الإصلاح السياسي.. أبعاده.. وعناصره:
الإصلاح السياسي، بوجه عام، أوما يُطلق عليه فى اللغة الإنجليزية Political Reform، هو عملية يمكن أن تتكرر فى أية دولة، حتى أعظمها. وهو مطلب حيوى قد تفرضه التحديات التي تواجه المجتمعات، كما قد تسعى إليه مؤسسات الدولة أو عناصر حية من المجتمع المدني من أجل تطوير جهاز الدولة ككل أو بعض مؤسساته، تحقيقاً لمزيد من التقدم و الرفاهية. وبناء على ذلك، يكون الإصلاح السياسي ضرورة دائمة لفعالية النظام السياسي للدولة، ولتمكنها من القيام بواظائفها وتحقيق طموحات مواطنيها المشروعة.
وطبيعي أن تختلف أبعاد الإصلاح السياسي من بلد لآخر تبعاً للتحديات التى تواجه كل بلد. ولا شك في أن الإستجابة الفورية للإصلاح عامل هام فى عدم تراكم المشاكل والتحديات، التي سوف تتطلب جهودا أكبر لعلاجها بإصلاحات أوسع وأعقد، بالإضافة الي إرتفاع الكُلفة.
وقد تشمل أبعاد الإصلاح السياسي تعديلات دستورية، لتعكس واقع سياسي وإقتصادي وإجتماعي جديد. وفى هذه الحالة، فمن الطبيعي ان تُسن قوانين جديدة، تستلزم هي أيضا إتخاذ إجراءات وخلق آليات ووضع برامج وسياسات بهدف إحداث الإصلاح المنشود. كما قد يشمل الإصلاح السياسي تنظيم الحياة الحزبية، وضبط العلاقة بين سلطات الدولة أو مؤسساتها، من ناحية، وبين الدولة ومواطنيها، من ناحية أخرى.
وفيما يتعلق بمصر، كمثال، يمكن ذكر أهم عناصر التغيير، أو الإصلاح السياسي، التي طالب بها العديد من المثقفين الهتمين بالشأن الوطني، فيما يلي:
•صياغة دستور جديد يحتوى على فلسفة وتوجهات الدولة ونظامها ويضمن جميع حقوق وحريات المواطن بشكل يتفق مع نص وروح المواثيق الدولية لحقوق الإنسان والجماعات.
•إنتخاب رئيس الجمهورية عن طريق الإقتراع العام من بين مرشحين حزبيين وغير حزبين.
•صياغة قانون للحرية الدينية يضبط العلاقة بين الدولة والمجتمعات الدينية على قدم المساواة، ليكون مثالا يحتذى به لنشر التسامح بين كل المصريين على إختلاف أديانهم، ودعماً لمبدأ قبول التنوع الفكري كأساس للنظام الديموقراطي التعددي.(3)
•تعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية، ليجعل الأشراف على العملية الإنتخابية من إختصاص هيئة قومية مستقلة تضم بين أعضاءها رجال قضاء وممثلين عن الأحزاب السياسية.
•تعديل قانون الأحزاب السياسية، لينص على دعم الدولة المالي للحملات الإنتخابية وإلزامها بتمويل المصروفات الجارية للأحزاب، بالإضافة إلى تشكيل لجنة لشئون الأحزاب من وزير العدل ووزير الداخلية ووزير الدولة لشئون مجلسي الشعب والشورى وستة من رؤساء الهيئات القضائية.
•إلغاء تخصيص نسبة ال 50 %، فئة عمال وفلاحين، لعضوية مجلس الشعب، إذ أن فلسفة وطبيعة النظام السياسي/ الإقتصادى المصرى فى الوقت الحاضر أصبحت مختلفة تماما عما كانت عليه إبان قيام ثورة يوليو 1952.كما أن تناول هموم هاتين الفئتين يمكن أن يتم بشكل عملى ومباشر على المستوى المحلى أولا من خلال ممثليهم فى المجالس المحلية. أما فيما يتعلق بتناول همومهم على المستوى التشريعي فيمكن أن يتم من خلال أعضاء البرلمان ممن يتبنون هذه القضايا ضمن برامج وهموم مجتمعية أخرى.
•تعديل قانون الإدارة المحلية ليعيد حق المجلس الشعبي المحلي في تقديم إستجواب للمحافظ أو غيره من التنفيذيين المحليين. وأن يُشغل منصب المحافظ عن طريق الإنتخاب المباشر، وتكون للمجالس المحلية سلطات رقابية على المحافظين والتنفيذيين.
ولاشك أن بداية حركة الإصلاح السياسي المطلوب الآن – كما سبق و ذكرت - تتطلب أولا فلسفة واضحة، ترسم الخطوط العامة التي تحدد طبيعة الدولة ونظامها السياسي والإقتصادي وحقوق وواجبات المواطن في تلك المنظومة، حتى تنطلق كل المقطورات compartments فى إتجاه واحد وبتناغم يؤدى إلى إحداث التنمية بكل أبعادها. وهذا يتطلب صياغة دستور جديد يعلن عن تلك الفلسفة بمبادئها الكاملة.
ولكن، قد يعترض البعض على ذلك، فى الوقت الحالي، لسبب أو لآخر. وقد نتفهم ذلك، فنؤجل إعادة صياغة كل الدستور إلى مرحلة تالية ليست بعيدة زمنيا. ولكن ما لايمكن تأجيله هو إجراء تعديل على باب الحريات والحقوق والواجبات الموجود في الدستور الحالي، إذ أنه غير كافٍ ليكون أساس سليم ومعاصر لكل القوانين وآليات الديموقراطية المرجوة، فهو لا يحوي ضمانات لكل حريات وحقوق المواطن المصري، كما أنه لايحظر بوضوح قاطع ممارسة التمييز ضد أية فئة من فئات الشعب المصري. ولذلك يجب البدء بتعديل هذا الباب، تعديلا جذرياً حتى نهيء المناخ المجتمعي لمشاركة الشعب في الحياة السياسية والتفاعل والإنخراط في حركة المجتمع المدني، لمواصلة تأصيل الديمقراطية وبناء دولة القانون.
والجدير بالذكر أن المنظمة الكندية المصرية لحقوق الإنسان كانت قد تقدمت للمسئولين بمصر فى عام 2002 بمشروع تعديل لباب الحريات والحقوق والواجبات العامة (24 مادة) الوارد في الدستور المصري الحالي. وصيغ هذا المشروع في 91 مادة، مُفصلا ومؤكدا على الحريات الأساسية Fundamental freedoms، وحقوق المساواة Equality rights، وهي حقوق وإن كانت معروفة بشكل أو بآخر، إلا انها صيغت هنا بشكل جديد وجاءت تحت هذا العنوان وفي صدارة ما سمي بالميثاق المصري للحريات والحقوق والواجبات Egyptian Charter of Freedoms، Rights and Duties، كجزء أساسي من الدستور المقترح، لتعبر عن وظيفتها المحددة والمتمثلة في عرقلة ومنع تأويل أو تلاعب أي شخص بمبدأ المساواة المفترض الإلتزام به عند تطبيق جميع المواد الدستورية الخاصة بالحريات والحقوق والواجبات. تلى تلك الحقوق الحقوق القضائية، وقد جاءت مفصلة، ولكن غير مشتتة على صفحات الميثاق، كما هو حادث الآن في الباب الخاص بها في الدستور الحالي. أما الحقوق الإجتماعية والاقتصادية والثقافية، فقد جاءت معا في مكان واحد كما هو الحال في العهد الدولي الذي تناول نفس الحقوق؛ كما حوى الميثاق المقترح بنودا تضمن الحقوق السياسية Political rights، وأخيراً نص على الواجبات العامة Public duties. وجاءت المواد الخمسة الأخيرة من هذا الميثاق لتنص على كيفية تنفيذ نصوصه، أي آليات وضمانات تنفيذه في واقع الحياة، وهو أمر هام لم يتناوله الدستور الحالي وتتلخص هذه المواد في: 1) لكل مواطن الحق في الدفاع عن حرياته وحقوقه أمام القضاء الطبيعي مباشرة، أو المختص بنظر قضايا الحريات والحقوق من خلال المفوضية القومية للحريات والحقوق، أو بتقديم إلتماس لمجلس الشعب أو المحكمة الدستورية؛ وهكذا - ولأول مرة - يمكن للمواطن مقاضاة أي شخص إنتهك حقوقه أو إعتدى على حرياته. أما المادة الأخرى التى تؤكد على ضرورة إحترام مواد الميثاق المصرى للحريات والحقوق فهى: 2) ألتأكييد على الإلتزام بنص وروح هذه الميثاق ومطابقة ذلك مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والقانون الدولي بوجه عام.

الإصلاح السياسي عملية تراكمية مستمرة:
الواقع أن عملية الإصلاح السياسي هي عملية تراكمية، ولا يمكن أن تتواصل إلا بالتطوير الموازي في الثقافة والتعليم، لخلق ثقافة مواتية لعملية الإصلاح، مع التركيزعلى تجديد الفكر الديني الحاض على إحترام البحث العلمي والحرية الفردية. فبدون ذلك يصعب إحداث أي نمو إقتصادي رأسمالي مستديم، الأمر الذي غالبا ما يوفر الفرصة لعودة إستغلال الدين بواسطة الجماعات الراديكالية المعارضة، وهكذا نعّرض البناء الديمقراطي للخطر.

الإصلاح السياسي مطلب مُلّح فى مصر مثلما هو ضرورى فى كل البلاد العربية:
لقد خطت مصر بعض الخطوات على طريق التحول الديموقراطي خاصة فى الثمانينات من القرن الماضي، ولكنها كانت خطوات شكلية أكثر منها بنيوية، إذ قصرت على ظهور النظام الحزبي، دون أن يتواكب معه تأسيس الآليات اللازمة لتفعيل حركة هذه الأحزاب وقيام دولة المؤسسات بشكل يحقق التنمية بكل أبعادها، إذ كانت كل السلطة مركزة فى الجهاز النفيذي، التابع لرئاسة الدولة، والنابع من حزب ظل فى الحكم أكثر من عقدين، الأمر الذي كان له دور مباشر وأساسي في إستشراء الفساد فى قطاعات كثيرة من أجهزة الدولة، بل وكان له إنعكاساته على الحياة المجتمعية بوجه عام. وهو أمر خلق العديد من التحديات والمصاعب التي مست حياة المواطنين، إجتماعيا وإقتصاديا.
ولذلك، فالإصلاح السياسي هنا ليس ترفاً أو مجرد أمور نظرية لا تمس حياة الناس ومستقبلهم ومستقبل الأجيال الجديدة. نعم، هناك حاجة قومية مُلحة لهذا الإصلاح. أما أن الدعوة للإصلاح قد جاءت متواكبة مع مطالب خارجية، فهذا مجرد توافق زمني coincidence. فقد بدأت بعض ملامح الإصلاح السياسي من أكثر من سنتين، وكانت بطيئة. وربما كان ذلك لدواعي أمنية، كما أن التركيز كان فى الأساس على محاولة التعامل مع التحديات الإقتصادية. ولكن ثبت أن التعامل مع الجانب الإقتصادى – الإجتماعي وتأجيل الجانب السياسي لأجل بعيد له مردوده السلبي على الإقتصاد، وبالتالي على الإستقرار الداخلي. بالإضافة الي ذلك، فلا شك أن الظروف الخارجية لها دور فى تحريك عملية الإصلاح بوتيرة أسرع مما لم تكن تلك الظروف موجودة أصلا. فمصر – مثل غيرها – ليست في معزل عن العالم. والواقع انها ليست فقط جزء منه، ولكنها فاعل هام في قلب الأحداث التي يشهدها، وهي أحداث يبدو أنها ستفرض على الجميع تغيرات أو إصلاحات، كلٍ حسب وضعه!
_______________
(*) رئيس المنظمة الكندية المصرية لحقوق الإنسان.
(1) تُطبق برامج الإجراء التوكيدي Affirmative Action، وتُعرف فى القانون الدولي بإسم "تدابير خاصة" Special measures، لمعالجة أوضاع الجماعات المُهمشة أو التي يُميز ضدها إلي أن تنتهي ممارسات التمييز والتهميش والإستبعاد. وبالتالي، فمثل هذه البرامج يمكن أن تكون مؤقتة، إذ تنتهي في حال معاملة هذه الجماعات بمساواة تامة مع بقية المواطنين، وبعد التأكد من تمتعهم بحقوقهم بشكل طبيعي. وقد تُطبق هذه البرامج عن طريق قوانين أو قرارات من السلطة التنفذية. فعلى سبيل المثال، يمكن إدراج مثل هذه البرامج في قانون الإنتخاب وقانون العمل، وقرارات وزارة التعليم، وذلك لمكافحة التمييز ضد المرأة والأقليات فى المجالات المتعلقة بالمشاركة السياسية أو التوظيف أو دخول مؤسسات تعليمية معينة. وعليه فبرامج "الإجراء التوكيدي" بمثابة آلية لحض صناع القرار والمسئولين بالإدارات الحكومية والأحزاب السياسية والمؤسسات التعليمية وشركات القطاع الخاص على اختيار أشخاص من المجموعات المُهمشة - آخذين فى الإعتبار الكفاءة كعامل أساسي - لإدخالهم مجالاً لم يكن مسموحاً لهم الدخول فيه من قبل، بسبب عادات تحولت إلي تقاليد دأبت على إستبعاهم.
(2) ورد هذا النص مع نصوص أخرى تحظر ممارسة التمييز في مشروع "الميثاق المصري للحريات والحقوق والواجبات"، في الإعلان المصري: ورقة عمل من أجل مصر ديموقراطية حديثة، إصدار المنظمة المصرية الكندية لحقوق الإنسان ومنظمة أقباط الولايات المتحد، (مونتريال، 2002)، ص 48.
(3) المرجع السابق، ص 59 - 62، ويشمل مشروع "قانون الحرية الدينية".
(4) أنشئ بدلا من هذه المفوضية المقترحة المجلس القومى المصرى لحقوق الإنسان، ولكن لم يأت ضمن صلاحياته أية سلطة لفض المنازعات أو تبنى التحكيم فى القضايا الحقوقية، أو حتى المساعدة فى رد الحقوق المغتصبة للمواطنين.