ممتهنو السياسة من الطبقة الوسطى أو البورجوازية الوضيعة(la petite bourgeoisie) لا يلوثون السياسة فقط بل قد يصل بهم الأمر إلى حد تدمير المجتمع بأكمله كما حدث في العراق وفي بلدان أخرى كثيرة غيره. فليس للبورجوازية الوضيعة أية مصالح حقيقية في المجتمع لذلك تجدها على استعداد لأن تطوح بكل الطبقات الإجتماعية لتقعد على كرسي السلطة التي تضفي عليها أهمية ليست لها ولا تستحقها لأي سبب من الأسباب. ورثت البورجوازية الوضيعة خطاباً ليس لها في الأصل هو خطاب التحرر والإستقلال، ورثته عن الطبقات الأخرى التي امتلكت خلال القرن المنصرم مشروعاً حيوياً لم تستطع تحقيقه نتيجة للمتغيرات في موازين القوى الدولية. عبر التحرر والإستقلال مسرح التاريخ وانقضى دورهما إلاّ أن البورجوازية الوضيعة تسللت من خلف الكواليس لتظهر فجأة بتطفل على خشبة المسرح لتؤدي دوراً بائساً ومقيتاً لا يتوقعه ولا يفهمه النظارة وليس له أي معنى في المسرحية. لقد بلغت الوضاعة في البورجوازية الوضيعة أن تسرق راية التحرر والإستقلال الفخيمة التليدة لتجعل منها راية وضيعة لا تثير في النفس ما كانت تثير من حماس وعزة وطنية في أواسط القرن المنصرم.
في مثل هذا الدور ترتفع عقيرة المنددين بالإمبريالية تغزو العراق لتسيطر على نفطه وتنهب ثرواته. لأن خطابهم مسروق، ولا يخصهم أصلاً، فإن هؤلاء المنددين اللصوص لا يفقهون معنى الخطاب ولا يشعرون أبداً بأية مسئولية تحفزهم للبحث في معناه. المشروع الأميركي في إحتلال العراق سيكلف الولايات المتحدة ما يزيد على ثلاثمائة ملياراً من الدولارات. وبافتراض أن الولايات المتحدة ستنهب من العراق ستة مليارات سنوياً ـ وهو مبلغ يتجاوز كل الحسابات ـ إذا ما سلمنا بأن الشعب العراقي سوف يقبل ذلك راضياً، فلن تسترد الولايات المتحدة خسائرها قبل خمسين عاماً. فمن هو ذلك الأبله الغبي الذي يقبل توظيف كل هذه الأموال الضخمة كي يربح أول دولار بعد خمسين عاماً؟! بل إن الستة مليارات المنهوبة سنوياً لا تساوي ثلث الفائدة المصرفية للمبلغ الموظف. البعض من طليعي البورجوازية الوضيعة يدّعي بأن هدف الولايات المتحدة من إحتلال العراق هو السيطرة على منابع النفط أكثر مما هو الإستيلاء على نفط العراق. يتناسى هؤلاء " الطليعيون " أمرين أولهما هو أن الولايات المتحدة امتلكت السيطرة على منابع النفط قبل احتلالها العراق حيث منابع الجزيرة العربية كلها التي تشكل حوالي ثلث احتياطي العالم تقع ضمن دائرة النفوذ الأميركية، وثانيهما وهو العروض السخية التي قدمها صدام حسين لجورج بوش الأب عام 1990 ومنها إدخال النفط العراقي بالإضافة إلى نفط الجزيرة، والكويت منها، إلى دائرة النفوذ الأميركية. ليس هناك واحد من مفكري البورجوازية الوضيعة ومن محلليها السياسيين والاستراتيجيين، وما أكثرهم، دلّنا على سبب حقيقي واحد للحرب الأميركية على عراق صدام حسين.
ليس ثمة شك في أن هؤلاء المنددين بالإمبريالية من إسلامويين وقومجيين ومنهم بعض الماركسويين للأسف يشعرون بتهافت خطاباتهم فيهربون إلى الأمام ليطالبوا بالحرية والإستقلال للعراق وبرحيل قوات الإحتلال الأميركية؛ وهم بهذا يهربون من الخطأ ليقعوا في الخطيئة. فلئن كان هدفهم حرية الشعب العراقي وأمنه واستقراره فعليهم والحالة هذه أن يدلونا عن الجهة التي سيتم الإنسحاب لحسابها، وحذار أن يقولوا لحساب الحكومة الحالية التي تعلن حاجتها للقوات الأميركية لمساعدتها في القضاء على القوى المعادية. هل تنسحب لحساب فدائيي صدام أم لحساب خلايا قاعدة بن لادن والزرقاوي أم لحساب مجلس علماء مسلمي السنة أم لحساب مرجعيات الشيعة وفقهاء إيران أم لحساب الأكراد؟ ليقولوا لنا فلعلنا ننضم إليهم!
بليت راية التحرر والإستقلال قبل عشرات السنين لكن ممتهني السياسة كما "المحللين" السياسيين والاستراتيجيين العرب ما زالوا يستظلون بها ولم يحسّوا بعد بأشعة الشمس المحرقة تلسع جلودهم الغليظة. يتشدقون بالتحرر والاستقلال بغير إدراك لمعناهما وجوهرهما. في العهود الإستعمارية السابقة لعام 1972، وفيه أصدرت الأمم المتحدة بيانها الشهير يؤرخ لنهاية الإستعمار، كانت شعوب البلدان المستعمرة والتابعة تخوض نضالاً عسيراً من أجل التحرر والإستقلال، أي فك إرتباط المحيط بالمركز الرأسمالي الإمبريالي وهو ما يمكنها من بناء إقتصادها المستقل المرتكز على الذات والمعني قبل كل شيء بتطوير وتحسين حياة الشعب. أما عالم اليوم فهو على العكس تماماً عما كان بالأمس. فالإقتصاد المرتكز على الذات غدا تدميراً للذات ناهيك عن أن جميع سبل بنائه وتطويره مسدودة تماماً. ولنا مثال على هذا الصين التي تمتلك أضخم طاقة إستهلاكية في العالم بالإضافة إلى مساحة قاريّة. إقتصاد الصين " الشيوعي " مرتبط أوثق الإرتباط باقتصاد الولايات المتحدة " الرأسمالي " وأي إنفكاك لهذا الإرتباط من شأنه أن يأتي بنتائج مدمرة لاقتصاد البلدين. ومثال آخر هو الحصار الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق والذي أدى إلى تدمير الإقتصاد العراقي وتعميم الفقر والجوع فيه، والحصار في المحصلة الأخيرة لا يعني أكثر من فك الروابط بين الإقتصاد العراقي من جهة والاقتصادات الدولية من جهة أخرى.
الإمبريالية، وهي المرحلة الأعلى من مراحل تطور نظام الإنتاج الرأسمالي، كانت بدأت على شكل تصدير فائض الإنتاج في المركز الرأسمالي إلى الأطراف التابعة للمركز. ثم تطور هذا الشكل ليأخذ شكل تصير رؤوس الأموال نفسها لتوظيفها في الأطراف وهو الشكل الذي رأى فيه لينين في كتابه " الإستعمار أعلى مراحل الرأسمالية " النهاية الحتمية للنظام الرأسمالي. الدورة الحيوية للإنتاج الجارية اليوم تسير باتجاه معاكس لدورة الإنتاج الرأسمالي. فالمراكز الرأسمالية الكلاسيكية تعاني أسواقها الداخلية باستمرار من نقص متزايد في السلع الإستهلاكية وأخذت تستورد مختلف السلع المصنعة بالكامل من الخارج حتى باتت موازينها التجارية تعاني من عجوزات هائلة تهدد إقتصاداتها بالإنهيار التام وتقوم الولايات المتحدة الأميركية، وهي المركز الإمبريالي الأقوى، مثالاً على هذا حيث يعجز ميزانها التجاري بمعدل ملياري دولار يومياً. ومن جهة أخرى، تتنافس اليوم جميع دول العالم على تباين بناها الإقتصادية، بما فيها دول المراكز الرأسمالية الكلاسيكية، في إجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار فيها دون أن تحقق نجاحات كبيرة قبالة تعفف أصحاب رؤوس الأموال في قبول الدعوة. وهكذا فإن الشكلين اللذين تتحقق الإمبريالية من خلالهما، تصدير البضائع وتصدير رؤوس الأموال، لم يعودا موجودين ومع ذلك ما زال ممتهنو السياسة من طلائعي البورجوازية الوضيعة يخيفون شعوبهم ببعبع الإمبريالية تماماً كما كانت جداتنا يخفن أطفالهن بالجنيّات. ولعل مثل هذا القول يصيبهم بالدهشة وذلك لفقرهم الشديد لأدوات البحث والتحليل أولاً ولأن غياب الإمبريالية الحقيقي وتلاشيها عن مسرح الأحداث من شأنه أن يحرم كل دعاويهم حول التحرر والإستقلال من أي أساس تستند إليه ثانياً.
الدول الرأسمالية الكلاسيكية التي عرفناها في منتصف القرن الماضي وما قبله لم تعد أبداً رأسمالية ولم تعد إمبريالية تبعاً لذلك. لقد تحول الجسم العام للإنتاج فيها إلى إنتاج بورجوازي فردي (Individual Production) بالشكل الذي يتم فيه إنتاج الخدمات الذي لا يحتفظ حتى بخاصية واحدة من خصائص الإنتاج الرأسمالي الكثيرة. ففي الولايات المتحدة الأميركية يشكل إنتاج الخدمات 80% من مجمل الإنتاج القومي ويصل إلى 70 – 75% في بريطانيا وفرنسا وألمانيا. فكيف يمكن الحديث عن أية إمبريالية والإنتاج الصناعي الرأسمالي لا يتجاوز 17.5% من مجمل الإنتاج القومي في الولايات المتحدة ومثله أو أكثر بقليل في بريطانيا وفرنسا وألمانيا؟ ولماذا لا يجري الحديث عن إمبريالية يابانية ونسبة الإنتاج الرأسمالي في اليابان إلى مجمل الإنتاج القومي تساوي ضعف ما هي عليه في الولايات المتحدة أي 35%؟ أما عن الأموال المتوفرة للإستثمار في هذه الدول الغنية فلا يتوجه منها إلى الإستثمار في الإنتاج إلاّ النزر اليسير جداً لا تتعدى نسبته 2.5%. أمام هذه الصورة الواضحة بكل تفاصيلها يتوجب على ممتهني السياسة و " المحللين " السياسيين والإستراتيجين العرب يشكل خاص أن يقلعوا نهائياً عن تعليل كل علّة يعجزون عن تعليلها بالإمبريالية التي إندثرت منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً. المعادلة الصعبة في هذا السياق هي أن الوعي والثقافة من شأنهما بالطبيعة الإنسانية أن ينمّيا الضمير فلماذا لا يفعلان ذلك في ضمائر مثقفينا كيما يكفّوا عن تخريب وتدمير الوعي لدى شعوبنا العربية.
الإدعاء الشائع بين المثقفين العرب باختلاف أطيافهم هو أن الإمبريالية هي التي أعاقت المجتمعات العربية على طريق التقدم والتنمية. لئن كان هذا صحيحاً فهو صحيح فقط بمقدار ما كان للإمبريالية قوى معاكسة للتقدم، وأن يتواجد دائماً وأبداً قوى معاكسة للتقدم هو أمر طبيعي إذ يستحيل أن يكون هناك تقدم ما لم تعاكسه قوى موازية. لكن السؤال الكبير الذي يتحاشاه المثقفون العرب هو.. لماذا كان الإنتصار دائما للقوى المعاكسة؟ وأين هي قوى التقدم وما طبيعتها؟ وهل هي قوى تقدم أم قوى تأخر؟ المثقفون العرب مثل أهل الميت الذين يلعنون المرض الذي فتك بابنهم دون أن يلوموا أنفسهم لأنهم لم ينقلوه إلى الطبيب قبل أن يموت. ما على هؤلاء المثقفين أن يخجلوا منه هو أن الدول العربية التي تنطحت لمقاومة الإمبريالية إنتهت إلى الإنهيار والتفكك كالعراق وسوريا والجزائر واليمن الجنوبي والسودان على خلاف الدول التي هادنت الإمبريالية وظلت تتقدم باطراد ولم ترفع الشعارات الكبيرة من وحدة وحرية واشتراكية. لماذا لا يعتبر المثقفون العرب من مثل هذه النتيجة المخزية فيدركوا أن الشعارات الكبيرة تحتاج إلى قيادات كبيرة وليس كتلك التي قادتهم فيما بعد عبد الناصر؟
قامت الثورة العربية الكبرى في المشرق العربي عام 1916 بقيادة البورجوازية الشامية، وهي أقدم بورجوازية في التاريخ، وكانت لها مصالح حقيقية في السوق العربية المشرقية تمثلت في الإنفكاك من التبعية العثمانية دون الإرتباط بمراكز الرأسمالية الإمبريالية متمثلة بإنجلترا وفرنسا من أجل بناء إقتصاد وطني بالأسلوب الرأسمالي. فشلت الثورة بسبب ضعف البورجوازية الشامية الموروث من الكولونيالية الريعية العثمانية طيلة أربعة قرون مظلمة في مواجهة العنفوان الإمبريالي وقد وصل قمته عام 1914. بعد أن دخلت قطاعات هامة من البورجوازية الشامية في تصالحات مع الإمبريالية برز في مقدمة صفوف الثورة البورجوازية الوضيعة التي لا تمتلك أي مشروع تنموي حقيقي وألبست إفلاسها هذا لبوس القومية والعدالة الإجتماعية ولم يدرك مجندوها والذين إصطفوا خلفها حقيقة أن لا قومية ولا عدالة إجتماعية بدون مشروع تنموي حقيقي. وأبرز قادة عساكر جبهة البورجوازية الوضيعة هم حزب البعث وحزب القوميين العرب والحزب القومي السوري الإجتماعي.
لم يجرؤ جنرالات البعث على الإنقلاب على الديموقراطية التي بنتها البورجوازية الشامية في دمشق فاستداروا وراء عبد الناصر رافعين شعار الوحدة بكل ثمن عام 1958. وقبل أن ترسخ الوحدة ركناً من أركانها إنقلبوا على الوحدة وعلى عبد الناصر عام 1961 ثم إنقلبوا على الإنقلابيين عام 1963 ثم إنقلبوا على أنفسهم عام 1966 وإنقلبوا على أنفسهم مرة أخرى عام 1970. الحقيقة الوحيدة التي يمكن إستخلاصها من كل هذه الإنقلابات المتوالية هي أن جنرالات البعث لا يملكون ولم يملكوا أي مشروع تنموي حقيقي وليس لديهم إلاّ مؤخرات تحكهم ولا تبردها سوى كراسي الحكم. المؤخرات الحامية هي تحديداً ما جلب للعراق كل هذا الخراب والدمار وهذه المذابح التي يساق إليها الشعب العراقي مثل قطعان الأغنام. العراق الأغنى بين كل البلدان العربية يتسول شعبه اليوم طلباً للطعام يسد جوعه وتتذلل حكومته لإعفائها من عبئ الديون التي إرتهنت مستقبل الشعب العراقي وأجياله القادمة. أبتلي الشعب العراقي بعساكر الطبقة الوسطى الذين يبيعون العراق وشعب العراق وكبرياء العراق بكرسي سلطانية باردة؛ يتآمرون ويخونون ويبيعون أنفسهم كعملاء من أجل هذه الكرسي الباردة القميئة. هل يستحق الشعب العراقي الخيّر الأبي كل هذه الكوارث المأساوية التي حلّت به ليس لذنب سوى أن عساكر بورجوازيته الوضيعة تزاحموا على كراسي السلطة من أجل تبريد مؤخراتهم؟!!
خاتمة القول هي مطالبة مفكرينا ومثقفينا ومحللينا السياسيين والإستراتيجيين أن يدركوا تماماً أن الإنحطاط الرهيب الذي غشي أمة العرب إنما غشيها بعد أن رحلت الإمبريالية من الدنيا أي بعد عام 1972 وأن الأسباب الحقيقية للإنحطاط إنما هي أسباب ذاتية تتركز كلها بالسماح لطلائعي البورجوازية الوضيعة المفلسة التي لا تمتلك أي مشروع حقيقي للتنمية باحتلال كراسي الحكم والاستبداد بالسلطة فليسوا من هؤلاء قادة التقدم. إن الذين يمتلكون مشروعاً حقيقياً للتنمية والتقدم هم أصحاب المصالح الحقيقية في المجتمع؛ إنهم الرأسماليون والعمال والفلاحون.

عـمان 11/1/2005 فـؤاد النمـري