يتساءل البعض ( بخبث ) الليبراليين: لماذا يتجشم الأرهابيون ( وغثاء ) السفر للعراق لمقاتلة الأمريكيين ( وعملائهم ) العراقيين في حين ان القواعد الأمريكية لصيقة بيوتهم، وان آلافا من ابناء وطنهم، يتعاونون مع الأمريكيين ويمكن وصفهم بالعملاء حسب مقياس ( تيمي ) الثوري القومي الأسلامي المتكون من درجتين فقط هما درجة سلفي ودرجة كافر؟ لماذا لايقاتلون الامريكيين في بلدانهم مازال الهدف هو مقاتلة ( الكافر ) الأمريكي ( وعملائه ) المحليين؟ لماذا يأتي طالب طب سعودي من السودان للقاء غلمان الجنة وحورياتها على ارضنا تاركا وراءه سفارتي اسرائيل في القاهرة وعمّان وناسيا الجولان المحتل وقاعدة السيلية الملاصقة لمبنى ( جزيرة الحب الفضائية )؟هل ان ابواب الجنة لاتفتح ابوابها الا عند منابع الدم العراقي، ام ماذا؟الجواب على هذه الأسئلة ( المشبوهة ) هو ان العراق يتوفر فية قدر من ( خليط ) الديمقراطية ( واحترام ) حقوق قتل الأنسان وقيم بدوية ( اصيلة ) كأجارة المجرم والتستر عليه صونا للشرف البدوي، وهي امور لاتتوفرفي بلد عربي آخر. ومثل هذه الخليط الديمقراطي البدوي يجعل ( الجهاد في سبيل الله ) ميسّرا هنا على عكس ماهو موجود في مصر او الأردن او سوريا او في اية بقعة عربية غير العراق، حيث تواصل قوى الأمن في تلك البلدان شن حملات اعتقال احترازية ليل نهار، بحيث يصبح ( فرض عين ) على شخص، جزع من الحياة ويتلهف الى حوريات الجنة ( ربما نتيجة حرمان جنسي مزمن ) كطالب الطب السعودي، التوجه الى العراق حيث اقصر الطرق للصعود الى الجنة ( على جثث الأبرياء العراقيين ) لملاقاة سبعين حورية وثلاثين غلام امرد. هذا هو ياسيدي سرّ حجّ الشباب ( المسلم ) لبلادنا. لقد اذّنت فيهم ديمقراطيتنا ومراعاتنا ( لحق ) الجريمة للجهاد فجائوا افواجا افواجا ومن كل فج ( سحيق ) ومظلم. تصوروا، بربكم، لو ان حزب الأخوان المسلمين في مصر شن حملة ( مقاومة ) في مصرلترحيل الأسرائيليين عن ارض مصر ولهدم السفارة السرائيلية في القاهرة، هل سيجرا السيد عمرو موسى عندها على دعوة الحكومة المصرية لأجراء مصالحة مع الأخوان؟ وهل يظل ( اخوانجي ) مصري آمنا في بيته حتى ولو لم يشارك في ( المقاومة )؟ لقد شن عدد قليل من الأرهابيين بعض الهجمات في مصر في نهاية السبعينات فاودع السجن عشرات الألاف، ولم يطلب احد من الحكومة المصرية المصالحة مع الأرهابييين، بل ان الأرهابين انفسهم ( نتيجة المعاملة الديمقراطية في السجون ) اعلنوا التوبة مقابل اطلاق سراحهم. وهذا المشهد سيتكرر في اي بلد عربي لو حدث شيء قليل مما يحدث في العراق الآن. اما هنا ( في العراق ) فكما قال الصديق الدكتور عبد الخالق حسين في مقالته - عام جديد وكوارث تتوالى -( عندما يتم القاء القبض على عشرين او ثلاثين ارهابيا يتم اطلاق سراح المئات منهم ليمارسوا الأرهاب من جديد ). وكأن الحكومة المؤقتة او الأمريكيين حريصون على عدم الأخلال بقوة الأرهابيين الديموغرافية!!! هل نصدق ( بنظرية المؤامرة ) القائلة بان الامريكيين يريدون ذلك لعدة اسباب منها انهم يريدون استدراج الارهابيين الى ساحة القتل العراقية؟. انا لا أؤمن بهذه النظرية واشارك الذين يعتقدون بأن الامر لايعدو عن كونه مجموعة اخطاء مركبة، من بعض اسبابها عدم الدراية الكافية بطبيعة المجتمع العراقي الذي تمتزج فية القيم البدوية ( العشائرية ) مع قيم مشوّهة زرعها نظام الرعب البعثي. وحين دخل الأمريكيون الى العراق كانت تطاردهم تهم كثيرة وتحيط بوجودهم في العراق شكوك اكثر، ولكي ( يثبتوا ) للعراقيين وللعالم انهم محررون وان هدفهم اقامة نظام ديمقراطي واشاعة الحريات باشروا بأطلاق الحريات بشكل مفاجيء وغير مدروس فتحولت الحرية الجديدة في ارض العراق الى فوضى عارمة طالت كل شيء وذلك لان بيئة العراق كانت غير مهيئة لأحتضان النبته الديمقراطية على هذه العجالة لعدة اسباب منها ان ثقافة وعادات العراقيين التي يغلب عليها مزيج من القيم البدوية ( العشائرية ) والدينية وثقافة الخوف لاتستوعب بسهولة القيم والمفاهيم الديمقراطية. وقد شاهدت في احدى الفضائيات العربية لصا وقد القي القبض عليه وهو متلبسا بجريمته يصيح باعلى صوته محتجا على القاء القبض عليه: هي هاي ديمقراطية بوش!!

يرى البعض، وانا منهم، ان الفوضى وانتشار عمليات ( الفرهود ) التي اتخذت اسما شعبيا هو ( الحواسم ) سخرية من ( حواسم ) صدام، سببهما الأول غياب الدولة بكل اجهزتها، وانتشار الفقر والبطالة والحرمان، والشعب العراقي ( حسب هذا الرأي ) ليس حالة استثنائية، فحتى الولايات المتحدة الأمريكية حصلت فيها عمليات ( فرهود ) اثناء احداث الشغب التي قام بها الفقراء السود، وحدث نفس الشيء في عدة دول افريقية، وهذا شيء صحيح ولكن لايمكن اغفال اهمية رواسب البداوة في المجتمع العراقي، ولايمكن تجاهل حقائق الواقع العراقي التي لاتعتبرافعال السرقة والنهب ( الفرهود ) والرشوة ( والمحسوبية والمنسوبية ) وحتى القتل، افعالا مخلة بالشرف لان معيار الشرف عند اغلبية العراقيين هو معيار جنسي فقط، فالشريف من صان عرضه والشريفة من صانت فرجها، وبعدها فكل شيء هيّن ومقدور عليه لأنه لايمس الشرف في نظرهم. وما ظاهرة ( الفرهود ) التي اعقبت سقوط النظام، والتي تكررت عدة مرات في تأريخ العراق الحديث، الا تجسيدا، في جانب مهم منها، لقيم بدوية تمجد النهب ( فالبدوي نهّاب وهّاب ). وأهمية الأموال المنهوبة عند البدوي تتعدى قيمتها المادية الى قيمة معنوية اجتماعية لأن ( الغنيمة في نظر العشيرة دليل على شجاعة صاحبها ) - علي الوردي - لمحات اجتماعية ج 4 ص 184

وقد يقول قائل ان هذا الوصف لاينطبق على العراقيين في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين. وهذا الأعتراض صحيح الى حد ما، ولكن عند التدقيق في الواقع العراقي نرى وكأن شيئا لم يتغيرفي سلوك اغلبية العراقيين رغم تقادم السنين. ففي انتفاضة عام 1991 استباحت جموع الناس كل املاك الدولة بما فيها اثاث المدارس وازدهرت تجارة الأسلحة المنهوبة من مواضع الجيش المهجورة بل ان بعض الناس اخذوا معهم سيارات الدولة التي نهبوها الى معسكر رفحاء في السعودية وباعوها هناك وكانها ملكهم الخاص. والملاحظ ان عمليات النهب في مرحلة لاحقة ( اي بعد قمع الأنتفاضة ) شملت املاك المواطنين الذين هربوا بعد قمع الأنتفاضة، بل وامتدت لتشمل اثاث الجوامع والحسينيات، وهذا يذكرنا بنهب بعض رجال العشائر لمراجعهم الدينية في نهاية الحرب العالمية الاولى ( راجع المصدر السابق - ص 183 ). اما بعد سقوط النظام فأن عمليات النهب لم تستثني حتى اسلاك الكهرباء. ان اعمال الفرهود العراقية لاتشبه مثيلاتها في اية دوله في الكم والنوع والتكرار ولابد ان تكون لرواسب البداوة درجة تأثير كبيرة.

كما يجب ان نشير هنا الى قضية مهمة لها علاقة بعمليات الفرهود وهي علاقة المواطن العراقي السلبية بالدولة التي تصل احيانا الى عدم الشعور بالمواطنة فقد ذكر المؤرخ حنّا بطاطو ان احد الجنود المستائين قال لأحد نواب البصرة سنة 1937 عندما حاول افهامه بضرورة الدفاع عن الوطن ( عمي شنو وطن؟ ليس عندي كوخ اعيش فيه ولااحد يسمح لي برعي جاموستي حتى في الأهوار ) ثم عقب بطاطو على حالة هذا الجندي قائلا ( كانت فكرة ان يكونوا مدينين للبلد بشيء فكرة لامعنى لهاوفي الواقع فأنهم ( الفلاحين ) لم يكونوا يشعرون بالانتماء اليه )- حنا بطاطو - العراق - الكتاب الاول ص 175 -176

ويقول الدكتور علي الوردي ( ان العداء العميق بين العشائر والحكومة الذي دام عدة قرون لايمكن ان يزول بتأثير فورة حماسية مؤقتة ) علي الوردي نفس المصدر السابق ص 180

ولاشك ان حالة العداء للدولة تعمقت عند اغلب العراقيين بعد ان اصبحت الدولة في عهد النظام الصدامي مصدر كل ذاك البلاء الذي خيم على المواطنين. وان انسى فاني لاانسى ماحييت منظر تلك العجوز التي جلبت ابنها عام 1991 بعد قمع الأنتفاضة الى سيطرة امريكية في تل اللحم في الناصرية وصارت تتوسل بالجندي الأمريكي ان يقبل ابنها اسيرا لدى الجيش الأمريكي كي يتم نقله الى داخل الأراضي السعودية ويصبح بمأمن من مجازر قمع الأنتفاضة. رفض الجندي ذلك لانه شاهد ابنها يقوم باستبدال ملابسه المدنية باخرى عسكرية في احد الحفر المجاورة لنقطة التفتيش الأمريكية فحسبه محتالا، فاخذت العجوز تقسم له باكية بأن ابنها عسكري ( يم وروح الحسين صولجر.. اتجتف واحلف لك بالعباس ابني صولجر ) فرقّ لها قلب الجندي الأمريكي بمساعدة المترجم الكويتي وتم قبول ابنها كأسير ( والحمد والشكر لله ). ولايخفى على احد مغزى فرار اعدا غفيرة من الجنود والضباط العراقيين من جبهات الحروب في عهد النظام الصدامي وقيام عشرات الألاف منهم بتسليم انفسهم لقوات ( العدو )

ولو ان العراقي حافظ على اصالته البدوية وقيمه العشائرية لهان الأمرولقل حجم الكارثة ولكن النظام الصدامي دمّركل شيء فاضل في المجتمع العراقي وصار رادع العراقيين الأكبر هو الخوف، وربما الخوف وحده، ولذا فان العراقيين ايام انتفاضة اذار لمجرد ان شعروا بضعف النظام هبوا للمشاركة في الأنتفاضة بشكل واسع وكبير اثار سؤالا مهما هو: اين كانت هذه الجموع الغفيرة؟! ولماذا كانوا صامتين؟لاشك ان الأرهاب الصدامي هو الذي اجبرهم على الصمت وما ان ضعف النظام برزت ( عضلات ) معارضتهم. ونفس الشيء حصل بعد سقوط النظام وارتفاع سياط الخوف حيث صار العراقي يعترض ويحتج على امور كان الأعتراض عليها في زمن صدام يعتبر بطرا وجنونا. لعل قائلا يقول: ان هذا شيء طبيعي ففي اجواء الخوف يضطر الأنسان للرضوخ حفاظا على حياته. وهذا صحيح ولكن في حالة العراق فأن رعب العراقيين من اجهزة النظام ومدة معايشة العراقيين لأجواء الخوف، وسياسة النظام المبنية على اذلال العراقيين واحتقار رموزهم الأجتماعية ومسخ كرامتهم الأنسانية واهانتهم، قتل او اضعف الى حد كبير روادع اخرى مثل روادع الضمير والوطنية وروادع القيم الأجتماعية. أن الأمثلة على سياسة اذلال النظام الصدامي للعراقيين لاحصر لها ومنها قيام تلفزيون العراق بعرض صور حزينة لرؤساء اهم العشائر العراقية وهم يدخلون على صدام اذلاء نازعين عقلهم ( نزع العقال يدل على لوثة في الشرف في المنظور العشائري ) ثم قام صدام بالباسهم العقل، ولزيادة السخرية منهم قال لهم: ( لماذا لم تجلبوا اسلحتكم معكم؟ ان الرجل لايترك سلاحة )!! والشتيمة التي اراد صدام ان يوصلها للعراقيين من خلال عرض هذه الصور هي ان وجهاءكم بدون كرامة ولايستحقون حتى صفة الرجولة فما بالكم انتم. وكم من مرة ردد صدام بأن العراقيين قبل مجيئه للسلطة كانوا حفاة عراة. وعلى الصعيد الفردي فان اغلب العراقيين تعرضوا الى محاولات النظام المدروسة لمسخ كيانهم الأنساني، فمثلا ان جهاز الأستخبارات العسكري تعوّد ان يامر احد الضباط المشكوك بولائه بالطلب من اصدقائه المشاركة في انقلاب وهمي ضد السلطة، وهي ( الأستخبارات ) تعرف ان هذا الضابط سيخبر اصدقائه بأن الامر مكيدة منها، وفعلا يذهب الضابط ويخبر اصدقاءه بان المخابرات امرته ان يطلب منهم التآمر، وبدورهم يقومون، وبالاتفاق مع صديقهم، برفع تقارير ضده حول الموضوع. والهدف من هذه اللعبة هو قتل روح الثقة بين الضباط العراقيين واجبارهم على كتابة التقارير ضد بعضهم البعض. وتمارس اجهزة الأمن باستمرار نفس هذه اللعبة القذرة مع المدنيين لجعلهم وكلاء للأمن رغم ارادتهم بما يحمله ذلك من اذلال وتحطيم لشخصية العراقي. اما قيام النظام باخذ ثمن الأطلاقات من ذوي المعدوم فهي قمة الأستهانة بالعراقيين واذلالهم.

واذا كانت الفوضى ( حرية الفوضى ) وصيانة ( حق ) الجريمة تحت شعار ( صيانة حقوق الأنسان ) قد هيأت الأجواء لأنطلاق عمل ( مثلث ) الجريمة في العراق ( المجرمين العاديين، ومجرمي البعث والمجرمين السلفيين ) فأن بعض العادات والقيم الأجتماعية العراقية ساهمت بشكل كبير بأستفحال خطر ( مثلث ) الجريمة هذا في العراق. ومن هذه القيم مبدأ ( الخطيّة ) فهناك اعداد كبيرة من المواطنين يحجمون عن ابلاغ السلطات عن الأرهابين والمجرمين تحت ذريعة ( هذا خطية برقبته كومة اجهال ) في حين ان المواطن الغربي يبلغ الشرطة حتى اذا شاهد ابا يسيء لافراد اسرته.

اما المبدا الأخر فهو ( انه اشعليّه ) والمواطن الذي يؤمن بهذا المبدا الأجتماعي لايكلف نفسه ابلاغ السلطات عن نشاطات الأرهابيين والمجرمين. كما ان نسبة لايستهان بها من العراقيين لايقومون بابلاغ السلطات عن اقاربهم او ابناء عشيرتهم، وربما يصل الأمر حد التستر على ضيوف اقاربهم حتى لوكان هذا التستر سيؤدي الى مقتل عشرات الأبرياء.

وخلاصة القول ان مجتمعا كالمجتمع العراقي تترسب في اعماقه قيم متخلفة وخارجا لتوه من مستنقع ديكتاتوري عفن ورهيب بعد أن دام مكوثه فيه اكثر من خمسة وثلاثين عاما، وتنتشر فيه مظاهر الجوع والفقر والحرمان، لايمكن ان يتصرف بشكل متوازن في حال رفع القيود عنه مرة واحدة وبصورة مفاجئة. كان المفروض ان يتلقى المجتمع العراقي ( دواء ) الحرية والديمقراطية جرعة بعد جرعة الى ان يأخذ الدواء مفعوله ولاتحصل الفوضى التي حصلت وسط ابتسامات الأمريكيين والبريطانيين. وليست من غير دلالة النكتة العراقية التي تقول ان امرأة عجوز سألت ابنها عن معنى الديمقراطية بعد ان سمعت الجميع يلهج باسمها فقال لها ولدها ان الديمقراطية تعني تغيير الرئيس كل اربع سنوات. فقالت الأم على سجيتها: افتهمت. يعني كل اربع سنوات يصير فرهود.

[email protected]