يمكن للدين أن يؤدي دورا مهما في ترسيخ الديمقراطية، كما يمكنه أن يُثبط التجربة ويلغي القناعة حولها، وخلال السنوات الخمسين الماضية استخدم الدين بصورة واسعة لتقويض الدعوات الديمقراطية، فكانت الأصالة الدينية هي الشماعة التي يُستند إليها للتحذير من اتساع الحريات المدنية، وإثارة المخاوف من مؤديات الانفراج السياسي، ووضع التعارضات بين الحداثة والدين، وبين الشورى والديمقراطية، وبين دور المثقف ومكانة رجل الدين.

لقد أولت الحركة الاسلامية ورجال الدين أهمية كبيرة لمسألة الحريات العامة، وانخرطت أغلبها في صفوف متراصة لمقارعة الأنظمة المستبدة وفرض مناخ الحرية، لكن سرعان ما اصاب اهتماماتها النكوص وبدا أن أولوياتها استندت إلى ردود الأفعال المتصاعدة على موجة الأفكار التحررية المتأثرة بالأطروحات الفكرية الشرقية أو الغربية، وبدا الهم الأساسي للحركة الاسلامية مقاومة المد الشيوعي والتغريبي وايجاد مفاهيم أصيلة مقابل المفاهيم المستوردة والطارئة، فبرزت ظاهرة الثنائيات في الفكر العربي والاسلامي بصورة حادة ومريبة، وأصبح من العسير على أي حركة أو توجه اسلامي أن يدفع نحو الحريات بصيغتها الغربية لما قد يسببه ذلك من تخلخل البنية العقدية أو السلوكية للفرد المسلم، حتى تورطت جهات رئيسة من التيار الاسلامي في اتخاذ مواقف معادية للتعددية والحرية، واعتبرت نفسها الاستثناء للقاعدة، وأهملت تطبيقات الديمقراطية والشورى في أنظمتها وممارستها الداخلية.

يمكن للبعض أن يرد على هذا القول بأن موقف العلماء والحركات الاسلامية ضد الديمقراطية إنما ينبع من موقف اسلامي ثابت وصريح ضد ما تفترضه الديمقراطية من المساواة بين المواطنين، فيما الموقف الاسلامي يفترض أن صوت المسلم أعلى من صوت غير المسلم، وصوت الفقيه أعلى من صوت العامي، وصوت الرجل أعلى من صوت المرأة، ويظهر من خلال الادبيات الاسلامية الحديثة أن هذه القضايا لا تزال محل تباين وخلاف شديدين، وحتى وقت قريب كان الجدل طويلا حول تساوي صوت الفقيه - في قرارات الحركة - مع صوت بقية الأعضاء عند التصويت على قرار ما، وكان ثمة رأي بأن الكفة التي يميل لها الفقيه هي التي ترجح بغض النظر عن عدد الأصوات في الكفة الأخرى، أما على مستوى العمل السياسي المعلن فيمكن تسليط المجهر على رفض قطاع كبير من التيار الاسلامي في الكويت لمنح المرأة حقها السياسي، بل ونفي وجود هذا الحق من الأساس، أما اهمال صوت غير المسلم فهو لا يحتاج إلى أمثلة أو براهين إذ لاتزال بعض مجتمعاتنا تستنكف التساوي بين رأي المسلم الخالص والمسلم الذي ينتمي لمذهب آخر.

لكن ثمة أدلة على أن هذه المواقف ( الضد ديمقراطية ) ليست أصيلة في الدين، بل هي طارئة وحمية علمائية متأخرة، منها أن رجال الدين قبل الخمسين سنة الماضية كانوا أكثر مرونة في النظر الى الديمقراطية ومفاهيم الحرية السياسية، وساهم العديد منهم في تقديم معالجات راقية تتجاوز الكثير من نظرات الحذر الظاهرة الآن، وينقل عن الكواكبي أنه تأثر كثيرا بالمفكر الايطالي فيري صاحب كتاب ( الاستبداد )، وظهر ذلك جليا في كتابه ( طبائع الاستبداد )، كما تأثر النائيني بالفقه الدستوري الغربي و بالفكر السياسي الاوروبي الحديث كما أشار هو إلى هذا الأمر في مقدمة كتابه ( تنبيه الأمة وتنزيه الملة ).

ويتضمن مصنف الشيخ الكواكبي اعجابه الكبير بالنموذج السياسي الغربي وثناءه على قابلية هذا النموذج على اقامة حكومة عادلة، ولا يرى في ذلك انسلاخا عن شرعة سيد المرسلين، فيما يصف العلامة النائيني النظام السياسي البرلماني الذي يعتمد على آراء الشعب، والمشابه للنظام البرلماني الغربي بأنه افضل نظام يمكن تعقله، ولم يعارض القول بمساواة المواطنين المسلمين مع غير المسلمين وحقهم في المشاركة في الانتخابات ودخول مجلس الشورى، واستدل على ذلك بأحقية من يدفع الضرائب للدولة الاسلامية مراقبة ومحاسبة من يتصرف بالمال على حسن تصرفه.

وفي عام 1917 وقع عدد من مراجع الشيعة في النجف ( شيخ الشريعة الاصفهاني، وعبد الكريم الجزائري، وجواد الجواهري، ومهدي كاشف الغطاء ) على بيان يطالب بإنشاء حكومة عربية اسلامية يرأسها أمير عربي مسلم مقيد بدستور ومجلس تشريعي منتخب، ويلاحظ من مفردات البيان المذكور تأثره بأفكار العلامة النائيني ورياح المشروطة.

وهو الأمر الذي تكرر في كربلاء حيث وقع عدد من المجتهدين ( بزعامة المرجع محمد تقي الشيرازي ) وهو أحد انصار المشروطة على بيان يطالب بمجلس منتخب من اهالي العراق، لسن القواعد الموافقة لروحيات هذه الامة، وبالنظر إلى موقف القادة السياسيين في العراق المؤيد لإدارة بريطانية، فإن موقف المؤسسة الدينية يعتبر موقف متقدم ووطني ومنسجم مع روح الشريعة بما يعنيه ذلك من أن الدين ( في فهمهم ) لم يمانع من الأخذ بالأفكار الجديدة المتوافقة مع متطلبات العصر، كما أن فقهاء الشريعة في ذلك العصر لم يترددوا من طرح البدائل الفكرية المناسبة التي توفر للمسلمين سُبل الرقي والازدهار أسوة بالأمم المتقدمة.