عجيب أمر هذا العنوان فهو يتحدث عن انفصال، عن حالة طلاق، عن خنادق، عن أزمنة وعقود تفصل بين "نحن" وبين الديمقراطية. غريب أن نتحدث ونعيد الحديث ونجتره أياما وليالي، عن حالة وإطار، أصبح في أكثر بلاد الدنيا من المسلمات والبديهيات، التي لم يعد التعرض لها إلا من ترف الحديث، أو من دغدغات بعض النفوس المريضة، أو من كوابيس الأحلام المزعجة، أو حديثا عابرا عن التاريخ والجغرافيا، أو دروسا تلقى في أروقة الجامعات.
عندما نتحسس كتاباتنا وأفعالنا نجد هذه القطيعة بين أحلام اليقظة وممارسة الواقع المر.فتعددت إبداعات حكامنا حتى أورثنا الجمهوريات و"أصّلنا" الملكيات. وإذ كان علماء البلاط وحجاب السلطان لم يرعوا إلاّ ولا ذمّة فينا وفي الديمقراطية، فإن كتّاب الضفة الأخرى، من بقي خارج الحاشية وبعيدا عن القصر ومغرياته، قد نالهم البعض من الإعياء والنصب، فتنافس بعض منظّرينا وكُتّابنا نتيجة الإحباط والأمل المفقود في الديمقراطية وأخواتها، فسعوا إلى الرضاء بالقليل القليل في شأنها حتى يسهل استساغها، ونثبت لها مكانا ولو على عكازين، فسمعنا الحديث عن الديمقراطية المعاصرة والديمقراطية الإنسانية والديمقراطية المتدرجة، ولعله في القريب العاجل سوف نسمع بالديمقراطية "المتدكترة"، ولله في خلقه شؤون!
كم خفّ بريق الديمقراطية في أوطاننا رغم تلهّف الأهل والعشيرة لكيانها، حتى خلنا أن الحديث المتكاثر حولها، أملا وأحلاما، ليس إلا لعبة ومسرحية وفخا أوقعنا فيه أصحاب الجاه والصولجان، حتى نملّ الحديث عنها ونيأس من تنزيلها ونحبط فيها، ونلحقها بعجائب الدنيا السبع وأساطير ألف ليلة وليلة. ولعل أصحاب السعادة و الجلالة قد وصلوا إلى مبتغاهم فقد بدأ الأمل والإحباط يغزو بعض الشرائح من شعوبهم، وأصبحت النكات والدعابات حول الديمقراطية داخل الأسوار تعبر عن متنفس عند البعض، وعن وعي منقوص وهم مغشوش وأمل مفقود واستسلام وانسحاب عند البعض الآخر!
ورغم ثقتنا بأن الجماهير وإن خفّت شعلتها وألمّ بها الإحباط من كل جانب وفي كل حين وهي ترى الضياء يعمّ ديارا غير ديارها، فإن الرماد كثيرا ما يخفي بداية اللهيب واكتساح الأنوار، وإن أبطأ الفرج وتعطلت آليات النهوض والبعث لبعض الحين. فلم يبق يدندن حول الديمقراطية غير كاتب يسعى لكسب رغيف عيشه على أجر كلماته وتعابيره، أو أستاذ يعلّم الأحفاد ما غفل عنه الأجداد، وتقاعس عنه الآباء وناله الأجوار والخلان..! لم يبق غير نخب تدردش داخل الحدود على خرير نهر النيل أو الفرات، أو من وراء الحدود على صفيع نهر السين أو التاميز.
فقدنا الأمل في الأرض فتحولت وجوه بعضنا إلى السماء تبتغي نزول مهدي ليملأ دنيانا عدلا بعد أن ملئت جورا واستعلاء واستغفالا واستخفافا، وتوجه آخرون إلى السراب والضباب لعل فارسا يلوح من وراء الأكمّة يحمل في يد كتاب الكرامة وفي الأخرى كتاب الديمقراطية! وسعى طرف آخر يشكو إلى الأجوار ويتحسر على أيام الاستعمار، ويتمنى عودته ولو على ظهر دبابة تحمل شعارات التحرير والحرية.
لقد صارت أحاديثنا عن الديمقراطية من أغرب ما يكون، وكأننا نتحدث عن خلق عجيب وحال غريب، يصعب تصوره قبل تصويره، وتندر رؤيته أو تنعدم. هل هي نظام أم منهجية؟ هل هي شريعة أم طريقة؟ هل هي إطار أم عقيدة؟ هل هي ممارسة دستورية أم نظرية وأيديولوجيا؟ هل هي عملية أم برنامج وحلول؟.. ولا زالت عبقرية عقولنا تبحث عن المدلول والمفهوم وكأنها تسعى جاهدة إلى فبركة تصور يرضي الحاكم والمحكوم!!!
لن يهم مواطننا البسيط الكثير من الحديث السفسطائي الذي يريده الحاكم غالبا ويقع فيه المغلوب في بعض الأحيان من تشعب وشعاب للديمقراطية، فلو سألت أبسط الناس عندنا عنها، لأجابك ببساطة إنها صندوق اقتراع، إنها انتخاب الحاكم وعدم قهر المحكوم... إنه يفهم الديمقراطية على أساس أنها آليات تنظيمية تفوح منها رائحة الكرامة الاحترام والعدل والحرية، ولا يعنيه ارتباطها التاريخي بمعتقدات وأفكار وثقافات وأيديولوجيات، كل ما يريده أن يكون صوتا، أن يكون ورقة في صندوق يبشر بالحياة وليس جثمانا في صندوق يغادرها! إنها تعني أن كل فرد، من غير ولادة أو ثروة أو انقلاب، يستطيع أن يحكم البلاد، إنها تعني أن كل عضو في هذا المجتمع، دون أن يكون قرشيا كما فهمه بعض فقهائنا، أو نبيلا كما زعمه فلاسفة الإغريق، أو أرستقراطيا كما طبقته بعض المجتمعات، أو ابنا بارا للبوليتبيرو في المعسكرات الشرقية سابقا، أو ثريا حدّ النخاع كما تثبته بعض مجتمعات البورصة والكازينوات حاليا، يمكن لهذا العضو أن يقود بلاده أو أن يساهم في حكمها بما ييسره له صوته ومواطنته.
و لقد التقى حاضرنا المبتور مع بقاع عليلة من ماضينا، وارتبط السواد بالسواد ودخلنا دهاليز مظلمة أثبت أسسها نقل مغشوش وعقل منقوص، ووقع المحظور ولا يزال، وسوف نبقى نجر عواقب النكوص والانتكاس إذا لم تطرق البابَ الجرأةُ مع العلم، والشجاعةُ مع الوعي، والمرونةُ مع الحزم، ويكون للنقل باع، وللعقل باع، وليست بينهما خنادق ومفاصل وتنافر وعداء..!
ألم يخترع بعض علماءنا وفقهاءنا في يوم من أيام الله الخالدة إمارة الاستيلاء وأمراء التغلب، وباركوا الانقلاب والسطو والعصبية، وأبدع بعضهم في تركيب المتناقضات وأدخلوا الجمل في سَمّ الخياط، فتحدثوا عن المستبد العادل، وعن ملك غشوم خير من فتنة تدوم، ونظام الدنيا لا يحصل إلا بإمام مطاع مهما علا جبروته وظلمه، فشُرّع للظلم والغبن، وتم تأييس الجماهير من النهوض والخروج والمعارضة، حفاظا على وحدة الصف والجماعة، حتى لا تمرق منها كما يمرق السهم من زناده، وطُرحت فوق رؤوسها فتاوي الخروج من الملة والمروق عن الأمة، والطائفة الناجية، والخلود في النار.
هكذا لم يخرج وعينا المغشوش من اللحاق ببقاع في تاريخنا التحفت السواد في بعض ثناياها، وأصبح حاضرنا مليء بالتنابز بالألقاب حول من هو الأجدر بحمل شعلة الديمقراطية، رغم بهاتة لونها وهي لا زالت في علم الغيب، لم نلمس طرفا منها ولم نر شبحها! فالعلمانيون عندنا اعتبروها من بنات أفكارهم ومن مكاسبهم ومن أملاكهم الخاصة، حيث لا يكون ديمقراطيا إلا من ترك الأجداد وحالهم، وتنكّر للطربوش ولبس القبعة، وأصبحت الديمقراطية تحمل الإقصاء قبل ولادتها وتنذر بسقمها وعلتها. فلا ديمقراطية إلا لرافعي العلمانية!
وفي المقابل سعى الإسلاميون الإصلاحيون إلى الإعلان عن تمسكهم بهذا الوليد وإن تأخر قبولهم وطالت شكوكهم، وسعوا يبرهنون للقاصي والداني على جدية أقوالهم ومبدئية تعلقهم بهذا الحمل وإن عسر مخاضه! ورغم جمال العرض وتأكيد هذا المندوب الذي أصبح واجبا، غير أن كل الضفاف المقابلة لا زالت تشكك في صفاء قلوبهم وجدية انقلابهم، ودخلت النوايا والضمائر مكان العقل و الثقة والواقع، من أناس كثيرا ما تظاهروا بعقلانيتهم!
كل حكام بلاد ما بين البحرين يتحدث عن الديمقراطية ولن تجد صولجانا واحدا يدّعي غير ذلك، فمن خرج من الثكنة وجعل بلاده ثكنة لن يفاجئك بحديثه وخطبه عن الديمقراطية التي أعادها بعد غياب، وهو الذي كان غائبا داخل جدران ثكنته..، ومنهم من ورث كرسيه وتاجه وحاشيته لن يرى عيبا أن يلتحق بركب الدعاة داعيا إلى التعدد وهو لوحده جالس على عرشه..، ومنهم من كان معطاء أكثر من اللزوم فأنشأ الأحزاب بأمر رئاسي وأمر بالتعدد بقانون سلطاني وعيّن الأفكار وسمى القادة والزعماء في حفل توشيح النياشين، ورضي بعد مناشدة الجماهير أن يكون "أبو الديمقراطية" بعدما عانت المسكينة من يتم وقهر واستضعاف.
أليس باسم الديمقراطية قد عانت شعوبنا من اعتداء ومسخ للديمقراطية؟، من، من بين حكامنا وهو يسلخ الديمقراطية ويجنبنا "سوءاتها"، يدّعي أنه ديكتاتور لا يقبل بغير استبداده وجبروته؟...أخرجوا أحزابا وصلت عن طريق صناديق الانتخابات، دفاعا عن الديمقراطية! ورفضوا تمكين جماهيرهم من برلمانات ومجالس لعدم رشدها وخوفا على البلاد والعباد من قلة وعيها وعدم كنهها للمعادلات..! أصدروا قوانين تحدد من المقبول ليتحزب ومن لا يسعه إلا العيش وحيدا فريدا حتى لا يناله ضيم الناس ولا ينال الناس ضيمه، وحتى لا يقع التلاعب بالديمقراطية، فقدسيتها لا تجعلها تصح إلا لأصحاب الرسالات رغم انتهاء عصر النبوات..! جعلوا أنفسهم فوق "الأحزاب" حتى لا ينالهم خَبَث الديمقراطية من مساءلات وتقويم ومحاسبة وتقييم، رفضوا مأسسة الديمقراطية وهي التي لا تعيش خارج المؤسسة، حبا فينا وخوفا علينا، وحفاظا على مرونتها، حتى لا تكون متينة صلبة فتكسر حين لا تقبل المساومة والمماحكة، فنخسرهم ونخسر الديمقراطية!.
سوف تجد في بلاد الناس، في بلاد بني الأصفر أو الأزرق، شوارع وطرقا وشعاب تحمل أسماء الحرية والديمقراطية، وسوف تجد في آخر الطريق أو وسطه تمثالا يذكرك بملحمتها ويعبّر على سيادتها، وسوف تجد في بلادنا نفس الأسماء، غير أنك لن تفاجأ إذا انتصب في آخر طريق الحرية أو الديمقراطية أو في أطرافه سجن أو معتقل لأناس ومواطنين أرادوها أن تكون نهجا في حياتهم وليست طريقا فقط لسياراتهم وأحذيتهم!
لعل البعض يزعم أن رحلتنا مع الديمقراطية لم تبدأ ولن تبدأ، فالأهلية مفقودة والآفاق مسدودة والعزائم مشلولة!، أو لعل جيناتنا قد حكمت علينا بعدم قبولها ولفضها كما يزعم آخرون، فهي كيان غريب عن أجسامنا، لا تستسيغه عقليتنا وهويتنا وثقافتنا وتقاليدنا، أو لعلنا لسنا أهلا لها فكما تكونوا يولى عليكم، أولعلها حلم لن يقع وأمل في سراب...أو لعلها كل ذلك! ولكن...عجلة التاريخ لا تعود إلى الوراء، وإرادة الشعوب إن سعت إلى الخلاص لا ترد والعالم قرية، ولحظة الصفر الحضارية قد حلّ أوانها وإن غاب عند البعض ملامحها وآياتها. يقول علي بن أبي طالب: " أيها الناس.. إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمّرتم".
[email protected]
مدير تحرير مجلة "مرايا" باريس