-2-
ان من نافلة القول الحديث عن النقد وشرعيته، والا فالمسألة واضحة في دلالاتها واهدافها، وكل فرد قادر على استدعاء جملة ادلة وبراهين نصية وتاريخية لتأكيد شرعية النقد بل ووجوبه، خصوصا عندما ترتبط المسألة بقضايا مصيرية تهم الشعوب ومستقبلها. لكن المشكلة مع الوعي الرث القاصر عن ادراك القضايا البسيطة فضلا عن المعقدة، او الملتبسة التي تتطلب وعيا كافيا لادراكها واكتشاف ألاعيبها ومراوغاتها. فالوعي شيء آخر مغاير للعلم والمعرفة، ولا يتصف به الا القليل من الناس، فربما هناك شخص ذو عقل ارشيفي لكثرة مطالعاته ومتابعاته، ووفرة ما يختزن من معلومات وارقام، لكن وعيه بمستوى لا يدرك معه كثيرا من القضايا، وقد يفشل في اتخاذ موقف صحيح لا يجانب الصواب، فالمعلومة التي تستقر في ذاكرته لا تضيئ فضاءه المعرفي، وانما تتراكم بشكل تحول دون تأجج الوعي. بينما تجد انسانا على درجة كبيرة من الوعي رغم تواضع مستواه العلمي والمعرفي، لا ينطلي عليه التزوير والخداع، ولا تستغفله المراوغة والكذب. فالوعي مرتبط بالاحساس والشعور والقدرة على تقليب الامور والمقارنة والفحص وعدم التسليم مالم يتوفر على قناعة واطلاع.
ويعني الوعي ايضا ادراك الواقع وفقه ملابساته وتشخيص اخطائه بعد تفكيك مكوناته ومحاكمة انساقه. ويتصف الشخص الواعي برهافة الحس وشدة الحساسية ازاء التزوير والمغالطات، لا يتكيف مع الواقع كيف ما كان، وانما يعيش حالة من الغليان والثورة الداخلية ضد القيم المصطنعة. فلا غرابة ان يتمييز الانسان الواعي بملاحقة الحقيقة، والبحث عن الادلة، ومحاربة السذاجة، والاعتراض على التبسيط، ورفض التسامح في اطلاق التهم والاحكام. والارتكاز الى العقل والاستدلال، ومحاربة الخرافة والاساطير، والوقوف بوجه الخداع باسم الدين والاسلام والقرآن، وحب مصارحة الاخرين وعدم، الرضى بتزييف الوعي واغتيال الحقيقة، ويتحاشى استغلال بساطة الناس وطيبتهم وتدينهم وثقتهم. والانسان الواعي انسان مضحي، لكنه ليس ايديولوجيا عندما يكتشف الحقيقة ويتضح الواقع، ولا يأبى التراجع والاعتراف بالخطأ. واذا كانت ثمة صفات مشتركة بين الوعي والمثقف فلان الوعي هو احد مكونات المثقف التي هي: المعرفة، الوعي والموقف (راجع كتابنا: اشكاليات التجديد).
ومن الازمات التي تعصف بالوعي عدم تمييزه بين الديني وغير الديني، وعدم الفصل بين المقدس وغير المقدس. وقد يلتبس الامر بين ما هو فكر بشري لا يتعالى على النقد وبين ما هو من الدين لا تمسه يد المراجعة والتقويم. او لا يعي الظروف الزمانية والضرورات الحياتية الدخيلة في عملية استنباط الاحكام الشرعية. وتخدعه المظاهر الدينية والتقوى المزيفة، وتجرفه التيارات الايديولجية، ويضحي من اجل مفاهيم لم يساهم في وعيها وادراك حقيتها، وانما تقليدا وطاعة وبساطة بل وسذاجة، انها مشكلة الوعي الرث المبتور الملبد.
ولما كنا بصدد نقد الحركات الاسلامية أي الحركات التي تكونت وترعرعت واتخذت من الاسلام ايديولوجية وفكرا وهدفا واستراتيجية، لذا يجب شرعنة النقد من داخل الافق الديني، اضافة الى الادلة العامة، والا
لا يكتسب الشيء شرعيته في نظر تلك الحركات ما لم يرتكز الى الحكم الشرعي بما فيها سيرة النبي والصحابة. او ما يعرف بالسنة. لكن بما ان هذه الاوراق تخاطب مساحة اوسع من الجماهير اضافة الى الحركات الاسلامية (من اجل الاخيرة ذاتها) فانها لا تلتزم بما تقرره تلك الحركات فقط، وانما بما يولد قناعة لدى الامة الاسلامية التي هي محط الآمال في تحقيق هذه الاهداف.
ولو شئنا استقصاء مبررات النقد سنجد ثمة اسباب موضوعية تبرر لنا نقد وتقويم أداء وفكر ومسار الحركات الاسلامية، هي:
1-تاريخية الحركات الاسلامية، فليس هناك شخص او حركة معصومة عن الخطأ، او خارج التاريخ، وليس هناك كيان ليس له بداية ونهاية.
2-تعدد الحركات الاسلامية، الذي يكشف عن تعدد القراءات للدين والرسالة بل وكل مفردة من مفردات الاسلام.
3-نسبية المعرفة لدينية، فليست هناك معرفة دينية (وليس نصا) مطلقا يستعصي على النقد.
4-النصوص والسيرة، التي تشرعن للنقد أيا كان مستواه واتجاهه، وهي ليست بالقليلة او النادرة. اضافة الى اسباب ومبررات اخرى.

اولاُ – تاريخية الحركات الاسلامية
ليست المشكلة في ثبوت تاريخية الحركات الاسلامية، وانما المشكلة في قناعة انصارها ومنتسبيها. ومالم يثبت لهؤلاء تاريخية الحركة ومحايثتها لا يقتنعوا بضرورة نقدها وتفكيك انساقها ومراجعة ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وانما يصروا على مواصلة الدرب رغم فداحة التداعيات. ونقصد بتاريخية الحركة خضوعها لقوانين التاريخ، فهي كأي كائن تولد، وتنمو، وتكبر، وتشيب، وتستنفد اغراضها، وتسقط، وتتأثر بالمؤثرات الزمانية والمكانية، ويصدق في حقها الخطأ والصواب، وتحتاج الى الاصلاح والتجديد والنقد والمراجعة، وقد تتماهى مع الزمان، او لا تصلح له، وتنهار وتسقط، أي لها بداية ونهاية، وتصاب بالتلوث والشيخوخة والتشوه. لذا فمهمة البحث تكوين قناعة لدى اعضاء الجماعات الاسلامية، من خلال دراسة جميع مكوناتها، وحينما يكتشفوا تاريخيتها وبشريتها يكونوا بين خيار الارتقاء الى مستوى الحركات السياسية السلمية او الاعتزال نهائية بعد كتابة تاريخ الحركة. وهي مهمة تستدعي جهودا كبيرة وليس جهدا فرديا، لدراسة كل مكونات الحركات الاسلامية، للتأكد من مدى صلاحيتها للبقاء. وليس هناك استثناء لاحد مهما كانت مواصفاته، وليس هناك حركة او حزب اسلامي خارج التاريخ او نتاج عوامل غيبية مفارقة، او صالحة لكل زمان ومكان، لا تتاثر بالعوامل الخارجية وتحافظ على فاعليتها رغم التحولات الزمانية، بل جميع الحركات، بكل مكوناتها وامتداداتها، نتاج بشري تاريخي وفقا لظروف زمانية ومكانية أملت ضرورة تأسيسها، وبالتالي فهي واقعة لا محال تحت تأثير العوامل الخارجية وتنطبق عليها السنن الاجتماعية والتاريخية. ولا يتعالى على النقد أي جزء منها بما في ذلك الفكر والنظرية والسلوك والاداء والمناهج والادوات والمواقف والعلاقات والتحالفات. فكل مفردة من هذه المفردات هي نتاج تاريخي، وتجربة بشرية، قد تصيب وقد تخطئ. ولا يشفع لها ارتكازها للاسلام، فانها ليست الا قراءة وفهما له (كما سياتي في المبرر الثاني)، كما ان المعرفة، مطلقا، بما فيها المعرفة الدينية، نسبية، تستبطن في احشائها احتمال الخطأ بمستوى احتمال الصح (كما سيتضح في المبرر الثالث). فليست هناك موانع تحول دون نقدها على أي مستوى، بل صراحة نطمح في التوغل والتنقيب، على ان لا تحدنا حدود، رغم المخاطر والمجازفات وندعو الجميع للمساهمة في هذا العمل الحيوي من اجلنا، ومن اجل اسلامنا وديننا ومستقبلنا. لذا سيطال النقد تاريخ الحركات ومسيرتها واسمها ومتبنياتها واهدافها وقادتها، الذين هم بشر مثلنا، يصيبوا ويخطأوا، ولهم مصالحهم ورغباتهم، ويتصفون كغيرهم بحب الذات والظهور والتفوق والتسلط، ويتصارعون فيما بينهم حول مناصب الحركة وارصدتها وعناوينها. ويعملون بجد للاطاحة باندادهم، وان تظاهروا بالزهد والتقوى والحرص والايمان والعزوف عن الدنيا. ويختلفون فيما بينهم حول قضايا دنيوية وشخصية، وليس هناك دليل ادل من الانشقاقات والانشطارات التي يقودها اعضاء في الحركات الاسلامية، وهي امثلة كثيرة جدا.
فمثلا عندما ندرس اهداف حركة ما (كمثال للنقد) دراسة نقدية سنكتشف ان ثمة حركات قد استنفدت اهدافها، لكنها استمرأت لعبة السياسة فظلت تمارس نشاطها السياسي برصيدها الديني والعسكري، فتأتي ممارساتها شوهاء غير متناسقة، لانها لم تقع ضمن استراتيجيتها واهدافها، ولكل هدف استراتيجيته التي تملي العمل من اجله. ومثال ذلك حركات التحرر، التي تضع بلدا ما او مساحة من الارض هدفا لحركتها، فيبغي لهذه الحركات، عندما يتحقق الهدف، مغادرة الساحة السياسية. والا سوف تمارس السياسية بنفس ادوات الحرب، فلا تكف عن نفي الآخر وارهابه بقوة السلاح. وبهذا الشكل تقضي الحركة على مواطن السلم من حيث تعي او لا تعي، وتتحول الى قوة عاتية لا تفهم سوى العنف سلاحا في المعركة، فتقمع الآخر، وتصادر الحريات السياسية وتستبد بالسلطة. فتصور - مثلا - عندما تؤول الامور الى حركة اسلامية ثورية، قد اعلنت عن استعدادها لتجنيد 100 الف لحماية الانتخابات في بلد مثل العراق، كيف ستتعامل مع الآخر، أيا كانت مواصفاته؟ وهل ستفهم شيئا سوى لغة السلاح في تطبيق القرارات التي تتخذها؟ ومن يضمن لنا عدم استبدادها بقضايا البلاد ومصيره؟ بل هل يمكن لحركة ان تمارس السياسية باساليب سلمية وهي تتحصن خلف مئة الف من المقاتلين؟ وهل ستستجيب النتائج السياسية اذا جاءت خلافا لارادتها؟ وتصور واقع الحال عندما تصبح اطراف الساحة السياسية عصابات مسلحة؟ وماذا فعل الطالبان، الحركة الاسلامية المسلحة، حينما حكم افغانستان؟ ألم يستبد بالامر ويقمع المعارضة بكل قسوة؟ ألم يقمع الحريات، ويصادر الرأي الآخر؟ لذا تبصير اعضاء الحركة باهدافها الحقيقة سيساعدهم على اكتشاف تاريخيتها، وبالتالي اكتشاف عدم صلاحيتها لممارسة اللعبة السياسية بادوات الحرب والمعركة، فيحولوا دون تمادي قادتها والكف عن اساليب العنف والاهاب.
وايضا عندما نفضح لعبة الاسماء في الحركات السياسية سنساهم في تكثيف الوعي وانتشاره، كي يتعرف الجميع على حقائق طالما خدعت الوعي الرث المبتور الذي دأب يبررها ويدافع عنها بسبب سذاجته وبساطته. فبعض الحركات الاسلامية قد انتقت اسماء حركاتها بشكل يساعدها على اكتساب شرعية عالية. ان من حق الحركات الاسلامية ان تختار ما تشاء من اسماء لكن ليس من حقها تظليلنا وخداعنا عندما ترفع اسماء الهية ودينية، اذ ليس هناك اشد مراوغة ولعبا من العناوين والاسماء الدينية، ولا اظن ثمة اسماء تنطلي على الناس الطيبين كما تنطلي الاسماء الاسلامية التي ترفعها تلك الحركات، لذا تراها تتحصن خلف اسماء شديدة في ايقاعها ودلالاتها لتكسبها شرعية عالية تسمح لها باتخاذ مواقف او ممارسة سلوك بدعم اسطوري من تلك الاسماء، او تمنحها تلك الاسماء شهادة حسن سلوك لا تسأل بسببها عما تفعل، وكيف تشرعن القتل والتنابذ والاحتراب. فتجد مثلا (حزب الله) حركة تنكرر في عدد من البلدان الاسلامية، او (انصار الاسلام) او (انصار السنة) او (جيش محمد) وغير ذلك. وهي اسماء تكسب مسمياتها شرعية وتسمح لها بالتوغل عميقا في صفوف جماهير لا يسعفها الوعي في تشخيص حقيقتها. بينما الحقيقة ان تلك الصفات (حزب الله مثلا) صفات تشريفية، او شهادة تمنح عادة من قبل سلطة عليا خبيرة بحقائق الامور، كما حصل للمسلمين الاوائل عندما اطلق الباري تعالى اسم حزب الله عليهم. وليست هي صفات ادعائية اواحتكارية، يدعيها شخص او حركة، دون الاخرين، لان ذلك يستبطن تزكية للنفس مع اتهام الآخر. او لا اقل عدم شموله بتلك الصفة، وان كان في علم الله تعالى هو الاقرب تقوى وهدى. فبعض الحركات الاسلامية ترفع لافتة حزب الله مثلا لتزييف الوعي (من حيث تشعر او لا تشعر) واكتساب شرعية دينية تمنحها افقا واسعا من الحركة، ولعل الفرد داخل الحركة هو في علم الله تعالى بمستوى ان يكون من حزب الله، لكن المشكلة ان الفرد يتصور بانتمائه لحركة حزب الله قد اصبح فعلا من حزب الله، فيتحول غيره الى ضد (حزب الشيطان) يمكنه ممارسة أي فعل ضده، وهنا تكمن الخطورة القاتلة والمدمرة، وهكذا بالنسبة الى جيش محمد مثلا فانه يصبح في مقابل جيش ابي لهب، او انصار السنة الذي يتهم الآخر بعداء السنة، وغير ذلك، فكلها اسماء تستبطن دلالات متعددة يمكن استغلالها لتزييف الوعي واكتساب الشرعية معا. فعندما نطرح اسماء الحركات الاسلامية على بساط النقد تتكشف تاريخيتها وبشريتها، وتتهاوى قدسيتها ومكانتها، ويكتشف الفرد ايضا انه انسان كغيره من البشر قد يصيب وقد يخطأ وليس له ميزة على احد الا بالتقوى والعمل الصالح، وليس في انتمائه لهذه الحركة او تلك ميزة تجعله يتعالى على الاخرين او يصفهم بالكفر والفسق والالحاد، اوينعتهم بانهم حزب الشيطان، او ضد الدين والاسلام.
وايضا عندما ندرس تاريخ الحركة وكيفية تكونها، والاموال التي تفد عليها، ونتقصى علاقاتها وتحالفاتها مع الانظمة والحكومات فاننا سنبصّر اعضاء الحركات بتاريخية حركاتهم وبشريتها، أي ستنفتح امامهم افاق وعي واسعة تدفعهم باتجاه التعامل مع الحركة بحس بشري، فيكتشفوا لعبها السياسية وتحالفاتها. وبالتالي سيكتشفوا انهم ازاء كائن سياسي يتعاطي الاسلام من اجل تمرير مشاريع سياسية. والسياسية تقبل كل شيء، ولا تمتنع عن أي شيء، ليس فيها مبادئ وانما مصالح، تحكمها التوازنات، وتخضع لمنطق الربح والخساره وهي ابعد ما يكون عن المبادئ التي يقاتل من اجلها اعضاء الحركات الاسلامية وهم لا يفقهون شيئا. وكاشاره سريعة، عندما نراجع تاريخ الحركات لاسلامية نجد ان بعضها قد تكون باموال ومباركة دولة لا اسلامية (كما فعلت الاموال الامريكية في تأسيس حركة طالبان)، بل وانظمة مستبدة ظالمة. كما ان بعض آخر منها ركن الى تلك الدول فيما بعد من اجل مواصلة حركته، ودخل في تحالفات ارغمته على تبني استراتيجية جديدة ابتعدت كثيرا عن استراتيجية التأسيس. وليس الامثلة قليلة بل كل منا يستطيع التدليل على ذلك بعدة شواهد. لكن الوعي الملبد يتصور لبساطته وسذاجته ان كل ذلك يسير بحمد لله وفقا لحكمة الهية واستثناءات اضطرت لها الحركة ستنقلب عليها يوما ما!!، وليس هناك أي اشكال او علامة استفهام تستدعي مراجعتها واعادة تقويمها!!.
اما لماذا الاصرار على تعرية الحركات الاسلامية دون غيرها، فلان الحركات الاسلامية باتت خطرا اشد من غيرها، من خلال ممارستها الواسعة للعنف، ضد حركات اسلامية تلتقي معها في كل شيء ولا تختلف معها الا بمفردات بسيطة لا تقتضي رفضها فضلا عن ممارسة العنف ضدها.
كما ان الحركات الاسلامية من خلال ممارسة العنف اصبحت خطرا يهدد امن وسلامة الامة الاسلامية اجمع. وقامت بتشويه الوجه الحقيقي للدين والاسلام. وباتت الجماهير المسلمة تخشاه قبل غيرها. وما يحدث في العراق شاخص امامنا.
وايضا فان الحركات الاسلامية لجأت للطائفية والتنابذ والاحتراب وامتدت يدها لقتل الناس الابرياء والعزل، لا لشيء سوى الاختلاف المذهبي او الديني.
وايضا باعتبار ان الحركات الاسلامية تتحرك باسم الدين والاسلام، وتطمح تحت عباءة الشرعية الوصول الى السلطة، وحينئذ سوف تملي علينا قوانين وانظمة باسم الاسلام، وتمارس معنا شتى الممارسات باسم الدين وهي لا تعدو كونها اجتهادات شخصية. وكأن انتسابها الى الاسلام يكسبها شرعية وتحصينا، لا يسمح لنا آنئذ بنقدها اومراجعتها، ويصبح كل شيء دينا وحكما شرعيا. ولسنا تجريدين او ندعي خلاف الواقع، ويكفي لتأكيد ما ندعي مراجعة ما قامت به ايران الاسلامية باسم الشرعية والولاية الدينية من كبت للحريات، ومصادرة الرأي الاخر، حتى اغلقت جميع الصحف (الاسلامية) التي كانت تتبنى رأيا آخر يتعارض مع ثقافة ولاية الفقيه، واقصد بذلك صحف التيار الاصلاحي الذي يترأسه رئيس الجمهورية السيد محمد خاتمي (رجل دين بنفس ما يتصف به الولي الفقيه) وتشارك فيه عدد من الاحزاب والحركات والجمعيات والاتحادات (الاسلامية، الشيعية، الاثنى عشرية، الايرانية، المؤمنة بخط الثورة وولاية الفقيه وتلتزم بالانظمة والقوانين) لكن لديها تحفظات، وتقدم قراءة وفهما آخر للدين يرفض الاستبداد والدكتاتورية تحت أي عنوان او ذريعة، فكانت حصيلة ذلك جملة احكام اطاحت بكوكبة من المثقفين الدينين، لكن لا يمكن لاحد مناقشتها او التصدي لها لشرعيتها، ولان الراد عليهم (القضاة الدينيين) كالراد على الله كما في احاديث ثقافة الثيوقراطية الدينية. او ما قام به طالبان في افغانستان، والحروب الطويلة التي نشبت بينهم وبين فصائل المقاومة الاسلامية الافغانية وراح ضحيتها اعداد كبيرة من المقاتلين. او المناوشات التي دارت بين بعض الحركات الاسلامية في اماكن متفرقة من العالم كما بالنسبة الى حركة أمل وحزب الله الشيعيتين في لبنان. وما يجري اليوم في العراق من قطع الرؤوس وحرق الانسان والتمثيل بالموتى وقتل الناس الامنين، والتنابذ الطائفي، والاحتراب، والاغتيالات، والتصفيات الجسدية، والتفجيرات، والسيارات المفخخة، وقتل الابرياء، وسلب الامن والاستقرار، او ما تقوم به الحركات الاسلامية في باكستان من احتراب طائفي مدمر، وما قامت به الحركات الاسلامية في الجزائر وتونس والمغرب وسوريا والسعودية وغيرها من الدول.
كل ذلك يجري باسم الاسلام والدين، وتتبناه علنا حركات واحزاب اسلامية عبر جميع وسائل الاعلام. فكيف بهؤلاء حينما يتسنمون مقاليد البلاد ويحكمون باسم الدين والاحكام الشرعية؟. اذاُ ليس امامنا طريق لتفادي تداعيات المستقبل الا بالتحرى والتنقيب والنبش (ولا اقصد كاتب السطور فقط وانما كل من يشعر بخطور المرحلة التي نمر بها، ولان مشروع نقد الحركات الاسلامية مشروع كبير وشامل) في صحيفة اعمال كل حركة وحزب منذ تأسيسها، على ان نفقه الناس بتاريخها وممارساتها ورجالها وقادتها وشخصياتها بل وحتى افرادها، ونحدثهم صراحة عن ألاعيبها واعمالها باسم الدين والاسلام. فالامر اولا واخيرا مرتبط بنا نحن المسلمين، وبديننا وبمستقبلنا في الدنيا والاخرة. اذاُ عند ما نعي بشرية الحركة جيدا سوف لن يستثنى جزء او مفردة منها تحت أي مبرر اخرى. لان معنى بشرية الحركة في: (تأسيسها، ادواتها، مناهجها، اسولبها التنظيمي، نظرياتها، فكرها، وثقافتها) انها نتاج بشري. وهو بطبيعته لا يتعالى على النقد حتى مع ارتكازه للنص الديني، لانه حينئذ سيمثل قراءة وفهما واجتهادا، قابل للضمور والتطور، ويحتمل الخطأ والصواب. وليس ثمة طريق لاحيائه سوى النقد والمراجعة المستمرة، والا جاءت المواقف شوهاء تستبطن رؤى ظلامية، لم تبصر نور الحاضر ومتغيراته، رؤى ما زالت مرتهنة للماضي وسلطته.
وعندما نؤمن بتاريخية وبشرية الحركة او الحزب تتهاوى التصورات الساذجة التي يحملها بعض الحركيين، واخص من يؤمن بتعالي الحركة لانها انجاز سماوي ولو بشكل غير مباشر فيبمنحها حصانة دائمة تمثل ارداة الله وهي الاتجاهات الجبرية التي تعتقد بوجود يد غيببة وراء تأسيس الحركة يحول دون نقدها وتقويمها، فهي بعينه ورعايته (بالمعنى الاخص للرعاية، وليس الرعاية العامة الشاملة لجميع عباده). او تعتقد ان تنفيذ الاحكام الشرعية وتطبيق الشريعة الاسلامية اصبح منحصرا بها دون غيرها. وبهذا اللون من الوعي تتعالى الحركة على النقد الى مستوى يستنكر معه افرادها مواجهتها بالنقد والتقويم. وليس موقف افراد الحركة مجرد حرص او غيرة على الحركة وانما ثمة خلفية فكرية وعقيدية مسؤولة عن تلك المواقف. وعندما ننقب في تلك الخلفية تتجلى الصورة القدسية التي يحملها افراد الحركة عنها. فلا غرابة ان تتوجه لك اصابع الاتهام فورا وينهال عليك سيل من الشتائم والكلام الجارح حينما تتصدى لنقد حركة اسلامية، فان ردة الفعل السلبية تعكس مستوى قدسية الحركة عند افرادها، ومدى طائفية وتطرف افرادها. والعكس حينما يعي الفرد الحركي بشرية الحركة وقادتها، ويعي الفارق بينها وبين الاسلام ومقدساته المتعالية بذاتها، فانه سوف يتعامل مع النقد برحابة صدر كبيرة، تسمح له بالمراجعة والتنقيب في اخطاء الحركة من اجل معالجتها، سينما عندما يكون النقد علميا موضوعيا مجردا عن النوازع النفسية والاتجاهات الطائفية.
[email protected]