مع إقتراب موعد الانتخابات العراقية المقررة في الثلاثين من الشهر الحالي، يتصاعد جدل من نوع تأييد هذا الموعد ومعارضته. كما ان هناك جدلا آخرا بين من يرفض الانتخابات اصلا ولا يقرها وهم قلة من اطراف تمثل تنظيمات اصولية خارجية اوجد لها الظرف مكانا لعله وقتيا في بعض مناطق العراق من جهة وبين طموحات العراقيين في اقامة دولة ديمقراطية تسعى الى استثمار ثروات البلد بما يخدم ابنائه وتوفر الاستقرار والاندماج في المجتمع الدولي من جهة اخرى.
ومع اقتراب هذا الموعد وتصاعد اجراء التحضيرات له على شتى الاصعدة، تتصاعد ايضا التكهنات والتقييمات والقراءات للقوائم واللوائح ونصيب كل منها من اصوات الناخبين العراقيين.
وباعتبار ان الانتخابات تجرى لاول مرة وبهذه الصورة التي تقرر مصير العراق، فاننا نحتاج الى قراءة سوسيو- سياسية لتوجهات الناخب العراقي، وتكون هذه القراءة وفقا لمعايير عديدة منها:
الخارطة السياسية الحزبية العراقية، والوعي السياسي للمواطن العراقي وتجربته في الانتخابات ومدى ثقته في الساسة والاحزاب، وطبيعة الانتماءات والولاءات الاجتماعية والالتزام الديني وغيرها.

العراق والاحزاب السياسية:
عرف العراق الاحزاب والحركات والتنظيمات السياسية منذ بداية القرن الماضي ومع افول الدولة العثمانية وتبلور فكرة القطرية والانفصال عنها، ومن امثلة هذه الحزب العراقي وجمعية البصرة الاسلامية والنادي الوطني العلمي في بغدا د وما تلاها لاحقا من احزاب في بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة.
والان ظهرت الى الواجهة احزاب وحركات سياسية ربما يتجاوز عددها 200 حزبا وحركة سياسية، معظمها أُسس حديثا في ظل وضع العراق الجديد. وهذا الظهور المفاجئ وبهذا الزخم قد شوش الصورة لدى المواطن العراقي البسيط، حيث غابت او غيبت الى حد ما الاحزاب ودورها في الحياة السياسية العراقية طيلة فترة حكم حزب البعث (1968- 2003)، حيث أصبح مصطلح الحزب والحزبي ملتصقا بالبعث والبعثي، وفقد معناه الايجابي الى حد كبير.
ولكن هذا لا يلغي الصورة النضالية لدى نسبة كبيرة من الجمهور العراقي لاحزاب ناضلت ضد الدكتاتورية منها على وجه التحديد الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديموقراطي الكردستاني وحزب الدعوة الاسلامية والمجلس الاعلى والحزب الشيوعي العراقي.
ولعل هذه الاحزاب هي الابرز في الساحة العراقية الآن، حيث يسيطر الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني على اقليم سوران او السليمانية من كردستان العراق في حين يسيطر الحزب الديموقراطي الكردستاني على اقليم بهدينان او اربيل ودهوك ويحضيان بنفوذ قوي. وهذا النفوذ مبني على اساس تاريخهما النضالي في مقارعة الديكتاتورية والميول والولاءات القومية والقبلية. اما حزب الدعوة الاسلامية فيحظى باحترام كبير لنفس الدور النضالي وما تعرضت له عناصره من تنكيل وصل حد اصدار عقوبة الاعدام لمجرد الاشتباه بمن ينتمي له. وهذا الحال يكاد ينطبق على الحزب الشيوعي العراق ابان تلك الفترة، ايضا وهو ما اكسبهما تعاطفا كبيرا من لدن الكثير من الاوساط الشعبية العراقية في وسط وجنوب العراق بالنسبة للاول وفي عموم العراق ومن لدن الاوساط المتعلمة والعلمانية خاصة بالنسبة للثاني.
اما حزب (المجلس الاعلى للثورة الاسلامية) فقد كسب مكانة وخبرة جيدة على صعيد التنظيم رغم حداثة عمره مقارنة بالاحزاب السابقة الذكر، وارتفعت مكانته نتيجة للدور القيادي الذي لعبه مؤسسه رجل الدين الفقيد محمد باقر الحكيم، كما ان حادثة مقتله المؤثرة في ضريح الامام علي في النجف اكسبت الحزب تعاطفا اكبر من اوساط عراقية واسعة وخاصة الشيعية منها.
وبهذا يمكن القول ان الخارطة الحزبية السياسية في العراق تصبغها هذه الاحزاب الرئيسية بالوانها.
ونستطيع القول ان ما يميز هذه الاحزاب انها ليست احزاب شخصيات بقدر ما هي احزاب عقائدية او ايديولوجية وذات جذور في تاريخ العراق المعاصر وربما نستثني من هذا هنا حزب المجلس الاعلى وفق بعض هذه المعايير الاخيرة، ويجدر هنا ان لا نغفل اضافة الحزب الاسلامي العراقي ضمن هذا التصنيف.
وبالدرجة الثانية تأتي أحزاب يمكن وصفها (احزاب اشخاص) اي تعرف بقياداتها قبل ان تعرف بعقائدها او تاريخها او هوياتها، ومن هذه الاحزاب: حزب المؤتمر الوطني (د. احمد الجلبي) ومنظمة العمل الاسلامي (محمد تقي المدرسي) وحركة الوفاق الوطني (د.اياد علاوي) وحزب الوطن (مشعان الجبوري) وحزب الديموقراطيين المستقلين (د. عدنان الباجه جي) والإئتلاف الوطني (د. توفيق الياسري) والاشتراكية العربية (د. قيس العزاوي) وحزب الله– العراق (عبد الكريم المحمداوي) وغيرها.
على ان لا ننسى هنا ذكر الاحزاب القومية والدينية التي تمثل الاقليات الاثنية العراقية الاخرى مثل بعض احزاب التركمان والكلدوآشوريين حيث يكون لها نفوذا طيبا في اوساط اقلياتها.

القوائم الانتخابية وحظوظها:
توجهات الناخب العراقي:

وبالنظر للقوائم الائتلافية المقدمة لغرض التنافس في الانتخابات فإنه يمكن تشخيص مايلي:
ان قائمة التحالف الكردستاني التي تضم الحزبين الرئيسيين في كردستان العراق سوف تحظى بالنصيب الاكبر واغلبية الاصوات، والاسباب هي: تاريخ الحزبين كما اسلفنا اعلاه وتوجهات الناخب الكردي في التصويت لقائمة (قومية كردية)، نتيجة لما تعرض لها تاريخ الاكراد في العراق خاصة من اضطهاد من قبل الحكومات السابقة، ومرحلة شبه الاستقلال التي عاشتها كردستان العراق منذ مطلع تسعينات القرن الماضي وعلى ايدي الحزبين المذكورين.
اما وسط وجنوب العراق، فمن المتوقع جدا تفوق لائحة الائتلاف العراقي الموحد والتي تحضى بمباركة المرجعية في النجف، حيث تضم هذه اللائحة الاحزاب المهمة وذات التأثير في الشارع العراقي الشيعي خاصة، فمن جانب اهمية هذه الاحزاب وتراثها النضالي ومن جانب آخر مباركة المرجعية العليا المتمثلة بالسيد السيستاني صاحب النفوذ الكبير في الشارع العراقي، كما ان دخول الاحزاب الصغيرة الاخرى (احزاب الاشخاص) كما اسميناها اكسبتها رصيدا مضافا نتيجة لتاريخ قادة هذه الاحزاب والذي لا يقل قيمة وفاعلية عن تأثير الاحزاب الاخرى، ومن هذه الاحزاب: المؤتمر الوطني العراقي الذي يتمتع رئيسه الدكتور احمد الجلبي برصيد طيب في الشارع العراقي الشيعي خاصة بعد دوره في اسقاط صدام وما تعرض له من محاولات تنكيل او تهميش من قبل سلطة الاحتلال (الادارة المدنية الاميركية المتمثلة بشخص باول بريمر)، ومحاولات تشهير اعلامية من قبل بعض الاطراف وبعض وسائل الاعلام العربية التي لا تحضى بمصداقية في الشارع العراقي وتعرضه لمحاولات اغتيال رفعت من رصيده اكثر. وقد كان بارعا في عقد تحالفات واقترب من المرجعية في النجف الامر الذي منحه شئ من الحصانة لدى مختلف الاطراف والفرقاء في الساحة العراقية والمنطقة ايضا.
والامر يكاد يكون مشابها في موقف طرف آخر في الائتلاف هو عبد الكريم المحمداوي (حزب الله) الذي يلقب (امير الاهوار) نتيجة لدوره في قيادة جزء من معارضة النظام السابق في جنوب العراق.
يجدر ان نذكر ايضا اهمية انضمام شخصيات وحركات مثل رجل الدين السيد محمد تقي المدرسي (منظمة العمل الاسلامي) والشيخ اليعقوبي (حزب الفضيلة الاسلامي) وحلفاء الائتلاف الاخرين من السنة مثل الشيخ فائز الياور ورجال علم مثل العالم النووي د. حسين الشهرستاني ود. سامي المظفر وغيرهم.
وفضلا عن اهمية وتاريخ كل من هذه الاحزاب واثرها في صوت الناخب في وسط وجنوب العراق ينبغي الالتفات الى ان ميول المواطنين وامزجتهم وولاءاتهم في وسط وجنوب العراق او لنقل تحديدا من المذهب الجعفري تتبع المرجعية الدينية وتتأثر بخطابها وتتوجه وفق بوصلتها الى حد كبير جدا. مع تحفظ نسبة كبيرة منهم بنفس الوقت وخشيتهم من ان يقعوا تحت تسلط ايديولوجي جديد، الا وهو تسلط الاحزاب الدينية ونسخ نموذج ايران او فرض سطوتها.
وحيث اعتبرت المرجعية الدينية في النجف ان المشاركة والتصويت في الانتخابات واجبا شرعيا، فان هذا الامر قد تحول من قضية وواجب وطني الى واجب ديني شرعي، فما بالك بمباركة قائمة او لائحة انتخابية من قبل المرجعية؟!!
وقد ابدت احزاب وقوائم منافسة مخاوفها من هذا التاييد واثارت الامر تحت بند (استخدام الرموز الدينية في الحملة الانتخابية).
ولنعلم ايضا ان النزعة الدينية قد قويت في الفترة الاخيرة من نظام الحكم السابق بسبب توجهات ذلك النظام (التكتيكية) جراء عزلته الاقليمية والدولية والمشاكل الداخلية التي واجهها. كما ان للظروف الاقتصادية والاجتماعية والنفسية الصعبة التي نجمت عن كوارث الحروب المتعاقبة والحصار لها دور في تكريس هذه النزعة. اما تضييق النظام السابق على حرية الممارسة الدينية والمذهبية على الشيعة خاصة في فترة حكمه وتحديدا فترة الحرب ضد ايران التي استمرت ثماني سنوات (1980-1988) فكان لها دور كبير في تصعيد هذه النزعة وقد تمثلت في اندفاع الكثير من الشيعة الى ممارسة شعائرهم الدينية دون اي تحفظ وبشكل كبير.
وقد اظهرت بعض استطلاعات الراي سواء عن طريق الانترنت او في الساحة العراقية مباشرة هذه الاحتمالات التي نطرحها هنا.
راجع: (جريدة ايلاف الالكترونية: في احدث استطلاع، المنافسة الانتخابية بين الاسلاميين والديموقراطيين http://www.elaph.com/AsdaElaph/2005/1/33085.htm)
وفيه عرض لنتائج استطلاع ميداني جرى في محافظة بابل وسط العراق اعدته لجنة البحوث والدراسات في مكتب المدى – بابل، واظهر تفوق نصيب الاسلاميين في الانتخابات على الديمقراطيين كما واظهر معطيات جيدة يمكن الاستفادة منها كارضية لقراءة توجهات الناخب العراقي.
وراجع ايضا (صحيفة عراق الغد الالكترونية http://www.iraqoftomorrow.org) حيث تنقل التصويت المستمر عبر الانترنت للقوائم الانتخابية والذي اظهر تفوق القائمة 169 (الائتلاف العراقي الموحد) اولا بفارق ليس بالقليل، تليها قائمة اتحاد الشعب (الحزب الشيوعي العراقي) ومع التشكيك بمدى مطابقة بيانات الاستفتاء لواقع الشارع العراقي فيما يتعلق بالتصويت لقائمة الحزب الشيوعى، وذلك كون اغلبية المصوتين هم من عراقيي الخارج ومن النخب المتعلمة وان توجهات الكثير منها ليبرالية وعلمانية، اضافة الى تنظيمهم وتوفر وسائل الاتصال لمن يقيمون في البلدان الغربية. واذا نقلنا هذه الصورة الى الواقع العراقي فان هؤلاء سيصبحون اقلية مقارنة بتوجهات الاغلبية الاخرى (الدينية والمذهبية والقبلية والقومية).

وكانت قناة الفيحاء العراقية قد تطرقت الى معطيات هذا الاستفتاء يوم الخميس (13-1-2005) بالتفصيل والتحليل.
هناك قوائم يمكن ان تكون مناطقية او قبلية اثنية تتبع الاقليات العرقية او الدينية مثل القوائم التركمانية والكلدواشورية والكرد الفيلية، من المتوقع ان تكون انتصاراتها محصورة في مناطقها او عشائرها او اقلياتها الاثنية.
اما قائمتي اطراف الحكومة (العراقية – اياد علاوي) و(عراقيون- غازي الياور) فمن المتوقع ان يحصل شئ من التساوي في نصيب كل منهما ذلك لمؤهلات وموقع كل منهما لدى بعض الاوساط العشائرية من قبل الرئيس غازي الياور، والمؤسساتية وبعض منظمات المجتمع المدني بالنسبة لرئيس الوزراء اياد علاوي. مع ان التصدي لمنصب هام في الحكومة الانتقالية كان بمثابة (حرق الاوراق السياسية للكثير من السياسيين في وضع متأزم مثل وضع العراق). وربما لا تزيد الدعاية الانتخابية التي يعملها د. اياد علاوي لنفسه وقائمته كثيرا من هذا النصيب.
ومن المرجح ان لا يرتفع ترتيب هاتين القائمتين على القوائم التي ذكرناها اعلاه او حتى ربما بعض القوائم التي تحظى بتأييد نسبة لا باس بها من اوساط المتعلمين والاوساط العشائرية وبعض المناطق، ومنها قائمة حركة المجتمع الديمقراطي (حمد) والتي شكلها حميد الكفائي وتضم الى جانبه شخصيات هامة مثل الاعلامي العراقي المعروف د. هشام الديوان والسياسية العراقية صن غول جابوك، وغيرهما.

خلاصة:

وبتسليط الضوء وتكثيف الصورة على المشهد الانتخابي والعراقي ومحاولة قراءة توجهات الناخب العراقي وفقا لهذه المعطيات، نستطيع ان نخرج بهذه المحصلة:
سوف يصوت النخاب العراقي وفقا لانتمائه (القومي- القبلي) في كردستان العراق، و(الديني- المذهبي) في جنوب ووسط العراق (اغلبية الشيعة)، و(القبلي- القومي) في المنطقة الغربية والشمالية الغربية من العراق (اي السنة)، رغم ضآلة العدد الذي سوف يشارك من ابناء السنة بسبب الاوضاع المتوترة في مناطقها.
وستصوت الاقليات وفقا لانتماءاتها الاثنية والدينية.
وبحساب الاغلبية السكانية وقوة النفوذ والتأثير وسحره (او قدسيته ان شئت) فان النتائج من المتوقعة ستكون، تحقيق قائمة الائتلاف العراقي الموحد تفوقا كبيرا في مناطق الوسط والجنوب تحديدا. تليها قائمة التحالف الكردستاني، ثم بفارق كبير تتقارب نسب كل من قائمة حركة المجتمع الديمقراطي واتحاد الشعب والعراقية وعراقيون وقوائم القوميات والطوائف الاخرى مثل الجبهة التركمانية الرافدين الكلدواشورية وقوائم العشائر والليبراليين والقوميين وهكذا.

ان ظرف العراقي الحالي الذي يتسم بالتوتر والعنف الذي يصل حد الارهاب في بعض مناطق العراق، يلقي بظلاله على العملية الانتخابية التي تعد تجربة فريدة في منطقة يسودها تشابك المصالح على شتى الاصعدة سواء منها السياسية او الاقتصادية اوالدينية اوالقومية او الطائفية او المذهبية او غيرها. كما ان وعي المواطن وثقته بالعملية الانتخابية وبالساسة والاحزاب السياسية وتركة الحكم السابق ستلعب دورها في التأثير على هذه التجربة ونتائجها.

*اكاديمي وباحث انثروبولوجي عراقي مقيم في هولندا

[email protected]