في العراق المحتل " الجديد" ليست هنالك محرمات أو ثوابت وطنية لا يمكن الإخلال بها. فأبواب الخيانة الوطنية ونوافذها غدت مشرعة على مصراعيها في انتظار بائعي الوطن وتاريخه، وأمسى تغيير الانتماء السياسي والعبور إلى الخنادق المضادة السمة السائدة والصفقة الأكثر ربحا لسياسي العراق" الجديد".
في قيادة العراق "الجديد " ثمة مزيج سياسي غريب العناصر، شاذ الملامح تحول فيه المنظرين المضادين لحركة التطور الإمبريالي إلى مسوقين للمشروع الأمريكي في العراق والمنطقة، وتقمص فيه المجاهدين ضد الاستكبار العالمي والشيطان الأكبر دورا المبشرين بقدوم المخلص الأمريكي!
في موسم الازدهار الشعوبي والانحلال الوطني في العراق "الجديد" باتت كل الطروحات مقبولة طالما لم تتناقض مع اولويات المشروع التوسعي للمحافظين الجدد.
فلا ضير في أن تطالب الأحزاب الانفصالية الكردية بضم القسم الأكبر من محافظة ديالى العربية إلى كيانها الانفصالي، وان يطالب مسيحيي العراق في إقامة مقاطعة إدارية خاصة بهم شمال الموصل، وان يهدد سياسي ارعن بتشكيل فدرالية جنوبية تقوم على معيار طائفي إذا لم يتم تحقيق أهداف فئوية ضيقة، وتطالب مجموعة سياسية ضالة بإقامة كيان شيعي يمتد من حدود سامراء إلى جنوب البصرة!؟ موسم يجاهر فيه رئيس وزراء العراق "الجديد" أياد علاوي متفاخرا في علاقته مع خمسة عشر جهاز مخابرات أجنبي دون حياء أو وازع وطني وأخلاقي؟!
وانسجاما مع هذا التسابق المحموم لتقطيع أوصال العراق وتهميش دوره الإنساني، بدء (حلفاء) الاحتلال بطرح مشروع مشبوه جديد يتضمن إقامة منطقة دينية محايدة سياسيا وعسكريا في النجف على غرار النموذج الفاتيكاني. ملامح هذا المشروع الخطير بدأت
في التبلور والظهور بشكل واضح في عملية إخراج وإعادة السيد علي السيستاني من والى النجف.
لقد أثارت رحلة أو عملية أبعاد المرجع الديني الكبير إلى لندن في الوقت الذي كانت تطبق فيه القوات الأمريكية المطعمة ولأسباب دعائية بوحدات من قوات الليفي الجديدة
على مدينة النجف، العديد من التساؤلات التي لم يجد المحللين السياسيين، والمواطنين العراقيين أجوبة مقنعة لها. الرحلة وتوقيتها حملت الكثير من الغموض السياسي، و لعل الأمر الأكثر غرابة وغموضا في هذه المسرحية يكمن في إن عملية إبعاده عن نيران المدافع وهدير هتافات المقاومين ورصاصهم طغت عليها السرية الكاملة، في حين إن عودته إلى العراق والنجف تم الإعلان عنها والتمهيد إليها بشكل مسبق وعلني، ووفرت لها تغطية سياسية وإعلامية مكثفة ولا سيما رحلته من البصرة ودخوله مدينة النجف كمخلص؟
لقد طرح منظمو الرحلة العديد من التفسيرات لأسباب ابتعاد السيستاني عن النجف في تلك الأيام العصيبة من تاريخ العراق والنجف وعودته السريعة إلى العراق،إلا أن تلك الطروحات تبقى في أفضل حالاتها طروحات واهية لا يمكن القبول بها. من المؤكد أن عملية إبعاد السيد السيستاني وإرجاعه إلى العراق لا ترتبط بالتطورات الراهنة في الصراع العراقي الأمريكي وأحداث النجف فحسب، بل وفي التوجهات الجديدة لخطة الاحتلال بعد أن توصلت الإدارة الأمريكية إلى قناعة مفادها إن القضاء على المقاومة الوطنية المناهضة لمشروع الاحتلال وتصفيتها تتطلبان وقتا أطول بكثير مما توقعه مخططيها.
لقد راهنت القيادة الميدانية الأمريكية واستناد على عقيدتها العسكرية القائمة على استخدام القوة المفرطة على قدرتها في القضاء السريع على المقاومة العراقية وعلى مقاتلي جيش المهدي الذي يمثل الجناح العسكري لتيار الصدر، وكذلك على قدرتها على تصفية وحسم الإزعاج السياسي والتحدي العسكري لمقتدى الصدر وحركته المتنامية سياسيا وعسكريا في بغداد ومدن جنوب العراق. من هنا جاء القرار بتصفية هذه البؤرة المزعجة، فبدأت قوات الاحتلال تصعيدها العسكري على مقاتلي جيش المهدي في مدينة النجف الاشرف التي تمثل رمزا مهما للشيعة بشكل خاص وللمسلمين وللعراقيين بشكل عام لدورها التاريخي في تعبئة الجماهير في كل الانتفاضات الرافضة لمحتلي العراق. التصعيد الأمريكي في النجف تزامن مع تصعيد مشابه على حي الثورة في بغداد ومع
استمرا ر القصف المركز على مواقع معينة في مدينتي الفلوجة والرمادي وسامراء والموصل وغيرها.
وعلى الرغم من الفجوة الكبيرة في القدرات التسليحية والتعبوية للطرفين فان القوات
الأمريكية عجزت عن حسم الموقف لصالحها وفشلت في تصفية جيش المهدي باستخدام الوسائل التقليدية. هذا العجز وضع القيادة الأمريكية أمام خيارات سياسية وعسكرية معقدة. فأما التراجع وتأجيل معركة الحسم، أو استخدام أساليب عسكرية غير تقليدية. القبول بالخيار الأول كان مستبعدا منذ البداية لأسباب عديدة ومعروفة، أما الخيار الثاني فقد واجهه عائقان أساسيان: الأول ويتمثل في إن ساحة عمليات النجف، ساحة معقدة عسكريا نظرا لتمركز القتال والمقاتلين في إحياء النجف القديمة وفي نطاق مرقد الإمام علي (ع). هذا التمركز فرض على المخطط العسكري الأمريكي قيودا عسكرية ذو إبعاد سياسية تفرضها ضرورة تجنب إصابة المرقد الشريف لما قد ينجم عن ذلك من مخاطر سياسية كبيرة.
والعائق الثاني، يتمثل في وجود السيد علي السيستاني في النجف وما سوف يسببه التصعيد العسكري الأمريكي من إحراج له، خاصة وان هناك قطاعات عراقية واسعة طالبت وما زالت تطالب السيستاني في اتخاذ مواقف رافضة للاحتلال الأمريكي البشع للعراق بشكل واضح وقاطع. ومن هنا برزت ضرورة إبعاد السيد السيستاني عن ساحة الصراع في النجف وعدم إحراج المرجعية بجعلها شاهدا صامتا على مجزرة تصفية شباب العراق في النجف الرافض لكل أنواع الهيمنة الأجنبية.
لقد ساعدت مغادرة السيد السيستاني النجف المحتل الأمريكي على تصعيد هجماته العسكرية على مواقع جيش المهدي في النجف للقضاء عليهم وإخراجهم من معادلة المواجهة سياسيا وعسكريا. وحققت القوات الأمريكية إنجازات عسكرية واضحة واقتربت من محيط المرقد إلا إنها فشلت في تحقيق الحسم المطلوب على الرغم من تفوقها العسكري، وبالرغم من المناورات السياسية غير النزيهة التي مارستها إطراف عراقية متحالفة مع سلطات الاحتلال والضغوط التي مارسها وفد المؤتمر اللاوطني على مقتدى الصدر لدفعه إلى التخلي عن خيار المقاومة والانضمام إلى المهزلة السياسية التي يتم تمريرها على شعب العراق تحت شعارات الحل السياسي وغيرها من ألاعيب أنصار الاحتلال.
هذا العجز في تحقيق الحسم العسكري دفع إدارة الاحتلال وحكومتها وأنصارها إلى التفكير في صيغة جديدة تخرجهم من مأزق النجف، فانبثقت فكرة إقامة "الفاتيكان الشيعية " في النجف والتي تمثل وبدون أدنى شك، خطر جسيم على مستقبل وحدة شعب العراق ومصالحه وسيادته، وعلى نقاوة تاريخ أبناء شعبنا أحفاد أبطال ثورة العشرين، لكونها تؤسس لتقسيم العراق وإكمال ما بدئت به الحركات الانفصالية في شمال العراق في إطار الخطة الأساسية لمشروع الاحتلال القائمة على تقسيم العراق على أسس عرقية وطائفية.
لقد تم إخراج عودة السيستاني وما رافقها من ترتيبات وبشكل يوحي على إنها تمثل خطوة جوهرية نحو إيجاد مخرج سلمي لازمة النجف والجنوب العراقي، ولتضفي على السيد السيستاني صفة المنقذ الوحيد لشعب العراق من محنة الاحتلال!؟ فتم عقد ما يسمى " بالاتفاق ذو النقاط الخمس " بين مرجعية السيستاني والتيار الصدري لإيجاد حلا سلميا لمشكلة النجف أو لمأزق الاحتلال وحكومة علاوي على وجه التحديد.
أحدى فقرات الاتفاق تنص على حل جيش المهدي وعلى جعل مدينة النجف منطقة منزوعة السلاح عسكريا باستثناء ترسانة السلاح الأمريكي وسلاح الميليشيات الحليفة لها. إن تنفيذ هذا البند يشكل في تقديرنا الخطوة الأولى من خطوات مخطط إنشاء كيان إداري وسياسي للحوزة في مدينة النجف بشكل يقود إلى إخراجها من معادلة الصراع العراقي ضد الاحتلال. الفكرة العامة للمخطط تقوم على تبني نموذجا مشابها لكيان الفاتيكان من خلال جعل مدينة النجف وربما يضاف إليها مدينة الكوفة قطاعا محايدا سياسيا و منزوع السلاح عسكريا على نمط الفاتيكان. المبررات المقدمة لقيام هذا المشروع الخبيث تستند على فكرة إن قيام الفاتيكان النجفية سيحمي المرجعية الشيعية من الضغوط السياسية المستقبلية، ويمنحها حصانة وحماية من ضغوط أجهزة الدولة العراقية، وبشكل يساعد المرجعية على المحافظة على قدر كبير من الاستقلالية الدينية والسياسية!
إن نجاح تنفيذ هذا المشروع المشبوه في تحقق حيادية المرجعية الدينية الشيعية وعزلها عن الجماهير الرافضة للاحتلال الأمريكي سيشكل وبدون شك ضربة فعالة لحركة المقاومة الوطنية، وعائقا كبيرا أمام تطورها وتناميها، ويؤدي إلى إخراج مؤسسة ذات تأثير سياسي واجتماعي هائل على مستقبل الاحتلال. مؤسسة لعبت تاريخا دورا مؤثرا وفعالا في تحفيز المجتمع العراقي وتعبئته سياسيا ووطنيا.
لقد أدركت الإدارة الأمريكية اعتمادا على معطيات المرحلة الماضية حقيقة إن الصراع مع فصائل المقاومة العراقية سيكون صراعا طويلا سيمتد إلى سنوات عديدة قادمة. كما وأنها أدركت أن مواجهة الشارع الشيعي مهمة شاقة وعسيرة، وشعرت في بوادر عودة الوعي إلى قسم من الشارع العراقي المخدر مما قد يقود إلى اكتمال حلقة الرفض العراقي للاحتلال ومؤسساته. لذلك كان المطلوب تحقيق حيادية الحوزة وإجهاض أي دور مستقبلي لها في الصراع المتصاعد والمؤكد ضد الاحتلال.
قيام فاتيكان النجف لن يقدم زخما كبيرا لمشروع الاحتلال فحسب، بل سيوفر غطاء
سياسيا للفئات المترددة في اتخاذ موقف رافض للاحتلال، ويعفيها من مسؤولية إعلان الجهاد ضده، لا بل ويؤدي إلى وضع القوى العراقية الشيعية المناهضة للاحتلال
كالتيار الصدري في موقع متقاطع مع موقف المرجعية المحايد. ولا شك في إنجاز هذا المشروع الاستعماري يحقق ضربة إحباطية لحركة التحرر الوطني لشعب العراق، ويشكل إجهاضا لطموحاته وآماله الوطنية، وانتصارا سياسيا كبير لمشروع الاحتلال وحلفائها المحليين.
من المهم أن نشيرالى أن هذا المخطط الخطر لا يمكن عزله عن نوايا الإدارة الأمريكية في إعادة رسم الخارطة السياسية للمنطقة العربية، وانه جزء من خطة صهيونية قديمة أساسها تقسيم العراق على أسس طائفية وعرقية، وانه نتاج تضافر وتلاقي مطامح وأهداف الاحتلال الصهيوني-الأمريكي للعراق مع طموحات عناصر طائفية في الجنوب وأخرى عرقية في الشمال.
إن المسؤولية الوطنية تفرض على القوى الوطنية الرافضة للاحتلال الانتباه
لأبعاد لهذا المخطط الخطير، والعمل على مواجهته وإجهاضه عن طريق توعية الجماهير بخطورته وخاصة تلك الشريحة المقلدة للمرجعية الدينية في النجف.