ثانيا- تعدد الحركات الاسلامية
يعتبر تعدد الحركات الاسلامية مبررا آخر يسمح لنا بنقدها ومراجعتها، اضافة الى السبب الاول الذي تطرقت له الحلقة السابقة تحت عنوان: تاريخية الحركات الاسلامية، وما سيأتي من مبررات. فتعدد تلك الحركات يكشف عن وجود اختلاف في القراءة والتأويل والفهم، وليس عقوقا او خروجا عن الشرعية، كما تعبر عادة الحركات الام عن الافراد والفصائل المنشقة. وظاهرة التعدد تفتح افاقا واسعة لتقصي مديات العقل الحركي في قراءته للنصوص والاحداث، والوقوف على مساحات الاختلاف وزوايا النظر، وبالتالي يصبح فكر الحركة، منهجها، استراتيجيتها، قيمها، اسلوبها، اهدافها، عقلها، تصوراتها، متبنياتها، وسلوكها، موضوعا للمقارنة والدرس، لينكشف ما اخفته القراءات المتحيزة، سيما اذا اخذنا بنظر الاعتبار جدارة المنهج المقارن في قدرته على فضح التباينات، بعد احصاء نقاط الاتفاق والافتراق. فالاختلاف يصبح، وفقا لهذه الرؤية، موضوعا للنقد والقراءة والمراجعة لا موضوعا للعقاب وسببا للتنابذ والاحتراب. اذاً فهنا قراءتان مختلفتان للتعدد، القراءة الاولى (القراءة التنابذية) التي تتبناها عادة الحركات الاسلامية تجاه الفصائل المنشقة، والقراءة الثانية (القراءة الموضوعية) التي يتبناها البحث الموضوعي اللامتحيز. ولكي يتضح الفارق النوعي بين القراءتين نتوغل اكثر في مسار الحركة الاسلامية وهي تواجه الانقسام او الانفصال، لنتقصى ردود الافعال، ونبرهن في ضوء بعض العينات ما يؤكد مصداقية ذلك.
الانشطار والتوالد احد ابرز خصائص الحركات الاسلامية، فعن الاخوان المسلمين (الجانب السني) انشقت او تولـّدت حركات اسلامية متعددة، والامر ذاته بالنسبة لحزب الدعوة الاسلامية (الجانب الشيعي). فما من حركة الا وتجد جذورها في احدى هاتين الحركتين، او ولدت في اجوائهما وتأثرت بهما بشكل واخر. وللانشطار عدة اسباب، فتارة يكون بسبب اختلاف في الموقف تجاه قضية او اكثر، او بسبب تنافس محموم على المواقع الحزبية، او بسبب تأثيرات خارجية، او انكفاء وتراجع يتجلى عبر راديكالية مفرطة، او لحصول تطور فكري ترافقه مراجعة متفاوتة للنص والتراث والموقف، وفهم جديد للماضي والحاضر.
وتكاد الامثلة تستأثر بالحالات الاولى والثانية والثالثة، ففي كل مقطع زمني تحدث حالة انشطار داخل الحركات الاسلامية تتسبب عن اختلاف في المواقف، او بسبب التنافس المحموم على المواقع الحزبية، او استجابة لتأثيرات خاريجة، وهنا بالذات يتجلى التنابذ بكل صوره، لان الصراع يتحول الى معركة حول الشرعية، تنقلب فيه خطوط التماس الى مزيج من الشبه والاتهامات، اذ كل طرف يسعى لاكتساب ما يقوي شرعيته في نظر الآخر، وبالتالي الحصول على اكبر عدد من الانصار والمؤيدين، فيلجأ حينئذٍ، بدل الاعتراف بالاخر وحقه في تبني رؤى جديدة، الى اسلوب تبرئة الذات واتهام الآخر، تأكيد الذات ونفي الآخر، وينقلب رفيق الامس الى عدو لدود، تكال له الشتائم والتهم تحت مسمياة شتى، حتى يعجز من هو خارج التنظيم عن تفسير تلك الممارسات تفسيرا شرعيا مقبولا. وتأخذ القضية مدياتها القصوى عندما تتراكم الاسئلة وتشتد الاستفهامات من داخل التنظيم، فلا تجد قياداته سوى اسلوب التهكم والاتهام والتراشق بالالفاظ للرد على تلك الاسئلة والاستفهامات. والذي يساعد في نجاح المعركة بالنسبة لكلا الطرفين هو بلادة الوعي لدى افراد القاعدة، ففي حين يتصارع قادة التنظيم حول قضايا وتهم خطيرة، تصل احيانا درجة الخيانة او العمالة، تصدّق القاعدة بسهولة ما يسرّب لها من تهم شخصية وطعون اخلاقية، وتنتقل تلك التهم، عبر الوعي الرث الملبد، كالنار في الهشيم، لتترد اصداؤها في اروقة البسطاء والسذج من الناس. ولو تحلت القاعدة بشيء من الوعي لادركت حقائق الامور بسهولة، والا كيف يصبح فقيه حركة ما (مثلا) كان مقدسا بالامس، وقد توقفت عليه شرعيتها،يصبح رجلا أميا، خرافيا، مستبدا، جشعا، دكتاتورا، وفجأة تخرج للعلن قائمة ممتلكاته وارصدته وبارقام في غاية الوثاقة والاتقان؟ فهل حصل ذلك فجأة، ام تراكم خلال مسيرته داخل الحركة؟ وهل كان يجري بعلم قادة التنظيم وهم يتسترون عليه، ام كانوا يجهلون ذلك؟ وكيف يعمل رجل في أعلى الهرم الحزبي وهو بهذا المواصفات السلبية؟
فالفقيه تارة يكون اكثر تحايلا على الشريعة، وأشد الناس استغلالا للاسلام ومؤسساته الدينية، وليس ثمة من يعترض، بل هو يراهن دائما على عدم وجود المعارض، سيما مع قوم يرتفعون بالفقيه الى مستوى يكون معها مصدر الشرعية الدينية. فكان ينبغي للتنظيم ان يرتقي بوعي افراد الحركة ليكونوا بمستوى يؤهلهم ادراك حقائق الامور، كي لا ينطلي التظليل ويمرر التزوير بسهولة ويسر. لكن هل يكتب البقاء لحزب ايديولوجي مع تصاعد وعي افراد قاعدته؟ ابدا، فهناك دائما تضاد بين الايديولوجيا والوعي، ولا يكتب لحزب بقاء واستمرار الا بمخاطبة الشعور والاحاسيس، والتشبث بشعارات تستهوي قلوب البسطاء والطيبين، وتوجيه الوعي بشكل يخدم المصالح الحزبية والايديولوجية.
او عندما تنشطر حركة اسلامية استجابة لمؤثرات خارجية، طالما تكون اجهزة المخابرات (والامثلة كثيرة بحمد لله تعالى)، سيما اذا كانت الحركة تعيش حالة استثنائية خارج الوطن، فان الفصيل الجديد سيصبح عميلا بلا منازع، واداة طيعة بيد المخابرات الاجنبية، خائنا للوطن وللقضية، يتحاشى افراد الحركة الام مجالسة افراده او الاختلاط بهم خشية التلوث بالخيانة. لكن العلاقة بتلك الدولة او الجهة المخابراتية لا تؤثر في سمعة الحركة الام عندما تتعامل معها!. وهنا المفارقة، لماذا يتهم الآخر في علاقته مع دولة اخرى، بينما لا تتهم الذات بنفس التهمة، وكلاهما يتمتعان بعلاقة ودية مع هذه الجهة او تلك! او مع هذا الجهاز المخابراتي او ذاك! من اعطى لهذه الحركة مناعة ذاتية تحول دون تلوثها، بينما الحركة الاخرى وسطا جيدا للعمالة والخيانة. أليس بهذا الشكل يعي افراد الحركات الاسلامية علاقة الحركات بجهات سياسية لا دينية؟ انه الوعي الرث السقيم.
عندما تتلقى حركة ما اموالا من هذه الدولة او تلك فليس في ذلك ما يخدش وطنيتها واخلاصها، بينما تتحول الحركة الاخرى الى جهاز عميل للمخابرات الفلانية لانها تتقاضى اموالا كاختها!. ما هي الضابطة في حلية تلك الاموال بالنسبة الى هذه الحركة او تلك، سيما وبحمد الله ان اغلب الحركات إنْ لم تكن كلها تتقاضي تحت عناوين شتى اموالا من هذه الدولة او تلك؟. لماذا عندما تتحلى حركة اسلامية بالشجاعة وتعلن عن علاقتها بدولة ما تصبح فاسقة، فاجرة، عميلة، خائنة، بينما لا تنطبق هذه العناوين على حركة اخرى تقيم علاقات، ربما اكثر متانة، مع نفس الدولة لكن بشكل سري؟. فهل الخفية والعلن تحلل وتحرم الاموال، ام الصراحة والخداع؟. انها وضاعة الوعي تشرعن لعلاقة الحركات الاسلامية باجهزة المخابرات والدول. وهذا الكلام لا يعني عدم وجود حركات اسلامية ليس للمؤثرات الخارجية علاقة في تكوينها، او انها لم تقم بجهود واموال ذاتية، لكن عندما نتقصى مسار الحركة في جميع المقاطع الزمنية (حدوثا وبقاء او تأسيسا واستمرارا) يتضح جيدا ما ذكر انفا.
وثمة امثلة بارزة لعلاقة الحركات لاسلامية بالحكومات واجهزة المخابرات، وإنْ كانت علاقة متهمة في نظر بعض الاسلاميين وغيرهم، فمثلا اغلب الحركات الاسلامية الشيعية وكثير من الحركات الاسلامية السنية لها علاقات بمستويات مختلفة مع ايران، وبالذات مع جهاز المخابرات الايراني والحرس الثوري او غيرهما من المؤسسات المسؤولة عن علاقة ايران بتلك الحركات. لكن ما فتئت بعض الحركات تعيب على مماثلتها تلك العلاقة رغم علاقتها هي ايضا بايران. او مثال موقف الحركات الاسلامية من حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في سوريا والذي كان حاكما في العراق. اذ تجد الموقف يختلف من حركة الى اخرى، حتى لا يبقى لديك شك من خلال قراءة متأنية للعلاقة بان حزب البعث لم يكن اساس الموقف السلبي من الحكومتين السورية والعراقية سابقا (كما تؤكد الحركات الاسلامية ذلك)، وانما صراع على السلطة بين تلك الحركات وحكومات كلا البلدين، والا لو كان الموقف السلبي يعبر عن موقف مبدئي تجاه ايديولوجيا البعث فلماذا يلجأ الاخوان المسلمون الى حكومة البعث الحاكم في العراق بعد محاصرة حماة من قبل اجهزة سلطات حزب البعث الحاكم في سوريا؟.، وايضا كان للحركات الشيعية علاقات طيبة بحزب البعث الحاكم في سوريا بعد ملاحقتها من قبل حزب البعث الحاكم في العراق. وقد شاهد العالم على شاشة التلفاز عددا من الشخصيات الحركية تتسابق لالقاء نظرة اخيرة على جثمان الرئيس الراحل حافظ الاسد، كما بكى صدام وابنيه عدد آخر من الحركات الاسلامية وقادتها من اهل السنة، مما يعكس قوة العلاقة بين الطرفين. ولو كان موقف تلك الحركات سلبيا من الايديولجية البعثية حصرا كان ينبغي لكلا الحزبين عدم اللجوء الى كل من العراق وسوريا. فكيف نفسر العلاقة حينئذٍ؟ هل كان ثمة صراع على السلطة بين تلك الحركات والحكومات القائمة؟ اذا تأكد ذلك، فلماذا يا ترى تسخـّر الاسلام لاغراضها السياسية؟ وتعتبر ممارساتها ومواقفها احكاما شرعية؟ فتسببت من حيث تعي او لا تعي في وجود شبكة من الاسئلة والاستفهامات الحائرة. وهكذا الحال بالنسبة لعلاقة الحركات الاسلامية (سيما السنية) بدول الخليج، ليبيا، مصر. وغيرها من الدول التي قررت الدخول في لعبة الحركات الاسلامية. او علاقة الحركات الاسلامية الافغانية بالدول الاخرى بما فيها امريكا، التي تبنت تأسيس ودعم الطالبان والقاعدة. فلماذا كانت تلك العلاقة شرعية بينما تؤاخذ حركات اخرى لعلاقتها بامريكا؟. ألا ينبغي ان يكون موقف الحركات الاسلامية من هذه المفردات واحدا (اذا كان منطلقا دينا اسلاميا)؟. فلماذا هو جائز، ضروري، شرعي، لهذه الحركة دون غيرها؟ أليس موقف الاسلام من الكفر واحد؟ أليس موقفه من الشرك واحد؟ أليس موقفه دائما واحدا من المحرمات والواجبات المنصوصة؟ فكيف اختلف الموقف الاسلامي على يد الحركات الاسلامية؟ اسئلة تطلب قدرا من الوعي، لا يمكن للوعي المبتور ادراكها الا بعسر ومشقة.
وتارة يتجلى الانشطار عبر تراجع الوعي والانكفاء للماضي، ليتحول الى راديكالية وتطرف، كما حصل لبعض الحركات الاسلامية المنشقة عن الاخوان المسلمين، مثل التكفير والهجرة، والجهاد في مصر، او القاعدة مؤخرا وما تبعها، باعتبار ان مؤسسيها (ابن لادن، والظواهري، ذات خلفية اخوانية). فهذه الحركات التي مارست التطرف باقصى درجاته حتى مع الآخر المختلف مذهبيا، فضلا عن المختلف دينيا وعقيديا، واقترفت اعمالا يقشعر لها البدن الديني قبل الانساني، فكان القتل، والتفجير وحز الرؤوس، وتسليب المارة، والاعتداء على الاخرين، وتلغيم الشوارع والمنشآت، وتخريب دور العبادة. لكن رغم كل هذا ما زالت هذه الحركات تستقطب الشباب، الطامحين في حياة اخرى ليس لها وسيلة (حسب تصورهم) الا بممارسة هذه الاعمال!، لا بالعمل الصالح، ولا بـ (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)، ولا بـ (جادلهم بالتي هي احسن). لكن للاسف تجد كثيرا من الحركات الاسلامية تتواطئ معهم قلبا، وان خشية ذلك علنا، وتدعو لهم سرا، وان تجنبته جهرا، لا يصدر عنها استنكارا ولا ردعا، ولم تعمل على تحصين افرادها من آفة العنف والولوغ في دماء الابرياء باسم الاسلام والدين.
ومن الامثلة ايضا، الانشطار بسبب الصراع على المواقع الحزبية، او الاخفاق في انتخابات داخلية، او لسيطرة لوبيات ومحاور حركية، او لقرار يتخذه دكتاتور عتيد داخل الحركة، وليس لهذه النماذج حصرا، بل كل فرد حركي قادر على استدعاء نماذج عدة. وهي قضايا داخلية لا يسعنا التحدث عنها غير اننا ننظر لتداعياتها الخارجية، عندما يطفو الصراع على السطح، وتبدأ التجاذبات الحزبية والاتهامات، والتشبث بالنظرية الحزبية. وتبدأ مبررات الانشطار بالتهم والدعاوى العريضة، فالفصيل المنفصل لا يفتئ يردد اخطاء حركته الام، ويذكر مساوئ قادتها وكوادرها، ثم يرصد المسافات بين النظرية والتطبيق، ويتقصى المخالفات الشرعية والقانونية، واخيرا يطرح البديل الذي يستهوي بلا شك عددا لا بأس به من هواة التجديد الشكلي، وذوي الاتجاهات الثورية والتغييرية. واما نحن فنبقى ننتظر المعجزة على يد الفصيل الوليد، لكننا نصاب بخيبة امل عندما نقارن بين الدعاوى والانجازات، فدعوى الخيانة للوطن والقضية يقابلها ارتماء حقيقي في احضان المخابرات الاجنبية، وتهمة الاثراء سرعان ما تتحول رقما قويا ضد الفصيل المنشطر، واتهام الحركة الامة بالتفريط بدماء الشهداء تقابلها سجون ودماء كثيرة، والاستبداد المدعى يتحول الى دكتاتورية مقيتة. نعم يحصل تغيير حقيقي، وهو ان عددا من الكوادر المتقدمة ممن يأس من الحصول على مواقع متميزة في الحركة الام اصبح يشار له ببنان القيادة، ورجل المرحلة، وبذلك اشبع نهمه للمناصب وحب الظهور وإن تلبس بالتواضع ونعومة الكلام وتظاهرة بالزهد والتقوى والعفاف. لكن اللعبة تنطلي وتمضي الامور كما يشتهون، اما لوجود نفوس ضمآى، او لحصول سبب للارتزاق او لاخفاق الوعي.
وهناك انفصال عن الحركات الاسلامية سببه التطور الفكري والثقافي، وهو كثير على المستوى الشخصي. وظاهرة واسعة الانتشار، قد لا يخلو منها حزب او حركة اسلامية. ويبدأ المشهد باسئلة واشكالات تثار، لا تجد اجوبة مقنعة لكنها تتطور وتتفاقم بسرعة، وان لم تجد لها اصداء في نفوس الاخرين الا لمما، فيضطر صاحبها الى اعتزال العمل الحزبي. واحيانا يتحول هذا النمط من الاشخاص الى عبء على قادة الحركة، فيضيقوا به ذرعا، ويتعاملوا معه وفقا لاساليب تستهدف تحجيمه وعزله، حتى اذا حان موعد اقصائه انطلقت موجة الدعايات المغرضة لتلعب دورها في تهيئة المناخات الحزبية، فينقلب بقدرة قادر الى رجل مشاغب، مصلحي، لا يؤمن بالحزب، يخالف الاوامر، و... لكن الحقيقة انه صار يتحدى بكفاءته قادة التنظيم، وصار وجوده يفضح ضحالة الكوادر المتقدمة وينسف مكانتهم المصطنع لذا تبقى سهام النقد والتهمة تلاحقه حتى بعد اعتزاله العمل السياسي. وهؤلاء كثيرون تجدهم يحدثوك صراحة عن تجربتهم ومعاناتهم داخل الحركات الاسلامية، ولا يخشون المكاشفة، لكن تجد عند بعضهم قدرا كبيرا من الوفاء والحرص على الحزب رغم كل ما عانى منه، فيرفض التأشير على نقاط الضعف الغائرة والمستورة، ليبقي الحديث معك في قضايا اشبه بالبديهيات بالنسبة لكل المعنين بالعمل الحركي. غير ان المائز الحقيقي لجميع هؤلاء هو الفارق النوعي بينهم وبين الكادر الحزبي ثقافة وفكرا ووعيا. وكان في وجود هؤلاء خارج التنظيم ادانة لمستوى الاحزاب والحركات فكريا وثقافيا، لان الحركة التي تقصي هذا النمط من لاشخاص سوف لا تحتفظ الا بمستويات متدينة. فلا غرابة حينئذٍ ان لا يصدر عن الحركات الاسلامية الا اعمالا ثقافية وفكرية مكرورة ومستنسخه، تنفع في احسن الاحوال للاستهلاك وتربية جيل متدن في وعي وثقافته وفكره. قد يعترض احدهم بوجود كفاءات داخل التنظيمات الحركية، ونحن ايضا لا ننكر ذلك، لكن نناقش في نوعية الكفاءات الفكرية، من خلال نتاجاتهم المطروحة، كما لدينا ما يبرر تصوراتنا بان الحركة انعكاس لقيمة افرادها، والحركات الاسلامية ما زالت تراوح مكانها او تنكفأ الى الخلف، وليس ذلك الا بسبب المستوى الفكري والثقافي لافرادها وانقطاع التجديد. ولو فرضنا جدلا ان ثمة حزبا او حركة يتمتع بعدد كبير من المثقفين النوعيين ممن يتميزون بوعيهم وفهمهم للقضايا المطروحة، فلابد ان ينعكس ذلك على الحركة ومسارها، وبالتالي لابد من حصول تحول جذري وفقا لمستوى الافراد، والا فليس من المعقول ان بتحرك حزب في مسار هو عكس مسار افراده.
لم نقصد من وراء سياق النماذج المتقدمة كتابة تاريخ الحركات الاسلامية، وانما اردنا فقط استدعاء نماذج لتأكيد الفارق النوعي بين القراءتين، وقد اتضح من خلال الحديث ان القراءة التنابذية تلجأ دائما الى اسلوب التهمة والخيانة والتشكيك بالنوايا، ورمي الطرف الآخر بالعصيان والمروق والانحراف والتواطئ. او تتشبث بتبرئة الذات واتهام الآخر، والسبب في ذلك هو التشكـّل الايديولوجي لوعي الحركات الاسلامية، فهي لا ترى في المنافس والند الا العدو والخائن والمنحرف والمتواطئ، بينما تضفي على نفسها جميع الصفات الملائكية حتى تصل درجة العصمة الذاتية. فالحق والشرعية والانجازات والعبقرية السياسية والتقوى والاخلاص والقرب من الله تعالى والبراءة والصدق والمستوى الاخلاقي والتعاطف الجماهيري والرصيد الاجتماعي، كله محصورا بها، وليس للاخر الا الاضداد والنقائض.
بينما القراءة الموضوعية تفسر القضايا والمواقف والاحداث وفقا لمنطق الانسان، فترى في الاختلاف والتعدد ظاهرة طبيعية تعكس التباين في وجهات النظر القائمة على تعدد الفهم للاحداث والقضايا، فتختلف التفسيرات والمواقف تبعا لخلفياتها الثقافية والفكرية والتاريخية والعقييدة والنفسية والمصلحية. كما انها تنظر للانسان في نوازعه البشرية، وليس ثمة معصوم كي نستثني قادة الحركات الاسلامية، والانسان بطبيعته ميال لحب الذات والظهور، ويقاتل من اجل تحقيق اكبر قدر من المكاسب والمنجزات، مالم يكن الدين فاعلا في حياته، فتصدر عنه حينئذٍ مواقف تكشف عن مستوى دينه وتدينه. لذا فالموقف مقياس لفاعلية الدين، لان الاخير ادعاء لا تثبت صدقيته الا من خلال سلوك الانسان ومواقفه، ولما كان الدين بيـّنا واضحا لذا لا يستطيع احد اقناعنا بان هذا الموقف او ذاك موقف ديني، وانما نحن الذين نحكم على دينية الاشياء من خلال فهمنا للدين الواضح في صدقية اخلاقه الانسانية. بينما كون الانسان متدينا لا يعني بالضرورة صحة وصدقية جميع اعماله وتصرفاته، أي ان تدينه لا يبرر ممارساته مالم تكن متفقة مع الدين. غير ان الوعي الايديولوجي يتخذ من تدين الانسان قاعدة لتصحيح جميع افعاله ومواقفه بل وتحليلاته السياسة وارائه الفكرية وعلاقاته ومؤامراته، وكل شيء يغدو صحيحا شرعيا وفقا لضوابطه التبسيطية. وهنا بالذات تكمن حذاقة كوادر التنظيمات بالتأكيد على الممارسات الطقوسية من اجل تمرير صفقات سياسية واخرى تجارية، من خلال تأسيس وعي ديني طقوسي يتعامل مع كثير من المخالفات الشرعية والمواقف السياسية بحسن نية وسذاجة مفرطة.
اذا فالقراءة الموضوعية لا ترتقى بالحركات الاسلامية الى المستوى الذي تنظر به الى نفسها. وانما هي حركات سياسية تتعامل وفقا للمنطق السياسي والبراغماتي، ومبدأ الربح والخسارة، تجري تحالفاتها واتفاقياتها على نفس المبادئ والنظريات. فالانشقاق وفقا لهذه النظرة امر طبيعي، يحصل داخل الحركات والاحزاب وليس بالضرورة ان يكون سببه الخيانة والتواطئ، وايضا فان علاقة الحركات بالحكومات واجهزة المخابرات، تقوم به أغلب الاحزاب الدينية والعلمانية وفقا لمصاحلحها ومقتضياتها. وليس هنا ميزة لاحد، فاذا كان في تلك العلاقة خيانة للوطن والقضية فالجميع متساوون فيها، وان كانت ضرورات تقتضيها الاستراتيجية الحزبية فايضا للجميع ضروراتهم وحساباتهم. وبالتالي فما يصدر عن الحركات الاسلامية فباعتبارهم بشرا وحركات سياسية، لها مصالحها واهدافها السياسية المجردة عن الدين. وبهذا نستطيع ان نجعل من الاختلاف والتعدد مبررا لنقد الحركات لاسلامية ومراجعتها لاكتشاف نقاط قوتها وضعفها بغية تقويمها وانتشالها من حالات التردي التي تمر بها، كي تتأهل ثانية وتعود للمجتمع برؤى وافكار ومناهج جديدة تسمح لها بموصلة الحياة واداء دورها التاريخي، بعد ان تحرر الدين من قيودها الايديولوجية المدمرة.
[email protected]