إبتليّ العالم العربي والإسلامي على مدى المائة سنة الماضيّة بكثرة ذابحيه وسالخيه وطاعنيه من خارج جغرافيته و من داخل جغرافيته.
ولعلّ الفتك الداخلي بهذه الأمةّ هو أخطر من الفتك الخارجي بها بإعتبار أنّ القادم المحتّل يفد إلى جغرافيتنا وفي يده صليب ومشروع فكري وثقافي من سنخ المنظومة الفكرية التي ينتمي إليها، ويشرع في هدم المقومات الحضارية ومعالم الشخصية الثقافيّة في هذه الأمة وفي تلك، أو يقوم بتحويل المساجد إلى إصطبلات أو كنائس كما فعلت فرنسا الإستعمارية في الجزائر وتونس والمغرب و غيرها.
وهذا الهادم الحضاري مكشوف للصغير والكبير ولا تنطلي لعبته لا على خواص الناس من النخب المثقفة و لا على عوام الناس من الفلاحين والحرفيين و البسطاء ولذلك حاربه الجميع.
فالثورة الجزائرية وجبال الأوراس في الجزائر جمعت الطبيب إلى جنب الشاعر و إلى جنب الفلاح وراعي الماعز و البطّال والأمي، و الأمر عينه ينطبق على الثورة المصرية و الفلسطينية و السورية و غيرها من ثورات الإنقضاض على الإستعمال الذي أذلّ بلادنا العربية والإسلامية على مدى قرنين كاملين والذي خرج من قمقمه مجددا من خلال الأمركة الزاحفة إلى حصوننا المدكدكة في العالم العربي والإسلامي.
و لم تنجح الحركة الإستعمارية التي ربضت على مقدراتنا وجغرافيتنا في تحطيم مقومات الشخصية العربية و الإسلامية حيث كانت الحيّاة تتجددّ في ينابيع هذه المقومات دوما بل كانت الملاذ الذي حال بيننا وبين السقوط الحضاري المريع،
ويعترف إستراتيجيو الحركات الإستعمارية كديغول في مذكراته، وغلوب باشا في مذكراته وضبّاط إنجليز كثر من الذين كانوا في طليعة المستعمرين في الهند وبنغلاديش والهند وغيرهم كثير أنّ الأمة العربية والإسلامية كانت تملك دوما ماء الحياة وهو الإسلام و الثقافة التي صاغها الإسلام هي التي حالت دون تذويب الشعوب المستعمرة – بفتح الميم – في الدول المستعمرة - بكسر الميم -، و لعلّ إستراتيجيي الحركة الإستعمارية قد أدركوا منذ ذلك الوقت أنّ الدبابة و حدها لا تكفي في إستئصال هذه الأمم من ثقافتها وإدماجها في الثقافة الغازية القوية، فأسسوا مدارس كولونيالية ضموا إليها أبناء الإقطاعيين و المتعاملين مع الحركات الإستعمارية و كونوّهم على أعينهم وزجوا بهم بين أبناء الأمة يروجون لثقافة المستعمر بلسان الأمة المحتلة و المغزوة.
وربما لذلك نجد أنّ أغلب الذين تصدوا للإسلام في راهننا وسبوه وسبوا رسوله وإستهانوا به هم من العرب والمسلمين الذين إحتضنتهم الحضارة الغربية وينتمون إلى حضارة مغايرة وهي حضارة الإسلام إذا جاز هذا التعبير و كلفوا بأداء المهمة، من قبيل سلمان رشدي في بريطانيا و تسليمة نسرين التي لجأت إلى السويد و هرسي النائبة الهولندية من أصل صومالي التي سبّت رسول الإسلام في هولندا.
و إذا كانت الأمة العربية والإسلامية قد حسمت موقفها من الحركة الإستعمارية لوضوح نواياها و إفتضاح مشاريعها العدوانية التي تطال الإنسان والكيّان، فإنّها ظلّت محتارة في أمر الأقلية الفكرية التي تتكلم بلسان علي وخالد وعمر و تتبنى فكر جوزيف و بيار و كايم و بيرل وغيرهم..
وهذه الأقلية التي تكتلّت اليوم في إطار ما يعرف بالليبيراليين الجدد تلعب أكبر الأدوار في تحريف الأمة عن مسارها و تسهيل إندماجها الفكري في المنظومة الإستعمارية الراهنة التي لجأت إلى أساليب جديدة للإستعمار الجديد وعلى رأسه الإستعمار الأمريكي.
ففي فترة الحركة الإستعمارية شككّ هؤلاء الإستئصاليون في جدوى الثورات على الإستعمار و إعتبروا هذه الثورات جزءا من الجنون و الخبل بإعتبار أنّ الإنفصال عن الحركة الإستعمارية سيورّث ويكرّس الجهالة والأمية والتخلف والأمراض وعدم القدرة على تسيير شؤون الدولة و الإقتصاد والثقافة والزراعة، وأنّ الإستعمار هو مصدر القوة و ينبوع العطاء في كل المجالات السياسية و الإقتصادية والثقافية.
بل إنّ بعضهم في الجزائر طالب محمدّا رسول الإسلام بضرورة مغادرة الجزائر لأنّه دخيل عليها، و قررّت ثورة المليون والنصف مليون شهيد أن تغادر فرنسا ومعها الحلف الأطلسي الجزائر ويبقى محمد فيها إلى يوم يبعثون.
والليبيراليون القدامى المرجع الروحي لليبيراليين الجدد طالبوا بوأد الثقافة العربية والإسلامية و إحلال الثقافة الفرانكفونية والإنجلوسكسونية محلها، وطالبوا بالقضاء على التعليم الأصلي والمعاهد الأصلية التي كانت تخرّج رجالات من قبيل عبد الحميد بن باديس وعبد الكريم المغربي وخير الدين التونسي و عمر المختار و السيد المقراني و عز الدين القسّام و غيرهم من رجالات هذه الأمّة، ولعبّ المتحالفون مع الإستعمار من أبناء جلدتنا أكبر الأدوار في ترجمة ثقافة المستعمر إلى شعوبنا ويسروا تسللّها إلى حصوننا ومواقعنا، و هذه النخبة هي التي عناها أحد الإستراتيجيين الفرنسيين بقوله :
في السابق كنّا نوجّه آلاف الجنود والدبابات إلى الجغرافيا العربية و الإسلامية لإحتلالها، أما اليوم فإننّا نكوّن بعض نخب هذه البلاد في جامعاتنا ونرسلهم إلى تلك البلاد ليؤدّوا الوظيفة بإحكام.
و في الواقع لقد أدوها بإحكام بأتمّ معنى الكلمة ولذلك كوفئوا من قبل الحركات الإستعمارية بتسليمهم مقاليد الأمور في بلادنا فأدّوا الوظيفة الإستئصالية على أكمل وجه بعد الإستقلالات الوهمية لبلادنا عن الحركات الإستعمارية.
وقد خلف من بعد هؤلاء خلف أضاعوا الصلاة وأتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا، فالليبيراليون الجدد وفي الوقت الذي تتعرّض فيه الأمة العربية و الإسلامية إلى أبشع أنواع الإذلال و التركيع والسلب والنهب يطالبون هذه الأمة بالتخلي عن كل ثوابتها ومتغيراتها و القبول بالديموقراطية الأمريكية و الإسرائيلية، فقد برروا لأمريكا كل تصرفاتها العدوانية في الصومال وأفغانستان والعراق و في مواقع مختلفة في العالم العربي و الإسلامي.
وأعتبروا ما يقوم به رجال المارينز الأمريكان جزء من عملية تحديث هذه الأمّة و نقلها من الظلامية إلى النور، و من الأصولية إلى الدمقرطة، وراحوا وفي خطّ مواز لما يقوم به رجال المارينز الأمريكان يدكدكون مواقع هذه الأمة، فالجهاد في العراق ضدّ الإستعمار الأمريكي إرهاب، و الجهاد في فلسطين ضدّ أعتى دولة عدوانية خرافة ووهم، بل إنّ رموز الليبيراليين الجدد زاروا إسرائيل متحدّين بذلك مشاعر كل العرب والمسلمين في خطوة تدشين التحالف الجديد بين الليبيرالية العربية الجديدة و الصهيونية، وطبعا سيكتب ويتحدث أبواق هذا التيار عن ضرورة الصلح مع اليهود كخطو مركزية لتحقيق حقوق الشعب الفلسطيني.
إنّ الليبيراليين الجدد قد أتقنوا بإحكام وبدقةّ فعل الديّوث والديوثّ هو السمسار الذي يتاجر بأعراض النساء، فهم نجحوا في جلب المستعمر إلى بلادنا وأجازوا له أن يمارس الفاحشة السياسية و الثقافية و الإقتصادية و الأمنية مع بلادنا العربية و الإسلامية، وهم عاجزون عم تقديم أي مشروع ثقافي وفكري ينهض بهذه الأمة، بل هم في الوقت الذي يتبجحون فيه بالمشروع الديموقراطي يقبضون أموالا بالجملة والمفرّق من أعتى الدول الملكية و الديكتاتورية في العالم العربي والإسلامي.
وهم بعد أن كشفوا عن حلفهم المقدّس مع أمريكا راحوا يتحالفون مع الكيان الصهيوني، وهما بهذا يتحالفان مع أعتى أعداء العالم العربي والإسلامي راهنا أمريكا والكيان الصهيوني اللذان هما كطرفي المقّص ظاهرهما مختلف وباطنهما متفق على تمزيق العرب والمسلمين.