عندما ألقي ألقبض على شاوشيسكو (وزوجته) بعد سقوط الدكتاتورية في رومانيا جيء بهما إلى زاوية من جدار والقى جندي من بين الجنود بيانا وأطلقوا عليهما النار وتقدم طبيب وتأكد من نجاح عملية الإعدام. وبذلك إنتهى عهد أسود قاتم مر عشرات السنين على شعب طيب وشوه أخلاقه وخلقه. وبدأ الشعب الروماني يبني حياته وبدأت الفئات الثقافية في رومانيا بتشكيل لجان تؤسس للشعب وللأجيال ذاكرة تمثل حقبة سوداء من تأريخهم فيما الشعب وحكومته توجهوا لبناء رومانيا ذات الإقتصاد المتواضع. ويوم القي القبض على الدكتاتور الأرعن شاوشيسكو بقيت عصاباته والمدافعون عنه والمستفيدون من نظامه والمنفذون لجرائمه، بقوا في الأنفاق التي حفروها لتغييب المواطنين. فلقد إختفوا هناك وماتوا هناك، ونجاح سرعة عملية القضاء على الدكتاتورية وأنصارها في رومانيا تمت من قبل شعب أفرز قياداته الحكيمة التي نزلت إلى الشارع وأملت إرادتها بصوت الشعب في تلك الليلة الخالدة من تأريخ رومانيا.
الألمان يقولون (المثل أعرج) أي لا يمكن إسقاط تجربة على تجربة ثانية لأن الظروف الموضوعية تختلف من مكان لآخر. ولكن ينغي إستنباط الحكمة من التجربة ولا يجوز إسقاط المثل على زمان ومكان آخر غير زمانه ومكانه لأن المثل أعرج. فعندما ألقي القبض على أكبر طاغية في التاريخ وأكثر طغاة العالم جريمية ( صدام حسين وعصابته)، طاغية مع قدرات مالية كبيرة في بلد ثري، كرسها كلها للجريمة وإنتاج الأسلحة المختلفة والمحرمة وجربها على السجناء السياسيين والمجانين، قبل أن يجربها على القرى في جنوب العراق وشماله وحول المدارس والمستشفيات إلى مقابر جماعية، عندما ألقي القبض عليه وعندما سلم أفراد عصابته أنفسهم لسلطات الإحتلال، إختفوا عن الأنظار ولم نعد نسمع سوى عن حديقة صغيرة يزرع فيها الطاغية الورد الذي عمره ماعرف لون الورد ولا رائحة الأرض ولا عبق الريحان، لم يعرف سوى رائحة الدم والبارود ودخان المعارك ودخان السيكار الكوبي الذي يرسله إليه الإشتراكي فيديل مع أعلى وسام كوبي وحيث كان يتوقع الذين حالفوا صدام حسين في ما يسمى الجبهة الوطنية سيئة الصيت، يتوقعون أن يكون صدام حسين كاسترو العراق فصاروا يحرسون ليل النظام مع البعثيين خوفا من زوار الإمام الحسين ( ع ) أن ينتفضوا وهم في خان النص بين (النواويس وكربلاء).
لو أردنا محاكمة صدام حسين (لو قتلت بيدي عشرة آلاف شخص لا تهتز في رأسي شعرة) ولو أردنا محاكمة علي حسن المجيد الملقب بالكيمياوي بصوته الذي سمعناه ( كتلوهم، شنهي المجتمع الدولي. أنعل أبو المجتمع الدولي) ولو أردنا محاكمة طه ياسين رمضان (من هي المعارضة العراقية، لو جمعناهم وأردنا أن نردم بجثثهم نهرا صغيرا لما ردموه) ولو أردنا أن نسمع صوت برزان التكريتي (سأجعل في كل بيت رجل أمن) ولو أردنا أن نعرف حياة سبعاوي الذي كان هو وعدي يقومان بإغتصاب الأطفال وقتلهم ولو أردنا أن نؤرخ القبور الجماعية ولو أردنا أن نسمع صوت طارق عزيز والسيدة الجرثومة ولو أردنا أن نعرف كم عبثت السيدة الأولى والإبنة الأولى والإبن الأول بأموال العراق ولو أردنا أن نعرف جرائم الصحاف.. فهل علينا أن ننتظر ألف عام أو ألف قرن من الزمان ونحن نحاكمهم حيث سيقف الشهود والشهداء طوابير بدون نهايات ليدلون بشهاداتهم ويبقى الدكتاتور يمثل دور العاشق ويسقي ورود حديقته ويخرج علي حسن المجيد الكيمياوي من المعتقل ليقول للقاضي ( أن محاكمتنا فيلم هندي) صار القاتل الحريف ناقدا سينمائيا.. يا سلام! ثم هل سنترك هذه العصابة أم نلتفت إلى من تحالف معها من الشيوعيين وقادة الأكراد، أم ننتخبهم لبرلمان جديد يعيدون فيه صياغة العراق وفق أيديولوجيتهم المقيتة؟ أم نحاكم من يسرق العراق الآن، أم نحاكم من يعبث بأمنه من بقايا الفاشست وضباط ما كان يسمى بالأمن والأمن القومي والقوات الخاصة وفدايئي صدام؟!
ما هو برنامجنا الوطني سادتي الأفاضل.. حلفاء صدام من البعثيين والشيوعيين عادوا إلى القوائم الإنتخابية بلباس جديد وصاروا وطنيين (قح).. كيف نصدق الحكاية أذاً، ومن سيحاكم صدام حسين إذا كان كل حلفائه في السلطة وفي المراكز الحساسة ويفتحون باب حديقته الصغيرة لمحاميه ليبلغه الأسرار ويمنحه الأسرار ويتبادل وإياه الرسائل الشفهية والرموز وتتشكل اللجان بدون خجل ولا وجل في عمان للدفاع عن (الرئيس) العراقي (إنتبهوا إلى كلمة رئيس سادتي) ويبقى أملا لعصاباته التي تذبح الوطن ويفرضون الشروط للمفاوضات اليوم ومنها إطلاق سراح (الرئيس).
كان مفترضا أيها الشعب الطيب أن لا تركن للإستراحة، وأن يكون غضبك شبيه بغضب الشعب الروماني الذي أفرز قيادته من خيرة أبنائه في ليلة واحدة، وشكل حكومته وأعطى صوته في ليلة واحدة وفي الشوارع والساحات، أعطى صوته للشرفاء من أبنائه ثم نام في الليلة الثانية بدون كوابيس.. اليوم تتراكم عليكم أيها العراقيون الكوابيس مرة ثانية. كان مفترضا أن تجري محاكمة الدكتاتور وعصابته في ليلة واحدة وتنفيذ القرار في ثانية واحدة فلم نكن بحاجة إلى شهود ( إن عالما يحتاج فيه المرء إلى شاهد لإثبات حقيقة واضحة كالشمس لهو عالم رديء سيء الإدارة _ هنريك أبسن) أما المحاكمة فهي الذاكرة التي يجب أن تتأسس بعد تنفيذ قرار المحكمة وتبقى الذاكرة ممثلة بالمتاحف والوثائق الفيلمية والوثائق الورقية والأشرطة التي حملها الشيوعيون إلى البنتاغون في أيام الإنتفاضة وأيام سقوط الدكتاتور يتسابقون في تقديم الهدايا الوثائقية ليحصلوا على مواقعهم ويؤسسوا مراكز الأبحاث والدراسات حتى يبقى العراقيون بدون ذاكرة!
لا يا سادتي الأفاضل، الوردة لا تليق بالدكتاتور، بدأتم تمنحونه القوة وتمنحونه الثقة بالنفس من خلال ما تمنحونه من أمل وما يمنحه هو من أمل لأتباعه حتى حدا الأمر بطارق عزيز أن يتدلل كثيرا ويمتنع عن الإدلاء بالشهادة ضد (رئيسه).. كان صدام حسين أكثر نباهة منكم فيوم أقام محاكمته الصورية في قاعة مسرح الخلد وبدأ يقوم بالإعدامات في داخل الصالة أعطى دورا لأحد زبانيته قائلا (إن المتآمرين سوف يبقون يتآمرون علينا طالما بقي عبد الخالق السامرائي في السجن) فناداه الدكتاتور من على منصة المسرح (أخذها من هلشارب) وتم إعدام عبد الخالق السامرائي وهو في السجن وهو بريء ولم يكن على علاقة بما كان يدور في عالم السياسة والجريمة. واليوم أنتم تتركون القتلة مع الورد دون أن تخافوا على ورد بلادكم، وعندما يستدعيه القاضي إلى التحقيق يسأله صدام هل ستحاكمني بالقانون الذي شرعه صدام حسين؟ نعم حاكموه بالقانون الذي شرعه صدام حسين الذي كان يقول (ما هو القانون؟ نحن نصدره ليلا ونحن نلغيه صباحا) أم نسيتم أيها العراقيون أم بقيتم بدون ذاكرة لأن الذاكرة قد نقلت إلى البنتاغون، حملها حملة الفكر اليساري التقدمي!
كان عليكم أيها العراقيون الشرفاء أن تحاكموا القتلة في ليل سقوطها الأسود، لكني أعرف أن المثل أعرج كما يقول الألمان، فشاوشيسكو أسقطه الشعب وصدام أسقطه حلفاؤه..
لا أدري، هل ستجري الإنتخابات في موعدها أم سيصار إلى تأجيلها والقرار بالتأكيد ليس عراقيا. لا أدري من ( سيفوز والله فوزا عظيما) وما هو شكل الحكومة القادمة ومن سيترأس الوزارة وما هي تشكيلة الوزارة القادمة، هل سيكونون هم بقايا النظام السابق أم أن الشعب سيفرز بضعة شرفاء نحن بحاجة إليهم.
همست في مقالتي السابقة بإذن رئيس الوزراء المؤقت وقلت له (إن العراق بحاجة إلى حكومة شريفة) وأتمنى أن يكون قد فهم همسي، والحكومة الشريفة لا تساوم على مصالح الشعب على حساب الذات الضيقة.
لو طالب الشعب بالمحكمة في ليلة السقوط وخرج إلى الشوارع ونام في الساحات لخرج القتلة من كل الفئات السياسية المريضة ولخرج اللصوص وسلموا أنفسهم للقضاء ولألقى المخدوعون بهوياتهم الحزبية الخضراء والحمراء في ساحة التحرير وساحات المدن العراقية وداسوها بأحذيتهم. ولكن بعض الناس هرعوا لسرقة تاريخ العراق ووثائق العراق وأحرقوا المكتبات والأرشيف ونهبوا الوثائق.. رجل واحد حاكم الطاغية الأرعن هو ( أبو تحسين) الذي مسك بصورة الطاغية وبقي يضرب فيها بالحذاء وهو يصرخ (هذا هو مجرمكم) والناس يركضون نحو الوزارات وكل يحمل ملفا أو تمثالا أو يحرق مكتبة بتوجيه من (...) ولم يكن في تلك الليلة سوى قاض واحد وشاهد واحد كان رمزا للعراقي الشريف.. (أبو تحسين) قاضي الشعب العراقي وقائده الشريف. شكرا لمن حمل الكاميرا وصور (أبو تحسين) في تلك اللحظة، وإلا كيف كان بإمكاني أنا المقيم بعيدا في بانكوك أن أعرف أن في وطني إنسان شريف واحد يرمز لأبناء شعبي الطيبين!

كاتب عراقي مقيم في بانكوك