وسط نواح الأرامل ودموع الأيتام وانين ضحايا مقاتلات ( الحرية) وإرهاب مدافع دبابات (المحررين ) وهي تدك الأحياء الآمنة في النجف والفلوجة وسامراء والحلة وبعقوبة ومدينة الثورة وغيرها من مدن العراق الرافضة لاحتلال، انعقد مؤتمر تفتيت العراق وتعزيز الهيمنة الأمريكية على مقدراته السياسية والاقتصادية.
انعقد مؤتمر تغييب إرادة شعب العراق والذي أطلق عليه، ويا للمهزلة اسم
( المؤتمر الوطني) في وقت كان الدم العراقي يسفك فيه بشراهة وحقد غريبين، وتحاصر فيه مدن العراق، وتستباح فيه ما تبقى من حرمات العراقيين وكرامتهم.

لقد تم عقد المؤتمر الفاشل صيغة وأهدافا اثر ضغوط كبيرة مارستها الإدارة الأمريكية والمافيات السياسية العراقية المتحالفة معها لضمان انعقاده في الوقت والصيغة المقررة سلفا والمرتبطة مع البرنامج الانتخابي للرئيس الأمريكي بوش. فقدمت إدارة الاحتلال وحكومة علاوي والتنظيمات المرتبطة بها محفزات ووعود ومواقف لم تخلو بعضها من التهديد العلني والمبطن إلى الإطراف الرافضة للمؤتمر.
قبل الولوج في تفاصيل أهداف المؤتمر ونتائجه قد يكون من الضروري الإشارة إلى التزامن الوثيق بين انعقاد المؤتمر وبين تصاعد حدة الهجمات التي شنتها القوات الأمريكية تساندها قوات " الليفي" الجديدة المتكونة من ميليشيات الأحزاب العميلة المرتبطة بمشروع الاحتلال على الفلوجة والنجف وغيرها من مدن العراق.
لم يكن هذا التزامن أمرا عشوائيا بل إن الدافع الأساس للتصعيد العسكري لا يمكن تفسيره إلا كمحاولة تستهدف تصفية الحركات والتجمعات الوطنية الرافضة للمشاركة في المؤتمر، وعلى إرغامها على قبول الصياغة الأمريكية لمستقبل العراق.
لقد قدمت إدارة الاحتلال وأجهزتها الإعلامية المؤتمر كضرورة ملزمة لنقل الحالة السياسية في العراق من الوضع الانتقالي إلى الوضع السياسي الدستوري الدائم، وعلى كونه مدخلا لبناء عراق ديمقراطي جديد، وتقود إلى نظام سياسي تعددي فدرالي مستقر.؟!
إن مراجعة متأنية لمتغيرات المعادلة السياسية العراقية ولأهداف مشروع الاحتلال تمكننا من اكتشاف حقيقية الأهداف الفعلية لا نعقاد المؤتمر المختلفة كليا عن تلك المعلنة، وبكونها تتناقض مع المصالح الحيوية لشعب العراق. فالمؤتمر يهدف إلى تحقيق الأهداف التالية:
أولا: تكريس مشروع الاحتلال وتعزيز السيطرة الأمريكية على مقدرات العراق السياسية وموارده الاقتصادية.
ثانيا. العمل على تأسيس نظام سياسي مسخ مرتبط بالإدارة الأمريكية يتحكم في متغيراته وقراراته السفير الأمريكي في بغداد. أن تركيبة وأهداف النظام الجديد يفترض انسجامها مع التصورات الأمريكية لمستقبل العراق والمنطقة، وتماثلها مع طبيعة الأنظمة العربية الحليفة للإدارة الأمريكية وخاصة محميات الخليج العربي.
ثالثا: توفير الأرضية السياسية المطلوبة لتمرير مشروع تغيير الهوية الوطنية والقومية للعراق، وتفتيت وحدته الوطنية ووحدة ترابه الوطني من خلال تبني خيار الفدرالية وتشجيع إقامة كيانات طائفية هشة. نجاح مشروع احتلال العراق وفقا للاستراتيجية التوسعية للمحافظين الجدد يشكل مدخلا ضروريا لتغيير الخارطة السياسية للمنطقة وبشكل ينسجم مع اولويات ومتطلبات استراتيجية التوسع الصهيوني.

رابعا: تحقيق إنجاز سياسي متميز في العراق يمكن الإدارة الأمريكية من استثماره داخليا في تعزيز الموقع الانتخابي الغير مستقر للرئيس الأمريكي. وانطلاقا من ذلك فان معدي المؤتمر حرصوا على إخراجه بشكل يوحي للأسرة الدولية وللشعب الأمريكي بوجه خاص بقدرة إدارة بوش على تحقيق إنجازات مهمة على صعيد البناء الديمقراطي في العراق، ويقلل من حدة الانتقادات الموجهة لها جراء إخفاقها الكبير في العراق.
ثمة ملاحظات مهمة لابد من تثبيتها على صيغة انعقاد المؤتمر ونتائجه.
1.انتفاء الشرعية الوطنية عن المؤتمر والنتائج المترتبة عنه. مشاركة 1300 شخصية تمثل 71 حزبا سياسيا عراقيا هامشيا لا يمنح المؤتمر الشرعية الوطنية المطلوبة ولا التمثيل الوطني الواسع والمتوازن. فالحركات المشاركة في المؤتمر تمثل أما حركات تحالفت مع الإدارة الأمريكية في شن حربها الإجرامية على العراق واحتلاله، أو حركات مجهرية باحثة عن ادوار في التركيبة السياسية العراقية ساهم الاحتلال في قيامها لا سباب دعائية بحتة.
هامشية المؤتمر وفقدانه الصفة التمثيلية الوطنية برزت بشكل واضح في غياب الحركات الوطنية ذات الثقل الوطني الكبير والمعبرة عن طموحات قاعدة جماهيرية واسعة وعدم حضورها المؤتمر ورفضها لمشروعه ونتائجه جملة وتفصيلا.
2. نتائج المؤتمر لم تتجاوز الإعلان عن أسماء أعضاء ما يسمى" بالمجلس الوطني" المخطط له القيام بمهام سلطة تشريعية صورية مؤقتة، وتمارس واجباتها استنادا إلى بنود اتفاقية بريمر- ألجلبي، وبنود قانون إدارة الدولة العراقية السيئ الصيت. فتم تثبيت أسماء أل 81 شخصية المنتقاة من قبل إدارة الاحتلال، وإعادة فرض أل 19 عضوا من أعضاء مجلس الحكم المنحل تعويضا لهم على فقدانهم لمواقعهم الحكومية وامتيازاتهم في الجولة السابقة من مسلسل تفتيت العراق. مراجعة قائمة أسماء أعضاء المجلس تعكس حقيقة أن اختيارهم تم استنادا إلى نفس الأسس والمعايير الحصصية والتمثيلية الطائفية والعرقية التي تبنتها إدارة الاحتلال كسياسية جديدة متبعة في إشغال المراكز الحكومية وخاصة القيادية منها. من المؤكد أن لجوء إدارة الاحتلال إلى أتباع هذا الأسلوب الخاطىء في اختيار أعضاء المجلس وإعادة فرض العاطلين سياسيا من أعضاء مجلس الحكم الانتقالي البائس، تتنافى مع ابسط مسلمات العمل الديمقراطي التي يتبجح فؤاد معصوم وسادته بتقديمها إلى المجتمع العراقي.
3. على الرغم من إن المشروع السياسي المفترض للعراق خلال المرحلة القادمة يمنح المجلس بعض الصلاحيات والمهام الرقابية والتشريعية، إلا أن المجلس يبقى مجلسا صوريا استشاريا ذو صلاحيات شكلية ومحددة. فصلاحيات المجلس لن تتجاوز الرقابة المحدودة على الإنفاق الحكومي، ومراقبة الأداء الخدمي لوزارات الدولة الثانوية ولا تشمل الرقابة على الجوانب الأساسية والسيادية للدولة العراقية كالأمن والدفاع والسياسية الخارجية وتحديد السياسية الإنتاجية والسعرية للقطاع النفطي.

4. إن النتائج الهزيلة للمؤتمر تشكل في أفضل حالتها إجهاضا مبكرا لأية عملية تغيير ديمقراطي حقيقي في العراق، وتمثل تغييبا متعمدا للإرادة الحرة لشعب العراق. فالتحديد المسبق لأعضاء المجلس استنادا إلى حرصهم على إنجاح المشروع الأمريكي، وعلى انتمائهم لحركات سياسية متحالفة مصيريا مع الإدارة الأمريكية، وبناء على أسس ومعايير حصصية تمثيلية ضيقة، والإصرار على إعادة فرض أعضاء مجلس الحكم المنحل على شعب العراق بالرغم من فشلهم في إيجاد حلول للتحديات التي واجهها شعب العراق خلال المرحلة الماضية، كلها إجراءات تتناقض مع متطلبات عملية البناء الديمقراطي.
من المؤكد إن شعب العراق المغيب عن عملية اتخاذ القرار السياسي والاقتصادي ليس معنيا بقرارات مؤتمرا انعقد لتعزيز مشاريع محتليه، وتقود إلى تفتيت وحدته الوطنية، وتهدر كرامة أراضيه وسيادته. وشعب العراق وقواه الوطنية ليسوا ملزمين بقرارات مؤتمرين حريصين على مصالح السيد المحتل وليس على حماية مصالح شعب العراق ومكتسباته.
قد يتمكن المؤتمرون واعتمادا على القوة العسكرية المفرطة لجيش الاحتلال من فرض إجراءات وصيغ صورية على شعب العراق لفترة قصيرة من الزمن، إلا إن مصير هذا المؤتمر المشبوه وقراراته لن تكون إلا الفشل المؤكد. فوحدة شعب العراق وهويته الوطنية والقومية أمران راسخان في ضمير الشخصية الوطنية لن تتمكن مشاريع هشة من تغييرها تحت أي يافطات مزيفة، وضمن أي مشاريع حتى وان كانت مشاريع تقف وراء إعدادها و تنفيذها القوة الكونية الأعظم.