"اذا كان النص الديني متفقاً مع العقل فلا اشكال واذا كان مختلفا مع العقل فنحن نؤوله حسب العقل لان الله لا يمكن ان يعطينا عقولاً ويعطينا شريعة مخالفة لها "
ابن رشد


عندما غزا النظام البعثي دولة الكويت في الثاني من اب عام 1990 لم يتوقع الكثير من المراقبين ان تظهر للوجود مقاومة كويتية، والسبب ان الكويتين كانوا مرفهين، ويعيشون في بحبوحة، فكيف يتوقع ان يغادر الكويتي الحياة الراقية للفنادق، وينزل ليقاتل في الخنادق ! لكن الاحداث اثبتت عدم صحة هذا التوقع، لسبب بسيط هو: ان من ذاق طعم الحرية، لن يستغنى عنها بسهولة، وان الصقر لن يرضى ابدا بالعيش داخل الاقفاص.
ان الانسان بطبيعته لا يشتاق الى شيء لا يعرفه ولم يذق طعمه، والاجيال الموجودة في الساحة، خاصة الذين ولدوا اثناء حكم البعث، لم يعرفوا طعم الحرية، ولذلك لم يسعوا من اجلها للسبب المذكور، والاجواء الكئيبة التي صنعها البعث للمواطنين، جعلت الافكار السلفية تنشط وتترعرع في المجتمع العراقي، خاصة بعد ان سحق البعث بالحديد والنار كل الحركات التقدمية، واصبحت الساحة مفتوحة امام الحركات الاسلامية ، التي وجدت بيئة صالحة لنشر افكارها. والمعروف ان الاسلام السياسي يتنامى في الاجواء المشحونة بالكواراث، والفضاءات التي تنعدم فيها الايدولوجيات.(1)

رفع الاسلاميون عدة شعارات، لعل ابرزها هو: " الاسلام هو الحل " والحقيقة ان هذا الشعار جميل، يخلب لب العامة والخاصة في مجتمعاتنا، ونحن في اغلبينا متدينون بطبعنا، نحب الله ورسوله، ونؤمن ان الله هو ملاذنا الاخير في مواجهة الظلم والقهر الذي نعانيه على ايدي حكامنا الظلمة، وعلى ايدي المفسدين الذين يستغلون شعوبهم، ويكسبون كل مباهج الدنيا على حسابهم، لكن المشكلة ان العامة لا يعلمون ان الكثير من هؤلاء يرفعون هذا الشعار الخلاب ليخدروهم، وهم يسرقون كدهم وعرقهم، او هم يتامرون للوصول الى السلطة، ليتحكموا في مقدراتهم ورزقهم، والأهم رقابهم و حياتهم نفسها.
ان محمداً جاء رحمة للبشر، فصار اتباعه يعتبرونه رحمة لجماعة معينة من البشر.(2) يقول بعض علماء النفس: ان الانسان طفل كبير، وهم يقصدون بذلك ان شخصية الانسان تتكون في طفولته عادة، حيث تنغرس فيه، منذ اعوامه الاولى، اكثر صفاته الظاهرة عليه في كبره، ولكن جذور الطفولة تبقى كامنة فيه، وهي قد تظهر عليه وتلون تفكيره وسلوكه على وجه من الوجوه.
ومشكلة اهل المدن انهم يحترمون المواعظ البليغة، ولكنهم لا يستطيعون اتباع ما فيها من تعاليم ومثل عليا، فهم قد نشاوا منذ طفولتهم على اخلاق اخرى، حسبما توصي بهم قيمهم المحلية، وهي اخلاق مناهضة تماما لتلك التي تدعوا اليها المواعظ الدينية، والملاحظ ان المجتمع العراقي يحوي اناسا يسمّون " الاشقياء "، يتميزون عن غيرهم بتمسكهم بقيمهم المحلية و لايبالون بالقيم الدينية، والى جانب هؤلاء هناك " الاتقياء" الملتزمون بالدين، وكلا الفريقين عددهم محدود، وكلاهما لا يعاني من ازدواج الشخصية، الا قليلاً منهم، فهم اتبعوا في الحياة طريقا واحدا، وليس لديهم تناقض واضح بين سلوكهم المثالي وسلوكهم الواقعي.
ان اكثر اهل المدن ليسوا باشقياء ولا اتقياء بل هم بين بين، وهم الذين يستفحل فيهم ازدواج الشخصية، فهم يحترمون الاشقياء والاتقياء في ان واحد، وهذا جعلهم يقتدون بالاشقياء حيناً، و بالاتقياء حيناً اخر، لذلك لا عجب ان رايت شخصا خارجا لتوه من صلاة المسجد، وهو يرمق فتاة حسناء بنظراته و ينسى نفسه ولو للحظات، فهو يعاني من كبت بسبب حشو دماغه بالمحاذير من الاف الامور، ولا يستطيع من ناحية اخرى تجاهل النداء الداخلي في نفسه حول حاجاته العاطفية. لذلك ترى هذا المواطن حائراً غير مستقر نفسياً، فهو قد حشر نفسه مسبقاً داخل قالب صنعه المتزمتون، او صنعه هو لنفسه في مرحلة معينة، ويخشى الخروج منه، خوفاً من لوم اصحابه والمجتمع. والناس ـ بعد اتخاذهم طريق الازدواج ـ هان الامر عليهم، اذ صار لهم قلبان، يسمعون الموعظة بواحد، ويسمعون رنين النهود والنقود بالاخر، فليس هناك صراع نفسي ولا قلق، ولا هم يحزنون !
لقد صار الوعظ مهنة تدر على صاحبها الاموال وتمنحه مركزا اجتماعيا لا باس به، و اخذ يحترف مهنة الوعظ كل من فشل في الحصول على مهنة اخرى. انها مهنة سهلة على كل حال: رجل الدين يصلي بالاجرة، ويصوم بالاجرة، ويحج بالاجرة، وهو يريد من الناس جميعاً ان يفعلوا مثله، ناسيا ان الفقر والكفاح في سبيل الرزق، قد اعمى الناس عن كل شيء ، سوى لقمة الزقوم (3).
الواقع ان الواعاظ والطغاة من نوع واحد، هؤلاء يظلمون الناس باقوالهم واولئك يظلمون الناس بافعالهم. هذا عن دور رجال الدين، ولو عدنا الى المنهج نرى ان اطلاق شعار " الاسلام هو الحل " شعار جميل، لكن دون وجود الية عمل، لان رافعوا هذا الشعار ليس لديهم برنامج واضح لتغيير الوضع، وكل ما لديهم هو بعض المعلومات المتوافرة والمتناقضة احيانا عن حقبة قديمة من الزمن، والاشكالية الكبرى في تاريخ المسلمين انهم مزجوا بين بعض القواعد والتوجيهات القرانية على المستوى الاخلاقي بالحياة، واعتبروا ان ما حدث في القرن السابع الميلادي، هو اخر اتصال للسماء بالارض، وان السماء قالت كلمتها النهائية للبشر، بمعنى ان التاريخ توقف في القرن السابع، ولا يجب على أي انسان ان يجتهد، بل ان يرجع الى بطون الكتب القديمة، ليحل مشاكل القرن الحادي والعشرين !!
وهذا الخلط خطير جدا، لانه يخلط ما بين القران، الذي جاء لاناس معينين، في بيئة معينة، ليحل لهم مشاكلهم في ذلك الوقت، و نسوا ان هذا وقتي وزمني ويجب ان لا نخضع له ابدا، لانهم كانت لهم معاملاتهم المتوافقة مع زمانهم، فمثلاً: لو ان هذا القران اعطى المراة الحرية وساواها بالرجل، ما امن به احد وقتها.(4)
ثم ان كل تشريع هو عبارة عن وسيلة للوصول الى هدف اجتماعي معين والمشكلة ان الناس يهتمون بحرفية التشريع ويهملون روحه وهدفه الاساس. لقد جاء الاسلام ليحرر العبيد، ثم اصبح سبباً من اسباب تكثيرهم بواسطة الغزوات !
ولو بحثنا عن مواطن الزلل نجده في الازدواجية، ازدواجية المعايير والافكار، وبالتالي ثنائية التقويم، فلقد قسّم الاسلاميون العالم الى: دار اسلام ودار حرب، فنحن نعيش اليوم بين الله وابليس، بين الوطنية والخيانة، بين الخير والشر، أي اننا لا نرى الا لون واحد، ونتعامى عن باقي الالوان الاخرى، لا لانها غير موجودة، بل لاننا لا نريد ان نراها.
والحل: هو عدم تكفير الاخر وابعاده، بل يجب ان نراه كما هو، لا كما نود ان نراه، حتى نتمكن من ان نخبر سلوكه ونعرف مراميه، فلو نظرت الى الساحة السياسية اليوم، ستجد ان الخطاب النضالي الايديولوجي هو المسيطر على الساحة، وعندما نحاول فهم هذا الخطاب نجد انه قائم على تمجيد الذات، منطلقاً من نرجسيته الدينية " نحن خير امة اخرجت للناس " كما ان يلصق كل الرذائل بالاخر " المسيحي واليهودي "، فامريكا واسرائيل هما سبب تخلفنا التكنولوجي والاقتصادي، وسبب الزيادة السكانية، وسبب الامية والجهل، وسبب البطالة.. الخ.
لابد لنا من ان نتخلص من نرجسيتنا الدينية، ومن عقدة الاضطهاد، ولابد ان نعترف بضعفنا، وهواننا على الناس، لانه بدون هذا النقد الذاتي لن نتقدم قيد انملة.(5)
ورافعو الشعار المذكور: مثقفون منتمون للتيار الاسلامي، في سبيل الكسب المادي، والظهور على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون، وشيوخ فضائيات يتاجرون به، لتزداد به حساباتهم في البنوك، بينما المسضعفون يزدادون فقراً وتخلفاً، وهم يهتفون للشعار الجميل. رفعت هذا الشعار شركات توظيف الاموال، فضاعت فلوس الابرياء، ويستمتع الان ال " سعد " وغيره بهذه الاموال في" بلاد الكفرة " من جهة نظر رافعي الشعار، ويعاني " الغلابة " الذين فقدوا تحويشة العمر، ولم يساعدهم مستشارو شركات التوظيف، من شيوخنا الاجلاء امثال " …" بل ازداد ثراءهم، بتحولهم الى مستشارين للامراء والبنوك التي تدعى انها اسلامية ، والتي مقارها في سويسرا.. عاصمة الربا في العالم !
كان الناس قبلاً لا يبالون ان ينهب الخليفة من اموالهم ما يشاء، مادام يغمى عليه من خشية الله، ويبني المساجد، ويغدق النعم على الواعظين، وهذا هو نفس السبب الذي يجعل الناس يهتفون: " الله ياسيدنا الشيخ " كلما شاهدوا نجما تلفزيونياً يزداد ثراءاً، وهو يقول لهم: هذا هو الحل السحري، الذي لا يكلفه شيئاً، او يحكي لهم قصص بلهاء من التراث، تحكي عن بطولات دخل اصحابها الجنة.
والحقيقة ان الاسلام بعد عصر البنوة، وفي التطبيق السياسي، فهمـَه عمر ابن الخطاب غير مافهمـَه ابو بكر الصديق، وفهمه عثمان بطريقة تختلف عن كليهما ، رغم ان هذا الاخير قد قبل الحكم على اساس انه سيحكم بسنة رسول الله (ص) والشيخين من بعده، ولكنه لم يفعل، مما ادى الى مقتله في النهاية، وكان عمار بن ياسر وابو ذر الغفاري من اشد معارضي عثمان (رض) وكان عمار يرى في خلافته عودة اعدائه وقتلة اهله الى سدة الحكم، وكان يعتقد ان القريشيين يتظاهرون بالاسلام.
كما ان فهم علي (رض) يختلف عن فهم الخوارج للاسلام، الى ان وصل الامر … الى ان يطبق معاوية بن ابي سفيان الداهية، بمساعدة عمرو بن العاص، نظريته الخاصة، القائلة بان " طاعة الحاكم من طاعة الله " وهو المفهوم السائد الى الان، ياخذ منك الحاكم كدك وعرقك، ليبني القصور ويشتري الجواري، وما عليك الا الطاعة والا طارت رقبتك. والحاكم: هو كل من وصل الى الحكم بالوراثة، وايده اهل الحل والعقد ، من فقهاء السلطة، او هو من وصل الى الحكم بحد السيف، وايده نفس الفقهاء، خوفاً على رقابهم.
ان العلمانية نشات ضد سلطة الكنيسة، وليست ضد المسيحية، ولكن الكنيسة طرحت نفسها باعتبارها المسيحية، ولذلك من الضروري التمييز بين مفاهيم: الدين والمجتمع والدولة، فالمجتمع ليس الدولة، ولا يستطيع احد بأي قرار ان يفصل الدين عن المجتمع، ولكن يجب ان نحارب جميعاً لفصل الدين عن الدولة، لان الدولة ستحكمنا جميعاً.اذا كان للدولة دين فانها تملك تفسيرا احاديا للدين وسيكون هناك اضطهاد، ليس لابناء الاديان الاخرى فحسب، بل لابناء الدين نفسه، فعندما يقال: ان دين الدولة هو الاسلام، المقصود به: الاسلام الذي تطرحه الحكومة والمؤسسات الرسمية، ومن يطرح تفسيرا خارج هذا الاطار، فهو مرتد.(6)
ان شعار " الاسلام هو الحل " اتخذ كاداة دينية لتحقيق مآرب سياسية، ليس لها صلة بالدين كواقع معايش، و التيار الديني يتجه الى كهف الماضي بحثاً عن المستقبل، فاصبح المسلمون يعيشون الحاضر وكانه فترة عابرة، لا يتقيدون بها جدياً.(7)
لقد تم تحويل لغة الفقهاء البائدة تاريخياً الى احكام قطعية، لا تقبل الجدل، مثل الفتاوى المتعلقة بغير المسلمين، لقد تفجرت ازمة الابداع الفكري في المجتمع الاسلامي بسبب اللقناعة الخاطئة، بان السلف لم يترك للخلف شيئاً لانه افضل منه (8) !
ان المجتمع المدني لن يقام ، ولن ندخل عالم الحداثة بدون حدوث قطعية معرفية مع رؤى وافكار العصور الوسطى، نحن قوم لا زلنا نحاول ان نجد حلولاً لمشاكلنا باستفتاء الاموات، ولذلك نحن قوم نعيش باجسادنا في القرن الحادي والعشرين، ولكن من الناحية الفكرية في عالم اخر يبعد عنا مئات السنين، وما دمنا لم نحدث هذه القطعية، فلا امل لنا في أي تحديث.

1-المفكر بختيار علي
2-د. علي الوردي " وعاظ السلاطين"
3-المصدر السابق
4-د. محمد عبد المطلب الهوني
5-د. محمد عبد المطلب الهوني
6-د. احمد البغدادي " مجلة النهج"
7-الكاتبة التونسية فاطمة المرنيسي
8-د. احمد البغدادي.