يبحث القارئ فى الصحافة المصرية على مدى السنوات الماضية على أى جديد فلا يجد، إلا النُزرّ مما تكتبه قلة من الكتاب (المثقفين) والمفكرين الذين يحترمون أنفسهم قبل أن يحترموا عقول القراء. وأخص من هذه القلة التى تكتب ما يستحق القراءة كتّاب أهمهم السادة/ صلاح الدين حافظ، سلامة أحمد سلامة، نبيل عبد الفتاح، عبد المنعم سعيد، محمد السيد السعيد، السيد يس، سعد الدين إبراهيم، طارق حجى، هالة مصطفى، أمينة النقاش، سيد القمنى، سعيد العشماوى، محمد عبد المنعم، مصطفى الفقى، رفعت السعيد، يحى الجمل، يوسف سيدهم، مجدى خليل، سامح فوزى ومثلهم فى العدد لا أكثر. أما بقية الكتبة.. فلا شأن لهم بفن الكتابة أوالفكر، إنما هم جماعات من الدخلاء الجهلاء، ضيقى الأفق، عديمى المعرفة، ومنهم عديمى الذمة والأخلاق أيضا. وقد أبتليت كل الصحف المصرية بهذا الوباء، كبراها وصغراها، حكومية ومعارضة. ولكن والحق يقال، فإن مرض صحافة المعارضة أشد من مرض صحافة الحكومة. على أن ذلك لا يرجع لإنتساب الأخيرة للحكومة بقدر ما يرجع إلى أن البقية الباقية من الكتاب المحترمين العاملين بؤسسة الصحافة الحكومية هم من الرعيل القديم المثقف ثقافة إنسانية منفتحة وعلى دراية بما يحدث فى العالم، بالإضافة إلى إمتلاكهم معرفة متراكمة وخبرة متجددة فى الفكر السياسى، كما أن منهم بعض الأكاديميين. أما غالبية الكتاب المساكين فليس لديهم أية من هذه المواهب والخبرات، كما إنهم نتاج عصر الإنحطاط الثقافى والتعليمى الذى ضرب عقل مصر كلها فى مقتل منذ الستينات، بعد أن إنعزلت بلدنا عن كل التيارات الفكرية العالمية.
وهناك من الزملاء من كتبوا عن أزمة الصحافة المصرية وأزمة العقل المصرى، بوجه عام. ويبدو من الواقع الذى نراه فى هذه الكتابات أن جرعة التدين السلفى والكتابات الخرافية التى غطت على الخطاب الدينى الذى كنا قد ورثناه أيام الحرية والليبرالية وعصر التنوير، كانت لها الأثر الفعال فى شل حركة الفكر العقلانى النقدى القادر على التعامل مع مشاكل الواقع والحياة.
هناك أمثلة عديدة على هذا الشلل الذى أشير أليه، وهو الشلل الذى يساهم فى تزييف الوعى وأحد أساطينه المعتمة للعقل والبصيرة الملقب بالدكتور/ زغلول النجار الذى أنبأنا بأن كل علوم الدنيا قد قال عنها القرآن الكريم. وهو إدعاء يجافى كل المعارف الدينية قبل العلمية. أما أسلوب الجدل و"الردح" المصرى الذى أبتليت به الصحافة المصرية، فهو تعبير عن حرية فكرية مريضة، أفرزت الصحافة المدعوة صفراء.
وقد شهدت الأسابيع القليلة الماضية، إبان أحداث المدعوة "فتنة طائفية" حملات صحافية عُصابية، إن دلت على شئ فانها دلت على جنون الشلل الصادر عن تجلط الفكر وإنعدام الذمة. ومن أمثلة ما كُتب فى هذه الحملة ما نشرته جرائد الأسبوع والأمة والعربى، ومجلة الأهرام العربى. ولما كان المجال لا يسمح بايراد أمثلة من كل تلك الصحف، أكتفى بما جاء بجريدة العربى الصادرة عن الحزب الناصرى الكسيح.
بعد قراءة متأنية لما كتبه السيد/ جمال أسعد تحت عنوان "أخطاء كنيسة البابا شنودة"، والمنشور بجريدة العربى بتاريخ 2 من هذا الشهر، رأيت أنه من الواجب التعليق لسببين: الأول، أن أسلوب ولغة الكاتب تسئ للناشر قبل أن تسئ للبابا نفسه، لما بها من تجريح شخصى لشخص البابا، وهو شخصية روحية لها مكانتها الكبيرة فى قلوب ملايين من الأقباط وغير الأقباط. أما عن موضوع المقال، الذى إستقرأته بصعوبة، وهو سياسة الدولة ذاتها تجاه الأقباط، فقد غلفه الكاتب بأمور فرعية وإنفعالات شخصية حادة ومغالطات وتأويلات ذاتية ليس لها أساس من الواقع أو رجاحة المنطق. وكل ذلك من خصائص الكتابة التى أبتليت بها الصحافة فى مصر التى كنا نتصور انها "محروسة".
أعود إلى ما كتبه جمال أسعد، فأقول: أن الإدعاء بأن البابا شنوده الثالث يقوم بدور سياسى، بدأ - كما يقول الكاتب - بأحداث العدوان على الأقباط بمدينة الخانكة فى أوائل السبعينات هو إدعاء كاذب، لم يقل به أحد قبل جمال أسعد، إذ حتى المرحوم الدكتور/ جمال العطيفى الذى رأس لجنة برلمانية لتقصى حقائق تلك الحادثة وحوادث أخرى طالت الأقباط فى تلك الفترة، لم يقل به. المعروف، وهو ما أقر به الكاتب فى نهاية مقاله، أن مسئولية البابا كرئيس للكنيسة أن يرعى الشعب ويقف بجانبه أدبيا فى وقت المحن! وهو بالإضافة إلى ذلك موقف إنسانى لايمكن لإى إنسان شريف أن يتنصل منه. وهناك إخوة مسلمون وغير مسلمين كُثر، رفعوا صوتهم دفاعا عن حقوق الأقباط! فماذا يقول جمال أسعد أو غيره فى ذلك؟
وأين السياسة هنا من عمل البابا، الراعى الأول، وهى المطالبة بالسلام بين الأقباط والمسلمين؟ أين هى السياسة عندما يقوم أى إنسان، سواء كان البابا نفسه أم أي شخص آخر، بالمطالبة برفع الظلم وعلاج المشاكل وحماية الناس؟
مفاهيم الأخ جمال، ومن شابهه، عن معنى الدور السياسى مفاهيم مغلوطة، فالعمل السياسى لايحسب هكذا إلا إذا كان صادرا عن شخص يعمل بجهاز الدولة، كعضو بالحكومة أو بحزب من الأحزاب، مثلا. وقداسة البابا ليس عضوا بالبرلمان أو بمجلس الوزراء حتى يزاول السياسة بمفهومها الحقيقى. وبمعنى آخر، وما نراه فى الواقع، أن الدور السياسى لا يمكن ان يُمارس إلا من خلال المؤسسة او الآلية السياسية، وهذا ما لم يقم به قداسة البابا، وما لا يستطيع القيام به، فصميم عمله روحى محض.. تعليمى.. ثقافى دينى.
أما أن يقوم الشخص - أى شخص - بأبداء الرأى فى المسائل العامة، حتى وإن كانت تتعلق بمظالم أو دفاعا عن حقوق، فالأمر هنا لايتعدى المجال الفكرى، وهذا حق لايمكن حرمان أى شخص منه، حتى وإن كان له تأثير إيجابى على المجال السياسى. وعلى النقيض بما يقول ويظن جمال أسعد وغيره، فإذا كان الرأى والفكر لهما تأثير إيجابى، فالشكر والعرفان واجبان لمن أسدى بمثل هذا الفكر والرأى!!
اذلك، أقول لجمال أسعد: إتقى الله فيما تدعى بقيام البابا بدور سياسى.. وهو إدعاء تكرر منه أكثر من مرة بشكل ممل، وبتفاسير بعيدة عن المنطق والواقع! ولذلك، أعود فأقول أن للكنيسة، كما للأزهر أو أي مؤسسة أو جماعة معترف بها وتعمل فى العمل العام سلميا، عليها مسئولية روحية وأدبية فى الدفاع عن المظلوم والمضطهد، وإلا كانت متواطئة مع الظالم!
قداسة البابا لم يقل – حسبما إدعى الكاتب – أنه يمثل الأقباط سياسيا، كما لم يقل أحد بذلك. ولكن قداسة البابا هو الأب الروحى لكل الأقباط فى العالم. فإذا كان الأقباط يلجأون لقداسته، فهم يفعلون ذلك من منطلق روحى/ أدبى. إما إذا كانوا يشتكون عن أوضاعهم السيئة لقداسته، فأنهم يفعلون ذلك إضطرارا بعد أن أغلق المسئولون فى الدولة إذانهم عنهم. إين يذهب الأقباط، بعد أن تركهم الكل..؟!!
كان الأحرى بالسيد/ جمال أسعد - إن كان حقا رجل سياسى، والعياذ بالله - أن يلوم الدولة لقيامها بدورها السياسى بشكل معوج، فبدلا من رد حقوق الأقباط المسلوبة، وأعطاء الشعب المصري كله حقوقه، سلبته إياها!! لماذا إذن يُلام البابا؟
ثم يخرج جمال أسعد من صراعه ضد البابا إلى حكاوي أخرى لا رابط بينها ولا ضابط. ولا يعرف المرء ماذا يريد من كل هذا. و يأتى بنا إلى العدوان الإرهابى المشين ضد الولايات المتحدة فى سبتمبر 2001، ويحاول أن يفتى فيه. وهنا إتساءل ما دخل الكنيسة بتلك الأحداث ومسألة صراع الحضارات الذى أقحمه الكاتب "الكبير"، جمال أسعد، وسط هذا الكم من الأفكار المشوهة والمشوشة، التى تصيب القارئ بالدوار، فتكاد تبعث على الغثيان!
أعتقد أن الخوض فى بقية مقال الأستاذ/ جمال أسعد، غير ضرورى، ولا يستحق التعليق، لأنه من نفس النوعية التى علقت عليها أعلاه، وكان ذلك على مضض، لأن الموضوع من أساسه غير ذي موضوع. ولكن لزم التنويه لعل حال الصحافة المصرية يتغير وينصلح، فتنشر ما يفيد وما يصلح للنشر والتعليق!! ولكن هل هناك أمل فى علاج قريب لهذا الشلل؟ تعالوا بنا نسأل الشيخ زغلول النجار مكتشف الذرة فى القرآن!

(*) رئيس المنظمة الكندية المصرية لحقوق الإنسان