تتحمّل الولايات المتحدة رصيدا كبيرا من كراهية الشعوب العربية و الإسلامية لها، وهي تدرك أنّ دعمها اللامنتهي لإسرائيل يقف حائلا أساسيا أمام تحسين صورتها لدى أكثر من مليار مسلم. و من جهة اخرى، لم تصل المعاناة التي سبّبتها و لا تزال تسببها إسرائيل للشعب الفلسطيني و لشعوب المنطقة إلى عقول و قلوب قرابة الثلاثمائة مليون أمريكي من مسيحيين أو لا دينيين. و لا يخفى على أحد مدى التعاون و التداخل في سياستي البلدين، و تكفي الإشارة إلى أنّ بعض المخططات المتعلقة بالقضية الفلسطينية تناقش تباعا في الكنيست الإسرائيلي ثم في الكونغرس الأمريكي. لا بدّ لنا إذن من فهم العلاقة الأمريكية-الإسرائيلية الفريدة من نوعها من خلال خصوصياتها التاريخية و الإنسانية. و قد يكون فهمنا لطبيعة تلك العلاقة أمرا ضروريا لتجاوز فشلنا الذّريع في السابق، و إعادة النظر في الأساليب المتبعة إلى حد الآن في التعامل مع القضية المركزية للعرب. و رغم وجود مصالح إستراتيجية مشتركة بين العرب و الأمريكيين أيضا، فانه يبدو أنّ العرب لم يستفيدوا من جميع الإمكانات المتاحة لفائدتهم. لقد وصل تفضيل أمريكا لإسرائيل على العرب إلى درجة لم يسبق لها مثيل، فقد تعهّد المرشح الديمقراطي للرئاسة الأمريكية جون كيري، ضمن برنامجه الانتخابي المستقبلي، بترك الاعتماد على نفط الشرق الأوسط في حال انتخابه، رغم وجود ثلثي الاحتياط العالمي للنفط في تلك المنطقة. فهو يعتقد أن الأموال المتأتية من النفط إذا زادت عن الحاجة فستؤول حتما إلى حسابات الحركات الإسلامية. إنّنا أمام مفارقة عجيبة، إذ يبدو ظاهريا أن إسرائيل لم تُفد الولايات المتحدة كثيرا في الماضي، بل أضّرت بها، و أخيرا و ليس آخرا أدخلتها في دوّامة الإرهاب و الفزع. كما انه ليس هناك ما يدل على أن الشعوب العربية و الإسلامية ستتقبل التّطبيع مع إسرائيل في المستقبل القريب. و لهذا ستبقى إسرائيل عالة على بقية يهود العالم و على الدولة العظمى.
بالرغم من وجود توافق في بعض الأهداف البعيدة المدى، فإنّ من السهل ملاحظة اختلاف كبير في موقفي الولايات المتحدة و أوروبا تجاه إسرائيل. فالإصرار الأمريكي على دعم إسرائيل واضح و ثابت، و هو يختلف عن موقف أوروبا المتأرجح بين الدّعم الخفي تارة و بين الانتقاد الذي لا يتجاوز وسائل الإعلام في اغلب الأحيان تارة أخرى. و كما يُفهم من عنوان هذا المقال، فإن أوروبا تتحمّل مسؤولية تاريخية و رئيسية في تكوين الدولة الصهيونية على أرض فلسطين. بينما يتعاطف الأمريكان، و خاصّة البروتستانت منهم، مع اليهود لأنهم يعتبرونهم ضحايا تعرضوا لاضطهاد أوروبي طيلة قرون. فهم لذلك يعتبرون أنفسهم أكثر إنسانية و رأفة من الأوروبيين الكاثوليك. و قد قام اللوبي اليهودي المنظم بعمل دؤوب لكسب الشعب الأمريكي الواقع تحت تأثير موجة الصدمة التي أحدثتها عمليات إبادة اليهود في أوروبا. و الآن يتعمّد الأوروبيون الآن نسيان ما حدث لليهود في الماضي، و يحاولون التكفير عنه باستمالة يهود إسرائيل. إلا أن نتائج استطلاعات رأي حديثة أكدت أن وجهة نظر الأوروبيين تجاه اليهود، رغم أن السؤال كان متعلقا بإسرائيل، لم تتغير، فأغلب الأوروبيين لا يؤيدون سياسات إسرائيل بل هم يعتبرونها أكبر خطر وشيك على السلم العالمي. و تعود كراهية اليهود في أوروبا المسيحية إلى عدّة قرون ماضية، ففي القرنين الخامس عشر و السادس عشر رافق عشرات الآلاف من اليهود المسلمين بعد أن طردوا من الأندلس على يد الملوك النصارى، و استقر جميعهم في دول المسلمين بشمال إفريقيا. و معلوم أيضا أن هتلر و حزبه الاشتراكي وصلا إلى السلطة في ألمانيا عبر صناديق الاقتراع أي بآراء المواطنين، كما كانت راية هتلر راية صليبية واضحة. و بمجرد احتلال ألمانيا النازية للدول الأوروبية انتقل اضطهاد اليهود إلى الدول المحتلة و من تلقاء نفس شعوبها. كان بروز اليهود الذين بقوا في أوروبا لافتا بعد ظهور البورجوازية الجديدة في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر، فامتهنوا التجارة و سيطروا على جل المهن الحساسة و المربحة في المجتمع. وقد ذكر هتلر في مذكراته كيف ضاق ذرعا بتواجد اليهود في جميع المراكز الأساسية فذكر كيف كان يذهب إلى البنك فيجد يهودي، و يذهب إلى الخباز فيجده يهودي أيضا و التاجر الخ...
بعد تولّد و اتساع الكراهية و العداوة تجاههم، هاجر العديد من اليهود الأغنياء بأموالهم إلى الولايات المتحدة. و سرعان ما تألقوا هنالك فأنجبوا العديد من العلماء و المخترعين، و أثروا بسرعة في عالم رأسمالي ليبرالي لا يعرف الحواجز و الحدود. و من هنا نفهم كيف وصل اليهود الأمريكان إلى ما هم عليه الآن، و كيف سيطروا، رغم قلة عددهم، على أهمّ مراكز القرار السياسي الأمريكي و على مفاصل الاقتصاد الرأسمالي، فأصبحوا بذلك متحكمين في الاقتصاد العالمي. و قد شجعت سياسات الولايات المتحدة التي تسمح للمجموعات العرقية و الدينية المختلفة بالحفاظ على خصوصياتها (Communautarism) على بروز اليهود كأبرز جالية متماسكة و مؤثرة كما ذكرنا سابقا. و للأسف لم يستفد المهاجرون العرب في ذلك الوقت من مساحة الحرية المتاحة في الولايات المتحدة لتكوين لوبي عربي على غرار اللوبي اليهودي، لعل ذلك راجع إلى تأخر اكتشاف النفط لديهم، فقد سبقهم اليهود في ميدان المال و الأعمال بقرنين على الأقل. ثم برز التأمر الصهيوني جليا، ففي سنة 1897، و في أوروبا تحديدا، قررت الحركة الجديدة لليهود المسماة "الصهيونية" بناء دولة إسرائيل على أرض فلسطين التي اعتُبرت زورا "أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض". و اثر الحرب العالمية الأولى، و بعد تدمير الدولة العثمانية التي كانت مهابة رغم مرضها، رأى الأوروبيون أن العالم العربي مهلهل، بعد أن تشرذم و تحوّل إلى فسيفساء لدويلات ضعيفة لا حول لها و لا قوة، و كان أغلبها تحت الاستعمار أو الانتداب، لا فرق، و حسبوا أن نهوض العالم العربي من سباته يتطلب عدة قرون من الزمن، فقرروا تنفيذ وعد بلفور و زرع هذا الكيان الغريب. و هكذا ضرب الأوروبيون عصفورين بحجر واحد، كان هدفهم الأول تخلّصهم من اليهود من على أرضهم، و الثاني جعل إسرائيل شوكة في خاصرة العربي و الإسلامي مما سيجعل عدوّيهم السابقين في صراع دائم لفترة غير قصيرة، خاصّة، لأنه سيكون بمقدورهم دائما إطالة أمد الصراع بترجيح كفّة الضعيف. إنها سياسة الاحتواء المزدوج. كما تمكّن الأوروبيون من تحقيق حلم قديم يعود إلى القرون الوسطى و هو افتكاك ارض الرسالات من المسلمين بعد أن تعذّر ذلك على جيوشهم. لقد بقوا في خوف مستمر من المسلمين الذين وصلوا إلى مدينة بواتييه بشمال فرنسا من الشرق و حاصروا فيينا من الغرب.
و قد تواصل الدعم الأوروبي لإسرائيل حتى وقف هذا الكيان على ساقيه كما خُطّط له آنفا. وكان هذا الدعم في أغلب الأحيان سرّيا لكي لا يغضب الأصدقاء العرب الذين هم أقرب جغرافيا إلى أوروبا من إسرائيل. و قد تجلى هذا الدعم خاصّة في سنة 1957 عندما سلمت فرنسا إسرائيل التقنية النووية كردّ على دعم عبد الناصر للثوار الجزائريين في حربهم التحريرية. و لم تكن الولايات المتحدة موافقة على تزويد إسرائيل بالسلاح النووي. كذلك تحالفت أوروبا مع إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر الذي نأت عنه أمريكا أيضا. و قبل أيام فقط، سمعنا عن مساعدة فرنسية في تحديث الطائرات الإسرائيلية، و لعل ما خفي هو أعظم.
للأسف، بعد كل هذه الحقائق التاريخية، مازال البعض يراهن على وقوف الأوروبيين إلى جانب العرب و المسلمين في قضاياهم، و هم الذين استعمروهم و نهبوا خيراتهم قبل إسرائيل. كما لا يزال العديد من المفكرين العرب يفندون حقيقة الاضطهاد الأوروبي لليهود، و في اعتقادهم أنهم يخدمون قضيتهم، و هم في الواقع، يؤدون خدمة للأوروبيين بتبرئتهم.
إنّ مواقف الأوروبيين من قضايا منطقتنا تبقى مرتبطة إلى حدّ كبير بعلاقتهم مع الولايات المتحدة و بمصالحهم الاقتصادية لا غير. فإذا ساءت علاقتهم مع الولايات المتحدة، كما حدث في العراق، تظاهروا بمخالفتها لغرض الابتزاز فقط، و ما أن تلتقي مصالحهم حتى يترك الجميع العرب أمام مصيرهم البائس. كما لم تزُل أبدا الأطماع الأوروبية في المغرب العربي الذي ما تزال أراضيه و جزره محتلة.

المبروك بن عبد العزيز [email protected]