يتسمّ راهن العرب والمسلمين بالإنهيّار الأكبر في كل المجالات، فعلى الصعيد السياسي لم نتمّكن من إنتاج نظام سياسي يدير الدولة والمجتمع وفق رؤية متزنة وإستراتيجية.
ناهيك عن غيّاب الرؤيّة المعرفية التي يجب أن يصطبغ بها هذا النظام، فنظمنا السياسية وبكل بساطة هي مجمع للمتناقضات الغريبة والتي ساهمت في إنتاج الفوضى السياسية و الثقافة و الإقتصادية و الإجتماعية، فالنظم المحسوبة على المدرسة الإشتراكية لا هي ّ إشتراكية ولا ليبيرالية و لا بينهما، والنظم المحسوبة على المدرسة الإسلامية لا هي إسلامية ولا ليبيرالية ولا إشتراكية، و النظم المحسوبة على الليبيرالية لا هي ليبيرالية ولا إسلامية ولا إشتراكية.
وبإيجاز فإنّ منظتمنا السياسي والعصابة التي تقف وراءه يكون مع الإسلام عندما يكون الإسلام واقيا له من الإنهيار والسقوط، ويكون مع الليبيرالية عندما تكون الليبيرالية حامية له من السقوط و هو مع المدارس الأخرى عندما تحميه من التآكل.
والعلاقة بين المنتظم السياسي والفكر إذا جاز هذا التعبير هي علاقة زواج متعة تنتهي العلاقة بإنتهاء الأجل المتفق عليه بين الزوج وزوجته المؤقتة، و يكون الزوج بذلك قد حقق لذته الحيوانية دون أن يكترث بمصير الزوجة ولا حتى الولد فيما إذا تكونّ في رحم المتمتّع بها جنين..
و هذا ما يفسّر إفتقاد المنتظم السياسي العربي لأي لون وصبغة، فهو منتظم متداخل يصعب على الباحث الأكاديمي أن يجد أطراف معادلته لأنّه لا يوجد لمثل هذا المنتظم معادلة بالأساس.
كما من الصعوبة بمكان معرفة هوية هذا المنتظم السياسي في مرجعيته السياسة و هي الدستور، فالدساتير العربية تتغيّر بإستمرار وحسب المصلحة العليا للمشرفين على هذا المنتظم السياسي.
ففي المرحلة الإشتراكية و إنحياز بعض دولنا العربية إلى المحور الماركسي الأحمر كانت الأحزاب الأحادية الحاكمة مقرونة بمصطلح الإشتراكية، وبعد البيرسترويكا والغلاسنوست وتفرّد الولايات المتحدة الأمريكية في صناعة القرار السياسي العالمي لجأت هذه الدول إلى الليبيرالية التي وسعّت من نفوذ رجالات الدولة، فالحرية الإقتصادية، وحرية السرقة والسطو على أقوات الشعوب ونفطهم و مدخرات مستقبلهم كانت حكرا على رجالات الدولة في المراحل الإسلامية و الإشتراكية والليبيرالية، وهذه خصيصة أخرى تضاف إلى ميزات المنتظم السياسي الذي يرسم لشعوبنا منحنيات سيره ونموه. ففي الوقت الذي كان فيه هذا المنتظم يتبنى شعار العدالة الإجتماعية و المساواة و توزيع الأراضي بين الفلاحين و ما إلى ذلك من الشعارات الديماغوجية، كان رجالات الدولة يسكنون في القصور المنيفة و رواتبهم العملاقة تحوّل إلى حسابات غربية – وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ بعض الرؤساء العرب كانوا يحولون من عشرين إلى ثلاثين بالمائة من مداخيل النفط إلى حساباتهم الخاصة – وكانوا يعتبرون هذه الثروة القومية ثروة شخصية لهم ولأولادهم و من يتخندق في خطّ الدفاع عن ألوهيتهم وربوبيتهم ونبوتهم و أعلميتهم وعبقريتهم و ما إلى ذلك.
ولم يحكم المجتمع بأيّ مرجعية فكرية أو سياسية بل كان هذا المجتمع ولا يزال خاضعا لأهواء الحاكم وبطانته و الملك وبطانته والذين لا مرجعية لهم على الإطلاق، لا ليبيرالية و لا إشتراكية ولا إسلامية، فالدول الغربية التي حكمتها الليبيرالية حققّت نهضة حقيقية في أكثر من موقع غربي، والدول التي كانت محسوبة على الخطّ الإشتراكي هي في وضع أحسن حالا منّا في العالم العربي والإسلامي بمئات المرّات، والإسلام كان دائما يستغاث به لإنقاذ الحاكم المنهار بسياسته الظالمة على قاعدة: و أطيعوا أولي الأمر منكم، ونسيت بطانة الحاكم الفقهية السيئة أن تكشف للناس أنّ المقصود ها هنا هم أولو الأمر العدول العالمون المتقون الزاهدون الطائعون العابدون الذاذون عن حياض الوطن والإسلام، و ليس هم الزناة والفجّار والطغاة و كارعو الويسكي والفودكا و مراودو الغلمان والغيد الأمانيد والحسان الكعاب...
و إفتقاد المنتظم السياسي العربي لهوية فكرية وثقافية ومرجعية جعله غير مستقّر مزاجي متقلّب بعيد عن الرؤى الإستراتيجية والتخطيط القريب والمتوسط والبعيد المدى، وهو بدل أن يتشرّب من ينبوع فكري قوامه مؤسسات عملاقة للإنتليجانسيا القادرة على صناعة الرؤية الإستراتيجية، فإنّه يتشرّب من أهواء الحاكم ومزاجيته ومصالحه الضيقة،
و أحيانا يتشرّب من المؤسسّة الأمنية والأجهزة الأمنية التي تملك مطابخ لصناعة الأفكار والتي توصي بضرورة إكثار الحفلات والسهرات الليلية للتنفيس عن الشباب، و لا تمانع هذه الأجهزة أن يكون شعبان عبد الرحيم وفيفي عبده مرجعين من المراجع، وللإشارة فإنّ رئيسا عربيا أوصى مخرجا سينيمائيّا من بلده بأن يزيد من عدد القبلات في أفلامه لإمتاع الناس الذين جلب لهم الحاكم العربي الإفلاس فأراد أن يعوضهم بالقبل
السينيمائيّة.
والذي يعمل النظر في أفلام السينيما المصرية على سبيل المثال الغارقة في العهر يدرك لماذا إنتشر الإيدز السياسي في واقعنا العربي.
إنّ المنتظم السياسي العربي يهمّه البقاء برجاله ولذلك فهو يلجأ إلى كل الأساليب والوسائل والطرق التي تجعله يعمّر أطوّل مدّة ممكنة.
وهنا أبدي إستغرابي ومن حقّي أن أقدمّ إشكالا للمشرفين على كتاب غينيتس للأرقام القياسيّة كيف حجبوا النظام الرسمي العربي من شرف الدخول إلى قاموس غينيتس للأرقام القياسية، أليس هذا النظام قد حققّ الرقم القياسي من حيث مدّة البقاء!
أليس حكامنا أدامهم الله قد حققوا الرقم القيّاسي في مدة حكمهم!
وهم لم يكتفوا بذلك بل عينوا نطافهم وحيواناتهم المنوية لتكمل حكمنا في مشرق الأرض ومغربها، وبذلك يتحققّ الإمتداد والتكامل لهذا المنتظم السياسي...

بقلم / يحي أبوزكريا.