع ولو كان هذا الواقع ظلما بواحا، واستحواذا شنيعا، ودوسا للقوانين والأخلاق والقرارات الأممية! كيف يتنزل هذا المشروع على جسم يحمل شرخا قائما في طرفه ونزيفا دائما في أوصاله.
يحمل المشروع دعوة واضحة للإصلاح السياسي ودفع لإحداث تحولات ديمقراطية في البلدان المعنية..، ومن بين مساحات التغيير المرجوة والتي تشكل حسب زعمنا اليافطة وعربون هذا التحول وتشكل بالتالي الإطار المرئي والمحسوس لهذه الدعوة، المجال الإعلامي!. تساءل يفرض نفسه وهو يعبر عن هذا التناقض والكيل بميزانين لهذه المشاريع المسقطة، كيف يمكن المناداة بالتحرر السياسي والذي يشكل الإعلام الحر أحد ركائزه، وفي نفس الوقت تعلو التنديدات من هنا وهناك داخل البيت الأبيض وخارجه حول القنوات الفضائية العربية الحرة والتي أرادت أن تغرد خارج السرب في معالجتها للمسألة العراقية خاصة وكل مواطن الحدث الأخرى الحساسة.
إن ضرب هذه القلاع الحرة في صحرائنا القاحلة ينزع عن مشاريع الإصلاح المعنية كل مصداقية وجماهيرية ويجعلها عرجاء لا تتماسك، وسقوطها مسجل في جيناتها ومحددة أيام بقائها. كيف يقتنع هذا الجمهور الذي عايش تاريخا أسود من التضليل الإعلامي والبلادة البرمجية والاستخفاف، ولعله لا يزال يعيشه مكرها في بعض المواطن، كيف له أن يقبل بمشاريع تسبقها دعاية ومحاولات لقتل وليده الذي رعاه، وطمس معالم النور التي بدأت تعلن ولو ببطئ بدايات عهد جديد، كيف له أن يقبل بتنحية هذه الإرهاصات لنهوض بلدانه وتعميم الحرية داخل كيانه؟ هذا التناقض وهذه المفارقة التي يعيشها هذا المشروع والذي تجعله في مصادمة واضحة مع تكوينات خطابه الداخلي وفي مواجهة مع الإطار الذي سيتنزل فيه تسحب عنه التواصل وكل إمكانيات النجاح.
مشاريع البناء على الفراغ والعدم
لعل المتتبع لمشروع الإصلاح في مجمله وهو يحمل أنوار الهداية والعلاج، يلاحظ نسبية فهم دعاته للواقع المحيط، الذي جعلوه متجانس الأبعاد، فسعوا إلى إدماج سهل ومتسرع لثقافات متعددة وأديان مختلفة ولغات متنوعة في بوتقة جسم واحد، امتد شرقا وغربا وتجاوز التاريخ والجغرافيا ليجمع عديد البلدان والاثنيات والأقوام والجنسيات، وكأن المشروع يتنزل في صحراء قاحلة وأرض جدباء وشرائح عذراء! وهذا أول العثرات والمطبات الحاملة لعوامل الفشل والانهيار. كان الاستعمار القديم وهو يدخل الديار بمدافعه وتجاره وقسيسيه يزعم حمل مشروع التحضر والتقدم إلى بلدان البرابرة والمتخلفين، وإن كان في حديثه بعض الصدق، حيث كانت حضارته مهيمنة ومسيطرة وكان حال البلاد الموطوءة أرضها في شبه موت أو غيبوبة، غير أن الزعم بأن البناء والإصلاح قائم على تصحر ثقافي وجدب تاريخي وفراغ حضاري، إنما ينم عن جهل أو تجاهل وهو ما عزا السكان "الأجلاف" إلى مقاومته ورفض مشروعه الاستعماري وإن طالت أيامه.
وبالرغم من أن اليوم غير البارحة، لكن التاريخ يكاد يعيد نفسه منطلقا وهدفا، فالمشروع الإصلاحي المقترح تجاوز إشكالية التنوع الثقافي والتعدد الديني والعمق التاريخي وصلابة الهوية والمرجعية، وحشر الجميع تحت يافطة الإصلاح الإجباري لآليات التقرير والتنفيذ، من ديمقراطية وتعددية وحريات. لن يقف أي مواطن في هذه البلاد ضد هذه الأطروحات والمشاريع، فقد كان هم الجماهير الأول ودافعها الأساسي حين ناضلت في الحصول على استقلالها السياسي الأول هو بناء أفراد وأوطان حرة مستقلة ذات كرامة وعز ورفاه، ورغم ابتلائها بأنظمة غيبت هذه الأهداف وكرست عكسها، فإن أشواق الحرية والتحرر لا زالت كامنة وإن وقع دفنها تحت أرطال من إسمنت الجور والتعسف، ولا زالت هذه الآمال والأحلام متربصة ومشتعلة تحت الرماد!
إن هذه الجماهير وإن سعت بكل ما أوتيت من نوافذ صغيرة أن تستجمع قواها وتسترجع أنفاسها حتى تحصل على الاستقلال الثاني، وإن تشبثت بكل وسيلة للنجاة. فهي تحمل ثقافة وهوية وتاريخ ودين، وأن حاضرها شكله الآباء والأجداد، وأنهم أحفاد حضارة غربت أيامها، وأن عقلية اليوم وثقافته إنما ساهمت فيها ثقافة الأجداد بحلوها ومرها. ليس العالم الإسلامي أرضا جدباء، وإن قل زرعها في هذه الأيام الحالكات، ولكنه أرض التاريخ ولعله المستقبل، وليس لمشروع أيا كان مشربه إن اراد النجاح إلا أخذ الاعتبار لهذا المنحى الأساسي في التغيير والتحول.
عندما يغيب النموذج ويسقط المرجع
لعل الانطلاقة الأبوية والأستاذية لمشاريع الإصلاح باعتبارها تحمل تغييرا جذريا للعقول والممارسات عندما لوحت الإدارة الأمريكية بمشروعها للإصلاح كانت المرجعية الحضارية والأخلاقية والدينية حاضرة بكل ثقلها زيادة على الأبعاد السياسية والاقتصادية التي شغلت أصحابها وهيمنت في الكتابات الصحفية نقدا وبناءا.
انطلقت الرؤيا الأمريكية ثنائية المحاور وقطبية الهيمنة، محور الخير بما يحمله من أخلاق وقيم وفضائل، في مقابل محور الشر وما يدنسه من رذائل وفسوق وتهور، كان تمثال الحرية وثقافة الحرية وإعلام الحرية وبلاد الحريات، قد سبق الجيوش والتجار والسياسيين والسواح، كان المثال راية ترفرف فوق الأعناق، يغبطها الحالم ويتمناها الحاسد، والكل مشدوه فاتح فاه لهذا النموذج في الحرية واحترام حقوق الإنسان. لكن المرجع سقط في سجن أبو غريب، وسقطت معه الحقوق، وانكشفت عورات السجان قبل أن تتعرّ عورات السجين، وكشرت "الحرية" عن أنياب خلناها حمائم بيض وإذا بها غرابيب سود! يقول الصحف الأمريكي توماس فريدمان في إحدى مداخلاته " نحن مهددون بخسارة تتعدى الحرب في العراق. نحن مهددون بخسارة أميركا كأداة للمرجعية الأخلاقية وكمصدر للإلهام في هذا العالم. لم أعرف في حياتي كلها لحظة كانت فيها أميركا ورئيسها هدفا لمثل هذه الكراهية الطاغية كما هي حالها اليوم"[ ].
كيف لفاقد الشيء أن يعطيه، كيف للحرية أن يقع تسويقها، وتاجر البضاعة لا يملكها، ولا يجوز بيع مالا تملك كما يقول الفقهاء! وإذا كان صاحب مشروع الحريات عن الحرية عارضا، فكيف للمشروع أن ينال مصداقيته؟ لم يفقه البيت الأمريكي أن الهزيمة الأخلاقية أكثر تأثيرا وأعظم بلية وأن الزخم العاطفي والمساندة العالمية التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر كان هدفها التأكيد على هزيمة التطرف والإرهاب لأنه خلا من القيم والفضائل وحقوق الإنسان! مما جعل قيم الديمقراطية والحرية والإنسانية هي الغالبة وأن الولايات المتحدة أصبحت النموذج الناجح والمرجعية المتبوعة. لكن هذه الحالة المغشوشة، وعلى صفائها الظاهر سقطت في دوامة التطرف المقابل الذي بني على تطرف ديني في أعلى قمة السلطة مشبع بمصالح بترولية واقتصادية لعائلات ومجموعات ولوبيات، فانقلب سلم القيم واعوجت المقاييس وخرجت من صفحات التاريخ السوداء مصطلحات الصليبية والغلبة العنصرية وعلا الشطط، ونسي المرجع مرجعيته وغفل عن أتباعه وتجاهل تأثيرات منهجه ونتائج أفعاله على مشاريعه الظاهرة والمبطنة.
لقد سقط النموذج وسقطت المرجعية لما حملت في جعبتها مفهوما تبشيريا في أفعالها ورؤية تيوقراطية في ممارساتها، فجعلت من خالفها شرّيرا ومن رفض ثقافتها وتمسك بكيانه عدوا متربصا، وعوض مقاومة الإرهاب والتطرف بثقافة الحرية وقيم العدالة وآليات الديمقراطية، تبنى الدفاع وسائل الخصم وأصبح متطرفا ثقافة وممارسة، تنظيرا وتنزيلا، وخسر النموذج وفقد مصداقيته وخسر العالم وفقد "نموذجه".
المشاريع المسقطة
منذ نهاية عهود الاستعمار شكلت بلداننا مخابر مفتوحة وذات أبعاد حقيقية لعديد مشاريع التنمية والإصلاح وتوالت هذه التجارب تباعا، وكلما وصلت إلى أزقة وثورات ومآسي دفعت الشعوب غاليا فشلها، إلا وأتحفنا أهل الرأي هناك وأهل التبعية هنا بمشاريع جديدة تندد بما سلف و تهلل بما ينتظر وتعد بأن هذه المرة هي الحالقة للتخلف والانهزام والآخذة بسبل التقدم والبناء. وتُستَخَف الشعوب وتتواصل المسرحية، والناس نائمون أو غائبون، مسيرون غير مخيرين، ويتواصل مسلسل التجارب والمشاريع، وتتواصل معها عذاباتنا. ففي تعرضه لتاريخ التجارب التنموية في العالم يورد محبوب الحق تصنيفه المذهل الذي يؤكد هذه الملاحقة المتواصلة و السخيفة وراء الحلم المزعوم للإصلاح والتنمية ولو في بعده الاقتصادي ولهذه التجارب المسقطة على ذواتنا وعلى مجتمعاتنا[ ].
•1948 \ 1955 التصنيع مقابل التوريد هو مفتاح التنمية.
•1960 \ 1965 الإمساك عن التوريد خطأ و التركيز على التصدير هو الحل الوحيد.
•1966 \ 1967 التصنيع وهمُُ، والفلاحة هي عصب التنمية.
•1967 \ 1968 تحديد النسل هو الأداة المثلى والأولية لمواجهة التخلف.
•1971 \ 1975 إن جماهير العالم الثالث لم تربح شيئا من التنمية، لذا يجب التركيز على تقاسم ثمارها.
•ويمكن أن ندعم هذا الجدول بالمطالب الجديدة التي ميزت العقدين الأخيرين:
•1980 / 1991 التركيز على تحرير الأسعار و تقزيم القطاع العمومي و تقليص دور الدولة، كمفاتح سحرية للتنمية، عبر برامج التعديل الهيكلي(PAS) التي فرضت على كل البلدان المتخلفة.
•1992 / إلى يومنا هذا، وكنتيجة مباشرة لما سبق، فإن انفتاح الأسواق الداخلية، ورفع الحواجز القمرقية، وتأهيل المؤسسات الإنتاجية، والتوجه للتصدير ودخول سوق المنافسة العالمية، يمثل الحل الأمثل للتنمية.
مشاريع الخارج وغياب الداخل
لما انطلقت شرارة التحضر لهذه الأمة في تاريخها البعيد، كان العامل الداخلي كنواة لانطلاقة التحدي والبناء، وكمسار يحمله وكهدف يسعى إلى ازدهاره وتمكينه، الأصل الأول والأساسي الذي ساهم في إنجاح المسيرة وإنجاح المصير. فلم تكن فارس ولا بيزنطة وراء العالمية الإسلامية الأولى، ولم يكن عالم ما وراء الأسوار منطلقا ولا نموذجا، ولكن عدم رفض الآخر إجمالا، و تلاقح الثقافات وتمحيص الجيد منها، سعى ولا شك في بلورة حضارة عالمية، مثَّل الداخل العنصر الأساسي للمبادرة والتسيير والتنفيذ.
وقد أثبت التاريخ في محطات عديدة من انسيابه تأكد هذا المبدأ الواقعي والسنة الاجتماعية، فكلما انطلقت مشاريع التغيير من داخل أوصال مجتمعاتها، إلا كانت إمكانيات النجاح متوفرة والعكس صحيح. وما تجارب الإصلاح البروتستنتي وما حملته من دفع في أخلاقية التعامل الإقتصادي حتى شكلت النواة الأولى للثورة الصناعية وما تلاها، وليست اليابان وهي تخوض نقلتها الحضارية عبر إصلاحات مايجي الشهيرة من ديمقراطية التعليم وفرضيته، كل هذه التحولات الكبرى في التاريخ القديم والمعاصر إلا تعبير على هيمنة العنصر الداخلي في كل نهضة أو إصلاح أو تغيير عميق ومتواصل، دون تقوقع أو تزمت أوتطرف.
إن المشروع القديم الجديد للإصلاح يحمل هذه القيم المعلبة والحلول الجاهزة والتي ما إن تنفس البعض من أرجائها حتى تناثرت شظايا الحريات المغشوشة وروائح المصالح الآنية والديمقراطية المفلسة. لن نلوم الآخرين على الحفاظ على مصالحهم والسعي إلى المزيد من المكتسبات وتحجيم آمال الآخرين، فهذه قوانين التنافس والتدافع، غير أنه لن يكون مقنعا أن تلتقي هذه الموجة الزاحفة، مع مبادئ وحقوق، طالما زينت الخطاب وجمّلت العرض والتسويق، وغابت عند الممارسة.
إن إفلاس الخارج في تزويق بضاعته في الحرية والديمقراطية وتسويقها، وسقوطها بين أكذوبة أسلحة الدمار الشامل في العراق، ومسرحية التحرير في سجونه، يؤكد هشاشة المشاريع الخارجية الجاهزة وابتعادها عن الالتزام نحو ثقافتها وتقاليدها، قبل احترام ثقافة وأعراف الآخرين.
لم يكن الالتجاء إلى الخارج اختيارا، فقد غابت مشاريع الإصلاح في بلداننا، وتكاثرت ثورات التحرير الزائفة وانقلابات القصر البيضاء، وإصلاحات الغش، وظلت دار لقمان على حالها، أو زاد انهيارها! ولعل هذه المعاناة من خلو المشاريع الصادقة والواعية والرشيدة جعلت بعض الأعناق تشرأب إلى ما وراء الحدود، حتى تلامس مهديا من الخارج بعدما غاب مهدي الداخل! لعل التجارب المحبطة، والإرادات الواهية، والتقديرات الخاطئة، قد جعلت الآمال تتلاشى، فتداخلت المفاهيم وتشوّشت الرؤى والتصورات، وغلب اللون الرمادي على الصورة وغاب ظلها، فأصبحت الجماهير ترحب بالحرية والإصلاح والتغيير ولو حمله من غير أبنائها، ولو جاءوا به على ظهر دبابة، أو على فوهة بركان اجتماعي، تتطاير منه شرارات الفتنة و الحروب الأهلية والمصالح الضيقة. لقد عاشت الجماهير ونخبها الإحباط تلو الإحباط، ولم تر يوم عرس في حياتها، كان نهارها ليلا وليلها عدم، كان تاريخها مليئا بالمآسي وكانت أيامها حبلى بالذل والهوان..، ولم يكن المستقبل القريب يحمل آيات الانعتاق والتفاءل، ظلمات بعضها فوق بعض جعلت الحليم يبيت عمره حيران! وبين البقاء والفناء، خيّرت طائفة انتظار مهدي السماء، وخيّرت أخرى انتظار مهدي الجيران ولو كانت أجندته لا تحمل عنوانا واضحا وصريحا لأصحاب الرسالة. إن لحاف الخارج مهما كان جماله وسمكه وطوله وعرضه، يبقى لحافا خارجيا، منبتا عن واقعه إذا لم يحمل أصوافه أبنائه، و صقلت نسيجه أصابع خياطه المحلي ووجدانه ومشاعره، و إذا غابت الدراية الكاملة بمدى فعاليته وانسجامه مع متطلبات الفصول والأوضاع، وتوارى توافقه مع التاريخ والجغرافيا.. حتى لا يكون لقاء الداخل بالخارج لقاء هيمنة وأستاذية، ولا لقاء تقوقع وعداء ولكن تجاذب وتعارف واحترام لقانون الاختلاف والتنوع.
ختاما
ليست مشاريع الإصلاح والتغيير نزوة فرد، أو موضة جيل، أو مزايدة سياسية، أو إسقاطات خارجية، أو تجارب مخبرية! ليست هذه المشاريع التي كثر لغطها طفرة باهتة، ولا نفحة عابرة، ولا سحابة صيف شاردة، ولكنها عملية ومسار، يساهم فيها الداخل إن ثبتت إرادته وصحت عزيمته، والخارج إن تبين صفاءه وسلمت نيته. وليست الهزيمة التي تعيشها مجتمعاتنا وليدة طرف دون آخر وإن تباينت النسب وحمل الضلع الأعوج فيها وساهم في الأغلب في حدوثها الأنظمة الحاكمة ومن ساندها داخلا وخارجا مما يسحب عنها مصداقية الفعل والتفعيل ويتركه بتحدياته وثقله مطروحا على الجماهير.
[email protected]
* مدير تحرير مجلة مرايا باريس
التعليقات