أظهرت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الضفة الغربية وقطاع غزة وشرقي مدينة القدس وجود معارضة متنوعة للسلطة الفلسطينية وخطها السياسي وللسيد محمود عباس (أبو مازن) رغم الفوز الذي حظي به والذي كان متوقعاً ،وكان متوقعاً أن لا يحظى السيد عباس بنفس النسبة التي حصل عليها الرئيس الراحل ياسر عرفات أو نسبة قريبة منها.

لون المعارضة الذي ظهر يمثله د.مصطفى البرغوثي الذي حصل على ما يقارب الـ20% من أصوات الناخبين ليشق طريقاً جديداً للمعارضة أصبح يعرف بالمعارضة الديمقراطية وهو مستقل عن المعارضة الإسلامية (حماس والجهاد الإسلامي وبعض الإسلاميين المستقلين)والمعارضة اليسارية (حزب الشعب والجبهة الديمقراطية) واستطاع د.البرغوثي جذب جناح هام من المعارضة اليسارية متمثلا بالجبهة الشعبية ، كما أن عدداً من المحسوبين على حركة حماس لم يلتزموا بقرار الحركة بمقاطعة التصويت في الانتخابات وأعطوا أصواتهم للبرغوثي لا سيما طبقة المتعلمين والطلبة فيما منح البعض (خاصة من غير الجامعيين المحسوبين على حماس )أصواتهم للمرشح عبد الحليم الأشقر القابع تحت الإقامة الجبرية في الولايات المتحدة.

هذه المعارضة المتنوعة (الديمقراطية والإسلامية واليسارية ) وان اختلفت في الأساليب والسياسات والمنطلقات الأيدولوجية إلا أن الخلاف مع الرئيس الجديد ومع نهج السلطة يجمعها ، هذا مع الأخذ بعين الاعتبار التراشق الكلامي بين حزب الشعب وبين الدكتور البرغوثي إبان الحملة الانتخابية.

مما لاشك فيه أن البرغوثي استطاع أن يفتح ملفات ساخنة ويصدرها إلى وسائل الإعلام أثناء حملته الانتخابية، خاصة طريقة توزيع المساعدات التي حصلت عليها السلطة خلال العشر سنوات الماضية والتي تقدر بنحو 6 مليار دولار وطرح موضوع الشعور بالظلم الاجتماعي الواقع على طبقة العمال والطلبة وصغار الموظفين وغير ذلك من الملفات التي تشغل الشارع الفلسطيني ولا تجد طريقها إلى وسائل الإعلام إلا بقدر ضئيل لا يتناسب مع حجم اهتمام الناس بها وتأثرهم بحيثياتها.

نهج المعارضة وسياستها

كون عباس حصل على أغلبية معقولة لا يمكنه من تجاهل المعارضة ومطالبها، فالمعارضة الديموقراطية التي يمثلها د.مصطفى البرغوثي والتي تشكل رافداً (ولو بشكل غير مباشر ) للمعارضة الإسلامية التي تمثلها حركتا حماس والجهاد الإسلامي ستستمر في فتح الملفات الساخنة والمطالبة بالإصلاح والشفافية ومحاسبة الفاسدين ، ولن تقف عند إقرار السلطة بوجود الفساد والخلل دون اتخاذ اجراءات عملية حياله.

أما المعارضة الإسلامية فهي لن تتخلى عن سياستها وطرحها لشعاراتها المقاومة والسير في الطريق الذي سلكته غير آبهة بنتائج الانتخابات ولن تعتبر (كما يروج البعض) أن فوز عباس يعني رمي السلاح ووقف "عسكرة الانتفاضة" ولكن يجب التنويه أن النشاط المسلح للمعارضة الإسلامية ضد إسرائيل يتناسب طردياً مع تصرفات الجيش الإسرائيلي ، حين يقوم الإسرائيليون بقتل أطفال أو نساء أو هدم بيوت أو تنفيذ اغتيالات سيخرج الآلاف إلى الشوارع مطالبين بالثأر والانتقام وهي إشارة ستلتقطها الفصائل الفلسطينية لشن هجمات ضد الأهداف الإسرائيلية لا سيما المستوطنات والمواقع العسكرية ومن المتوقع بل من المؤكد أن يزداد التنسيق بين أجنحة فتح العسكرية ونظيراتها في حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية.

التحديات الصعبة

كثير من الناس غير المسيسين في الشارع الفلسطيني يعولون كثيراً على السيد محمود عباس بما يمتلكه من علاقات وبما حظي به من ترحيب عربي ودولي من أجل تخفيف الضغط الاقتصادي وتسهيل أمورهم الحياتية ورغم أن عباس صرّح أنه لا يملك عصاً سحرية ،إلا أن الآمال كبيرة ؛ يأمل الناس أن يتم إطلاق سراح الأسرى دون تمييز فصائلي ويأملون بتوقف سياسة الاغتيالات والاجتياحات وهدم المنازل ، وعلى الصعيد الداخلي يأملون من السيد عباس وضع حد لحالة الفوضى الأمنية التي تشارك فيها بعض الأجهزة الأمنية وأن تتوقف الاعتداءات التي يقوم بها بعض المارقين واللصوص على الأرواح والممتلكات وان تزول حالة الغموض التي تكتنف من الجرائم والاعتداءات مثل قتل الصحفي خليل الزبن وإطلاق النار على عضو المجلس التشريعي نبيل عمرو واغتيال أحد المحاضرين في جامعة الأزهر بغزة ،ناهيك عن أعمال قتل بشعة تعيشها مختلف المناطق كان آخرها في جنين مطلع هذا الشهر حين قتل بعض اللصوص تاجر دواجن مسن في بيته!ويأملون أن يأخذ القضاء استقلالية تامة وأن يقدم المتورطون في الفساد للمحاكمة وأن يتم إجراء تغييرات واسعة وجذرية في مؤسسات السلطة....إلى آخر القائمة التي يأمل بها الفلسطينيون ويرجون أن لا تكون أضغاث أحلام !

تل أبيب...واشنطن

ولكن ماذا بوسع (أبو مازن) تحقيقه فعلاً ؟ لا نستطيع هنا إصدار الأحكام جزافاً ولكن يمكننا قراءة الواقع بشكل إجمالي...

شارون يتعرض لضغوط من اليمين الذي يتزعمه بسبب خطة "فك الارتباط" عن غزة وهو يصر على رفع شعار "وقف الإرهاب قبل التفاوض" الذي دأب على رفعه وهو الأمر الذي أدى (إضافة لعوامل أخرى)لسقوط حكومة عباس سابقاً ، هذا الشعار الذي تجسده مطالب بتفكيك المنظمات والفصائل الفلسطينية سيجعل مهمة عباس صعبة ،فعباس غير مستعد للصدام مع أي جهة فلسطينية في الظرف الراهن وهو يريد من إسرائيل السير بخطوات تكسبه وشعبه بعض الأمل ؛ لن يرضى الفلسطينيون أن تفرج إسرائيل عن بضع عشرات من السجناء الذين شارفت محكومياتهم على النفاذ بحيث لا يكون أي منهم عضواً في حماس أو الجهاد الإسلامي أو الجبهة الشعبية!

ولن يقبل الفلسطينيون أن يتحولوا إلى حراس لأمن المستوطنات والجنود الذين يمعنون في إلحاق الأذى بالإنسان الفلسطيني وأرضه.

أما الولايات المتحدة التي سارع رئيسها لدعوة عباس إلى البيت الأبيض فهي مشدودة إلى حد كبير لرؤى وأفكار ما يعرف بالمحافظين الجدد، وهؤلاء يسيرون بالتوازي مع شارون والليكود في المطالبة "بمحاربة الإرهاب " ولا يتوقع أن تمارس واشنطن ضغطاً كافياً على شارون الذي يحظى بأغلبية برلمانية ضئيلة، ونحن لم ننسى أن عرفات كان ضيفاً دائماً على البيت الأبيض في فترة حكم الرئيس بيل كلينتون لينتهي به المطاف إلى ما رأينا، العبرة ليست بعبارات الترحيب والتقاط الصور أمام الكاميرات والمصافحات، بل العبرة بما يمكن أن يعطى لعباس وحكومته.

حركة فتح وأجنحتها

لقد تجاوزت حركة فتح امتحاناً صعباً واستطاعت التخندق خلف عباس، وشكل انسحاب مروان البرغوثي من سباق الرئاسة عاملا مهما في وحدة الحركة، لكن هذا لا يعني أن حركة فتح باتت على قلب رجل واحد هو محمود عباس فالجميع يعرف أن حركة فتح لها أجنحة متشعبة ورؤى مختلفة إلى حد التناقض، وكان الرئيس الراحل عرفات هو الجامع لكل الأجنحة والتيارات الفتحاوية بما امتلكه من كاريزما وخبرة وإمساكا بخيوط اللعبة، ليس سراً أن عباس يختلف عن عرفات في تركيبته الشخصية وفي مدى تأثيره على حركة فتح، لكل طرف داخل فتح مصالح ورؤى وأفكار ومطالب بطبيعة الحال، وسيكون من الصعب على عباس التوفيق بين جميع الأطراف داخل حركة فتح، فمثلاً هناك من يؤيد عباس بضرورة وقف العمل المسلح ودمج كتائب الأقصى في الأجهزة الأمنية ولكن هناك من يريد التفاوض بالتوازي مع العمل المسلح ولعل هذه هي أهم العقبات في طريق عباس، قد ينجح عباس في توحيد الأجهزة الأمنية لتصبح ثلاثة أجهزة فقط ولكن هذا النجاح مرتبط بمدى قوة وشخص وزير الداخلية الذي سيختاره عباس ليكون مشرفا على هذه الأجهزة ،وان أقنع عباس مختلف أطراف البيت الفتحاوي بشخص معين لهذا المنصب فستكون لهم مطالب وشروط،يمكننا القول أن حركة فتح التي وحدت نفسها خلف محمود عباس لن تلتزم حرفيا بكل ما يريده أو يراه مناسبا.

في المجمل أمام السيد محمود عباس مهمة صعبة ومعقدة ويطالبه عامة الشعب بطالب كبيرة وهناك معارضة تتميز بالتنوع في الأساليب والأداء والأفكار مصرة على ما يبدو على الوصول ولو لجزء من الأهداف ،ولكن نجاح عباس في أي من مهامه يعتمد إلى حد كبير على ما ستقدمه إسرائيل من استحقاقات ،فإن بقيت إسرائيل على حالها وظلت متمسكة بمواقفها ومتخندقة وراء لاءاتها ففرص النجاح ضئيلة جدا،أما ان قدمت إسرائيل شيئا خاصة فيما يخص موضوع الأسرى فيمكن أن يجد التفاؤل له مكانا!

[email protected]