تعالوا يا ايها العراقيون لنجعل العام الجديد عام الصراحة بعدما جعلنا العام الماضى عام تبادل الاراء و احترام الراى الاخر لان الصراحة فقط سوف تمكننا من تشخيص جذور النكبات العراقية المتتالية و الا سنستمر فى الدوران حول حلقة فارغة من شعارات براقة كالتعايش السلمى فى العراق بين الاعراق و الطوائف و الاديان المختلفة و الديمقراطية فيما يسمى بالعراق الجديد و المساوات فى الحقوق و ما شابه ذلك و نحن نعلم بان كل هذه الاشياء ليس موجود الان فى العراق.
تعالوا نطرح بعض الاسئلة بصراحة و نناقشها ببرودة الباحث الجرئ عن الحقيقة بدلا من وضع ورقة التوت على تصدعات و تقسيمات المجتمع العراقى لكى نتمكن من طرح حلول واقعية قبل ان تنهار هذا الكيان رسميا و بصورة كاملة على غرار الصومال و يوغسلافيا السابقة.

فاسمحوا لى ان اطرح عليكم فى هذا الاطار عدة اسئلة:
هل العراق هو فعلا دولة ام تجمع قسرى لعدد من الشعوب و الاديان و الطوائف المختلفة يدير كل واحد ظهره للاخر؟ كما هو المعلوم للجميع فان العراق فى داخل حدودها السياسية الحالية هو من صنع الاستعمار البريطانى و من لا يريد تصديق ذلك عليه ان يقرا رسائل مسس بيل لكى يقتنع بان صانعى العراق الحالى كانوا ليس عراقين و ليس عربا و لا مسلمين. و لم يكن فى ذهن الانكليز انذاك انشاء عراق تسوده العدالة و المساوات بين كل الاطراف لان هذه الافكار لا تاتى اصلا براس من يستعمر شعوبا اخرى و يحتل ارضها و من له مثقال ذرة من احترام للكيان البشرى و كرامة الانسان سوف لا يتحول الى محتل للاراضى الغير.

هل كان هذا العراق منذ نشاته عام 1921 مبنيا على المساوات و حرية الاختيار بين كافة الاطراف؟ الم يطالب الكورد انذاك بدولة خاصة بهم و اعلنوا مملكة كردستان التى حولتها القوة الجوية البريطانية الى ذكريات يفتخر بها الشعب الكوردى الى الابد. و كم تحتوى رسائل مسس بيل من اساءات و اهانات عنصرية ضد الشعب الكوردى لانه رفض الاحتلال الاجنبى و طالب باستقلاله بعكس من خضع لمطالب الاستعمار و ثم حصل على دولة و انفرد فى الحكم فيها؟
الم يرفض الشيعة هذه الدولة الجديدة و قاطعوها و ثم جعلوا مواطنين من الدرجة الثانية قبل الاكراد و اصبحت مناطقهم من المناطق الاكثر فقرا فى العراق؟
الم يفرض الاستعمار البريطانى حكما طائفيا انذاك لتنفرد هذه الطائفة بحكم العراق لوحدها و من اجل نفسها لاكثر من ثمانين سنة و حاربت كل من عارضها بالحديد و النار و القتل و التعذيب و هتك الاعراض؟ و حتى ملك العراق تم استراده انذاك من شبه الجزيرة العربية كتعويض لما فقده فى مكان اخر و حسب ذكريات مسس بيل لم يكن فى جيبه مصاريف السفر ايضا.
الم تكن فترة الحكم الملكى فترة الثورات و حكم الاقطاع و فرض الحصار عليه من قبل الاكثرية من ابناء الشعب العراقى من الشيعة و المسيحين و الكورد؟ الم تكن ثورات شيخ محمود الحفيد و بارزان رمزا لرفض الشعب الكوردى للعيش فى عبودية هذا المجمع القسرى انذاك؟ الم يقم الاشوريون بثوراتهم مطالبين بحقوقهم المشروعة و استعادة اراضيهم المسلوبة و كانت الحملات الابادة الجماعية من قبل الجيش العراقى و القوة الجوية البريطانية الرد على مطالبهم؟
و هل شعرت اكثرية الشيعة يوما ما فى طول فترة النظام الملكى بانهم مواطنون متساوون فى الحقوق ام كانوا من الضحايا الرئيسية للاظطهاد الطائفى الذى دام الى اكثر من ثمانين عاما؟

و بعد ثورة تموز المجيدة التى كانت فى الاصل ثورة طبقية قامت بها الفقراء ضد الاقطاع و الحثالة و عملاء الاجانب كانت هناك فترة تامل و خطوات ايجابية لوضع حلول جذرية لصراعات العراق القومية و الدينية و الطائفية المزمنة و لكن الحلول كانت سطحية و ايادى اجنبية بدات من جديد تتامر على العراق لان العراق كان قد اصبح انذك ميدانا للحرب الباردة بين معسكرى الشرقى و الغربى كما تحول الان الى ميدان لتصفية حسابات بين امريكا و من يكرهها.
مشاكل العراق الشائكة لم تكن باستطاعة حكومة مركزية حلها تعتمد فقط على الهوية العراقية المشتركة و المساوات فى الحقوق لان المطلوب فى الحالة العراقية هو منح كل طرف حقه و مراعات خصوصياته لان لكل طرف هويته الخاصة به و ان العراق لا يجب ان ينظر اليه الا كجمعية تعاونية حيث تجتمع الاطراف على اساس المصلحة المشتركة ولكن لسيت الهوية المشتركة لان التوافق لم يكن موجودا بين هذه الاطراف فى بداية تاسيس العراق و لهذا فان العراق يفتقر لحد الان الى عقد اجتماعى يوفر الشرعية للشراكة فى البيت العراقى تتوفر فيه كافة اركان العقد.
و لذا كان مصير هذه التجربة الفريدة الفشل على ايدى الفاشية المرتبطة بدوائر اجنبية حيث استولت على الحكم فى انقلاب دموى فى شباط عام 1963 و حولت العراق الى حمام من الدم حسب البرنامج المرسوم لها سلفا و تزويدها بقوائم باسماء الاشخاص المطلوب تصفيتهم لان العراق كان قد اصبح كما ذكرنا قبلا الى ميدان خوض الحرب الباردة بين الشرق و الغرب.
لقد كان هذا الانقلاب الضربة القاضية قضت على حلم عراق للجميع اذ جعل القوة هى الوسيلة الوحيدة للتفاهم بين الحكومة و المواطنين و تم توطيد اسس الطائفية فى مؤسسات الدولة الحساسة حيث اصبحت كلها تقريبا مؤسسات احتكارية تسيطر عليها ابناء طائفة معينة. و كل من كان لا ينتمى الى هذه الطائفة كان محروما من ابسط حقوقه الاساسية و هو حق الحياة و لعل المئات من المقابر الجماعية و مئات الالوف من المفقودين هو خير دليل على ما نقوله. الشعب العراقى باكمله ما عدا بعض اعوان النظام كانوا بمثابة نزلاء السجون اكثر من كونهم مواطنين. و استمرت هذه الحالة الى سقوط النظام على يد قوى ساعدته قبلا للمجيء الى الحكم بقطاراتها.

و الان بعد سقوط النظام عاد العراق الى وضعه الاول قبل تاسيسه عام 1921 من الناحية السياسية، و العملية السياسية القادمة كالانتخابات و وضع مسودة الدستور و طرحها للاستفتاء على الشعب هى بمثابة تاسيس العراق من جديد و هى عملية ربما يكتب لها النجاح او تفشل. و لذا يحق لنا ان نطرح بعض الاسئلة للنقاش حول الوضع الحالى للعراق:

هل هناك هوية عراقية مشتركة تجمع كافة الاطراف المختلفة من الطوائف و الاديان و الشعوب و تخدم كالقاسم المشترك بينها؟
كيف تكون هذه الهوية المشتركة موجودة حيث يفضل العربى السنى العراقى احد ابناء طائفته من خارج العراق على السنى الكوردى و العربى الشيعى.
و الكوردى العراقى وجهه صوب الشرق و الشمال و الغرب حيث اخيه فى اللغة و الاصل و يفضل التعامل معهم على التعامل مع العراقين الغير الكورد و يقيم مهرجاناته الفنية بحضور فنانين و ضيوف من الاجزاء الاخرى لكردستان يجد الفنان العراقى العربى صعوبة حتى فى التلفظ باسمائهم الكردية بصورة صحيحة. ما الذى يربط الفلاح او الطالب او العامل الكردى بامثاله فى الجنوب الشيعى؟ نعم ربما الاسلام و لكن هناك فى الصين مسلمين ايضا. و نفس هذا الكردى كابوسه هو السفر الى المناطق السنية العربية حيث ربما يكون الذبح مصيره على يد اخيه المسلم السنى و لهذا فهو ربما يفضل السفر الى مثلث البرمودا على السفر الى المناطق السنية العربية اذا وضع امام الخيارين؟ و هل التعايش السلمى ممكن بين جماعات عرقية و طائفية و دينية تذبح بعضها البعض و تفجر كنائسها و اماكن عبادتها؟

و فيما يتعلق بالطائفة الشيعية فى العراق ذات الاكثرية العددية فانه اصبح الان من الواضح بعد دخول الاكثرية من الكيانات السياسية الشيعية الانتخابات العراقية بقائمة شيعية موحدة بان النزعة الطائفية هى المسيطرة على النزعة القومية داخل هذه الطائفة حيث يمكن الحديث عن امة شيعية نشات فى العقود الاخيرة بعد تنامى الثقة بالنفس عند هذه الطائفة المسلمة خاصة بعد انتصار الثورة الاسلامية فى ايران و طرد اسرائيل من لبنان من قبل الحركات المسلحة الشيعية و لو لم تكن نزعة الاممية الشيعية هى المسيطرة على النزعة القومية كيف يمكن تفسير انظمام الكردى و التركمان الشيعى للقائمة الانتخابية الشيعية بدل الانظمام الى القوائم القومية و الاقليمية؟ و انا اود ان اقول بان سيطرة النزعة الطائفية على النزعة القومية هى ليست بظاهرة غريبة فى الاديان الاخرى ايضا حيث هناك شعوب ظهرت على اساس طائفى فقط. فمثلا ما يميز الشعب الكرواتى من الشعب الصربى هو ليست اللغة و الاصل العرقى بل الانتماء الطائفى حيث ان الكروات هم من الكاثوليك و الصرب من الارثودوكس و الا فان كلا الشعبين يتكلمان نفس اللغة و من وهما من نفس الاصل السلافى، و نفس الشئ هو صحيح بالنسبة لايرلندا الشمالية حيث الانتماء الطائفى يقسم الشعب الايرلندى فى هذا الاقليم الى قسمين، اقلية كاثوليكية تؤيد الانظمام الى جمهورية ايرلندا و اكثرية بروتستانتية تؤيد البقاء مع بريطانيا و الا فان كلا الطائفتين تنتميان الى الاصل الايرلندى و يتكلمون باللغة الايرلندية.
لذا فانه من الطبيعى بان ينضم الشيعى الكردى و التركمانى الى القائمة الشيعية العربية لان النزعة الاممية الشيعية هى المسيطرة على النزعة القومية.
و لكن تظهر هنا مشكلة القاسم المشترك بين الطائفة الشيعية و الطوائف الاخرى فان هذا القاسم المشترك لا تستطيع ان يكون واسعا بسب الاختلاف فى الانتماء الطائفى. فالقاسم المشترك بين الشيعى العراقى الغير العلمانى و الشيعى الهندى او الايرانى او اللبنانى هو اوسع بكثير من القاسم المشتك بين الشيعى العربى و السنى العربى فى العراق و الاحداث المؤلمة كذبح اعضاء من الطائفة الشيعية بسبب انتمائهم الطائفى هو دليل على ذلك. لذا فان التعايش السلمى سوف يكون مستحيلا اذا انفردت طائفة معينة بالحكم و جعلت مذهبها المذهب الرسمى للبلد كما كان الحال منذ تاسيس العراق و حتى الان.

فالتعايش السلمى فى دولة متعددة القوميات و الطوائف و الاديان يتطلب الحد الادنى من القاسم المشترك بين كل هذه الاطراف و اننى ارى بان هذ القاسم المشترك ليس موجودا الان الا عند اقلية ضئيلة جدا من المثقفين العلمانين فى العراق.

و لكن مع هذا فان التجربة العراقية لم تفشل بعد بل هى تحت الاختبار و لذا يمكن طرح السوال الاتى:

هل من الممكن الحفاظ على وحدة العراق و كيف؟
من المعلوم بان الانسان تتكحمه فى اموره ارادته الشخصة الا فى حالات نادرة حيث تجرى الاحداث من خارج ارادة الانسان و حيث تكون الارادة فهناك حلول و هذا المبدا ينطبق ايضا على العراق حيث يكون التعايش السلمى ممكنا بين كل الاطراف المختلفة و داخل الحدود السياسية الدولية الحالية و لكن بشرط تساوى الجميع فى الحقوق و الواجبات بغض النظر عن الاقلية و الاكثرية العددية لان اكثرية جماعة معينة تتمتع بتفوق عددي لا تعنى بالظرورة اكثرية جماعة اخرى تشكل اقلية فى البلد حتى لو كانت اقلية ضئيلة جدا لان هناك اختلاف فى الاهداف. فمثلا هدف اكثرية كردية لا تستطيع ان تكون مطابقا مع هدف اكثرية اشورية. لذا يجب ان تتساوى الاقلية و الاكثرية فى الحقوق.

تجارب دول اخرى متعددة القوميات و الطوائف تظهر لنا بان هناك بعض شروط اساسية يجب توفرها كالحد الادنى لضمان التعايش السلمى فى بلدان من هذا الطراز. و بعض هذه الشروط هي:

1.ان يكون التعايش داخل الدولة العراقية الموحدة بين كافة الاطراف مبنيا على شراكة تتم من خلال عقد اجتماعى تتوفر فيه كافة اركان العقد و الاطراف هذه تدخل هذا العقد طواعية و تحت غياب كامل لكافة وسائل الضغط و الاكراه.
2.ان يعتمد دستور الدولة العراقية الجديدة على مبدا الفصل بين الدين و الدولة بصورة كاملة و لا يتم ذكر دين او مذهب معين فى الدستور و الا ستكون هذه الخطوة اجحافا بحق الديانات و الطوائف الاخرى. و من المعلوم بان مبدا الفصل بين الدين و الدولة نشا فى القرن السادس عشر فى اوربا بعد النزاعات الدموية بين الكاثوليك و البروتستانت و النزاعات هذه لم تنتهى الا بعد فصل الدين عن الدولة.
3.ان تكون الشراكة هذه فى اطار نظام فدرالى تلعب فيه السلطة الفدرالية اقل دور ممكن بحيث يميل النظام الى الكونفدرالية من خلال منح الاقاليم سلطات واسعة. و النظام الفدرالى نفسه يكون على مستويين مستوى جغرافى و مستوى شخصى. الفدرالية على المستوى الجغرافى يتم تحديدها على اساس جغرافى قومى و طائفى و الفدرالية على اساس شخصى يتم تحديدها على اساس الانتماء القومى و الطائفى والدينى فقط و ليس على اساس جغرافى لان هناك بعض الاقليات المنتشرة فى كافة انحاء العراق و لا تتمركز بصورة رئيسية فى موقع جغرافى معين و لهذا يمكن الاستفادة من التجربة البلجيكية حيث منحت الاقلية الالمانية التى لا تسكن منطقة معينة خاصة بها فدرالية على اساس شخصى اى لها مجلسها التشريعى و حكومتها تختص بشؤن هذه الاقلية. و فى العراق مثلا لو اخذنا الديانة اليزيدية فان اعضائها هم من الكورد و لكنهم يختلفون مع الاكثرية الكردية المسلمة فى الدين و لهذا فلهم خصوصياتهم الدينية و الاجتماعية و حتى الاقتصادية ما يبرر منحهم هيئاتهم الفدرالية على اساس شخصى اى يكون لهم مجلس تشريعى و حكومة منتخبة من قبل اعضاء هذه الطائفة تختص بشؤونهم الدينية و الاجتماعية و التربوية و حتى الاقتصادية لانهم لهم نظامهم الضريبى الخاص بهم كوسيلة لتقسيم الثروة بين التابعين لهذا الدين. و بهذا سيكون لهم نفس الاستقلالية التى تتمتع بها الاكثرية الكردية المسلمة فى شؤنها الخاصة و بهذا قد يكون مبدا المساوات فى الحقوق قد تحقق. و نفس النظام يمكن اتباعه بالنسبة للطوائف و الشعوب و الاديان الاخرى فى العراق و التى ترغب فى حكم نفسها و الحفاظ على هويتها الخاصة.
4.ينص دستور العراق الجديد على حق تقرير المصير لكل الشعوب فى العراق كحق طبيعى لها. فان ضمان هذا المبدا فى الدستور سيولد شعورا دائما لدى الشعوب العراقية المختلفة بان بقائها داخل عراق موحد هو بمحض ارادتها و يمكنها ان تغادر هذا الاتحاد متى شاءت و حسب الشروط الموضوعة فى الدستور. هذا المبدا اثبت فعاليته فى الحفاظ على وحدة اراضى دول فدرالية عدة منها كندا حيث يجوز حسب الدستور الكندى لاقليم كوبيك الكندى الانفصال عن كندا اذا اقرت اكثرية الناخبين بالانفصال فى استفتاء يشمل اقليم كوبيك فقط. محاولات عدة من قبل بعض القوميين فى اقليم كوبيك فشلت لحد الان للحصول على الاكثرية اللازمة للانفصال عن كندا لان لدى المواطنين الشعور بالاطمئنان بان بقائهم داخل كندا هو بقاء مبنيا على الاختيار الحر و ان سلبيات الانفصال هى اكثرمن ايجابياته.

فالعراق الجديد لا يكتب له البقاء الا اذا كان عراقا تتساوى فيه كافة الاطراف بالرغم من فارقها العددى فى الحقوق و الواجبات ولا يرضخ اى طرف الى هيمنة طرف اخر تحت ذريعة الاكثرية العددية او اية ذريعة اخرى لان الاقلية عندما تنفصل ستصبح ايضا اكثرية فى الكيان الخاص بها. و هذا هو مفهوم الحرية التى تكون الانسان بدونها عبدا و ليس الا.
د.كمال سيد قادر
[email protected]