تنقسم سيادة الدولة بصورة عامة الى جانبين مهمين، هما السيادة الخارجية التي تعني الاستقلال التام فيما يتعلق بشؤونها الخارجية والداخلية. اي بمعنى عدم تدخل اطراف خارجية في صياغة قراراتها او سلطتها على افرادها ومواردها وعلاقاتها الخارجية. والجانب الآخر هو فرض سلطة القانون او تحكمها التام في شؤون البلد وضمان عدم تأثير اطراف متمردة (الجماعات المسلحة بشكل خاص). وتتضح هنا صورة السيادة، ويمكن تشكلها على درجات وانواع من السيادة التي تنتقص وفقا لاتفاقات خارجية او داخلية، مرضية او مفروضة.
ووفقا لهذا فإن سيادة العراق ابان حكم صدام حسين كانت منقوصة ايضا، كما هو الحال مع العديد من الدول ومنها بعض دول المنطقة المستقرة منذ فترة حيث تعتبر منقوصة من ناحية مفهوم السيادة الخارجية.
وفي الشأن العراقي، يسبق الحديث (اعلاميا) عادة السيادة الخارجية على السيادة الداخلية، نتيجة لتعقيدات الوضع العراقي وتداعيات الحرب التي اسقطت نظام صدام، ووضعت اوزارها بالشكل الذي نشهده حتى الان، والذي تحركه وتفعله الاطراف ذات المصالح، القريبة منها والبعيدة بما فيها قوات الاحتلال.

ولعل وجود ميليشيات مسلحة في الشارع العراقي يعد تحديا كبيرا للحكومة العراقية لتثبيت سيادة الدولة واقرارها، خاصة وان هذه الحكومة حظيت بشبه اجماع من قبل الوان الطيف السياسي والاثني العراقية، والمجتمع الدولي بما فيها دول الجوار العراقي التي تتهمها بعض القوى السياسية العراقية بتأجيج الوضع الداخلي للبلد او تصدير الارهاب اليه.
ان وجود المليشيات المسلحة في الساحة العراقية اليوم يكاد يقتصر على قوات البيشمركة الكردية وقوات مقتدى الصدر المسماة "جيش المهدي"، حيث ان قوات بدر وقوات جيش العراق الحر التابعة لحزب المؤتمر الوطني العراقي، قد حلت نفسها وجناحها المسلح وتحولتا الى منظمتين مدنيتين. وقد ثبت ذلك فعليا على ما يبدو من خلال غياب دورهما العسكري واندماج بعض من عناصرهما في القوات االمسلحة العراقية سواء قوات الشرطة او الحرس الوطني، وهو ما تسير على خطاه قوات البيشمركة الكردية التي لها وضع خاص لا يمكن ان يقارن بغيرها من المليشيات العراقية المسلحة الاخرى والتي يرتاب البعض من وجودها واسمها اصلا.
فقوات البيشمركة هي قوات امن لاقليم كردستان الذي له وضع خاص منذ عام 1991، ولا يمكن تجاهل او نكران دورها في هذا الاقليم او مقارنه حتى وضعه بباقي اقاليم العراق، ولهذا فهي استثناء ومع ذلك يمكن دمجها في الواقع العراقي الجديد وفق هذا الاستثناء كما يبدي المسؤولون في هذا الاقليم العراقي.
اما ما يسمى بالمقاومة، فهي عمليات لمجموعات من الافراد تمتزج فيها اعمال المقاومة الحقيقية للمحتل وان اختلف البعض معها، باعمال الارهاب التي لا تريد الاستقرار للعراق وبالاعمال الاجرامية التي تقوم بها عصابات الجريمة المنظمة والعمليات الكيدية والثارية الشخصية.
بعد تسلم حكومة عراقية وان كان للبعض مآخذ عليها السلطات في العراق ومنها الملف الامني بات لزاما على المليشيات المسلحة ان تلقي بسلاحها او ان تبادر الى دمج قواتها في الاجهزة الامنية العراقية وهو مكسب كبير على ما نرى مقارنة ببقائها متمردة على سلطة الدولة. حيث تعزل نفسها عن المسيرة السياسية في البلد، وتعزز الاضطرابات واعمال الارهاب التي تحصد ارواح الابرياء من العراقيين وتخرب بنيتهم التحتية وتدمر مواردهم الاقتصادية الحيوية ووسائل راحتهم وعصب اقتصادهم وتقض مضاجع استقرارهم.
لقد خسر العراق الكثير من خيرة شبابه جراء الحروب والهجرة والارهاب، ويخسر التيار الصدري الكثير من ابنائه جراء معارك غير متكافئة. انهم ابناء العراق، امهاتهم امهات العراقيين الثكالى، عانين الكثير في ازمنة الاضطهاد والديكتاتورية والفقر ولازلن يعانين. انها نفس الوجوه الباكية ونفس العيون الدامعة ونفس الايدي اللاطمة فلماذا تتكرر مآسيهم؟!!

ان السؤال الذي يطرحه الكثيرون هو: لماذا توجد قوات مسلحة بإسم "جيش المهدي" مثلا؟!! حيث يتحفظ الكثير على هذه التسمية والتي تعد "طائفية" بنظرهم وهي تفرق اكثر مما توحد الصف العراقي. بل هي قنبلة موقوتة لتفجير أزمات طائفية.
نعم لقد لعب تيار الصدر منذ حركة السيد الصدر الاول ومرورا بالصدر الثاني دورا ايجابيا في النضال ضد السلطة الديكتاتورية السابقة. وبعد سقوط النظام كان لاتباعه دورا مشرفا في استتباب الامن واعادة البعض من ممتلكات الدولة التي وقعت بايديهم، وبمرور الوقت اتهموا بانهم مخترقون من قبل اتباع النظام السابق وقد اعترف بذلك بعض رموز تيار الصدر انفسهم كما عانى السيد مقتدى الصدر نفسه من البعض من المحسوبين عليه.
والان وبقيام حكومة عراقية مؤقتة او لنقل وجود قوات أمن عراقية في الشارع العراقي، نجد من اللائق بدور التيار الصدري دعم هذه القوات، لانها هي الاساس الذي تبنى عليه دولة القانون، وعليه دعمها ودعم استتباب القانون بالتنظيم والعمل واتباع الطرق الاجرائية الرسمية في حل التخاصمات، وان يساهموا بتوفير فرص العمل والمشاريع الاستثمارية التي تعيد تأهيل الكثير من العاطلين عن العمل. وقبل هذا وذاك ان لا يعطوا ذريعة للمحتل كي يطيل اقامته في البلد.
لقد كنا ننتظر من تيار الصدر ان يساهم في اجتثاث الارهاب الذي ورد الى البلد وبدأ يهدد البنية الوطنية العراقية ويلعب على وتر العرقية تارة والطائفية والمذهبية والدينية تارات اخرى.
وبالمحصلة فان السؤال الملح هو: لماذا تبقى مليشيات عراقية مسلحة؟ ولمصلحة من وخدمة من؟!!
ان تحقيق السيادة خارجيا يبدأ من تحقيق السيادة داخليا، فالسيادة تبدو منقوصة ايضا لو كان هناك عدم استقرار داخليا او بمعنى ادق هناك سلطة ظل تمارس سلطة فعلية وبقوة السلاح وتنازع قوات الشرطة الوطنية دورها بل تهددها في امنها. وعليه فان السلطة العراقية بادرت او ردت هذه الايام لاقرار سيادة الدولة على ما يتضح من خلال مجريات الاحداث في الشارع العراقي وفي ظل قرارات صارمة منها اعادة عقوبة الاعدام.
انه اختبار نوعي للدولة لاقرار السيادة داخليا وخارجيا.
تبقى لغة الحوار والطرق السلمية واشراك الاطراف المتنازعة (الوطنية) منها خاصة والتي تهمها مصلحة البلاد وتؤمن بالتغيير الجديد، في السلطة وصنع القرار ومحاولة دمجها في مجتمع ومؤسسات العراق سواء الحكومية منها او المدنية وتحت مظلة القانون وحب العراق، تبقى هذه الخيار الذي نؤمن به وندعو اليه حتى ينفذ.

* اكاديمي عراقي
[email protected]