تواصل القنوات الفضائية العربية وغيرها مع اقتراب موعد الانتخابات عولمة القضية العراقية أكثر من أي وقت مضى.
بالأمس كان لي متابعة لأحد برنامج قناة المستقلة عن الانتخابات و مستقبل العراق.وهي المرة الأولى التي اكتب فيها وجهة نظر عن آراء وردت في برنامج شاهدته..يدفعني لهذا ما سمعته في برنامج نبض الشارع،وللحق أقول إن كان ثمة شارع لازال ينبض بفكر يعيد الخلافة الراشدة للعراق فهو لعمرك خطب جلل يسترعي كل كتابة.

كان ضيف البرنامج السيد حسن الحسن من حزب التحرير الإسلامي،وهو شخصية فلسطينية لم أتبين من طروحاته أية وجهة نظر واضحة،فحديثه بدا وكأنه قادم من التاريخ،وبقس محاولاً إيجاد توفيق سريع وحلول آنية لأية مشكلة أو سؤال يواجهه،حتى وجد نفسه في مأزق كبير لحظة اتهم المرجعيات الدينية العراقية بخروجها عن الخط السليم في مقاومة الاحتلال وفق ما يراه هو مناسبا باستخدام العمل المسلح.ولست أناقش تفاصيل ما دار في تلك الأمسية،رغم بعض الأخطاء والمغالطات الكبرى للمتحدث،والتي جاء ت خلال حديثه،حدا شطب فيه على نضال معظم الأحزاب السياسية المعارضة في العراق لأنه (لم يسمع) عن تضحياتهم.ورغم كل ما حاوله في إبداء وجهة نظر معتدلة،كان بالامكان وبسهولة قراءة ما بين كلماته من أفكار ووجهات نظر. وفي الحقيقة استغربت أيما استغراب وأنا أجد متحدثا فلسطينيا باسم حزب التحرير الإسلامي يتحدث عن جهاد حزبهم في العراق،وهو أمر تعودت سماعه عن تنظيم القاعدة ولم أكن احسب إن أحدا سبقهم في هذا ونافسهم عليه. فزعيم القاعدة وصل به الأمر ان عين الزرقاوي الأردني أميرا على العراق مؤخرا.
وسألت نفسي وأنا أتابع البرنامج هل يصلح العراق فعلا ان يكون عاصمة للخلافة مثلما يريد له حزب التحرير؟
وكيف سيكون حال العراق السياسي والديني باختلافه المعروف تحت حكم خليفة مسلم؟.
ودفعتني الأسئلة لأطلاع على مسودة الدستور لدولة الخلافة المرتجاة،ولم أجد ضالتي. وجدت فقرات ونصوص لا يمكن توافقها بحال من الأحوال مع الوضع العراقي.
قلت: حتى وان كانت العقيدة الإسلامية مرجعية دستورية وشرعية، يبقى العراق بلدا يوجد فيه نسبة غالبة من المسلمين ولكنهم ليسوا بالضرورة من دعاة الدولة الإسلامية وفق منهجيات حزب التحرير وغيره من الأحزاب الإسلامية في العراق، وعلى كل حال سيحدد هذا مشروع الانتخابات القادمة وما سيتبعها لاحقا.وهنا لا أفهم إصرار المحاور في البرنامج على عدم شرعية الانتخابات والمشاركة فيها أصلا.

* * *
ثمة أشياء ومفاهيم غير واضحة في مسودات دساتير الأحزاب الإسلامية ولا أجد فيها من إجابة على تساؤلاتي. فحين أقرأ في بعضها "واجبات الخليفة" أجد نصاً: "على الخليفة أن يحمل الإسلام رسالة إلى العالم بالدعوة والجهاد"،وأبصر من جديد دماء ومعارك أرهقت البلاد وقتلت العباد. وكل فتح فيها سيترك أمجاد حاكم سيخالف الدستور لشرط حماية الأمة التي ستدخل حالة طوارئ أزلية مادام عليه حمل الإسلام رسالة جهادية،وحسبنا في تاريخنا الطويل ما قرأناه من مشاهد وحكايا مرعبة. حتى إنها أصبحت حجة لأكثر الحكام- بغض النظر عن التزامهم الديني- لدوام بقائهم: فهذا بن كثير يروي في كتابه البداية والنهاية عن حوادث سنة 235 هـ، أمر المتوكل في أهل الذمة، بوجوب ان يتميزوا عن المسلمين بلباسهم وعمائمهم وثيابهم؛ متطيلسين بالمصبوغ بالقلي،وعلى عمائمهم رقاع مخالفة للون ثيابهم من خلفهم ومن بين أيديهم، وان يلزموا بالزنانير الخاصرة لثيابهم كزنانير الفلاحين، حاملين في رقابهم كرات من خشب كثيرة، ويمنعوا ركوب الخيل. ويستمر بن كثير بسرد صفحات طويلة، من أوامر الخليفة المتوكل،الطافحة بالقسوة والإذلال والإمعان بالإهانة لأهل البلد من الديانات الأخرى.
سيقول قائل هذا زمن ولى وتلك حكايا لملك غابر نسيها الناس لما سمعوا من أفضال حكام عادلين. أقول ان اعتراضنا الأساس في شكل الحكم نابع من ضرورة استبعاد أية قداسة على حاكم أو تشريعات لا تضع نصب عينها الإنسان أولا. والظروف المحيطة به ومتغيرات الزمن،والا ما حاجتنا الآن لمناقشة صحة قبول نبي الله يوسف المشاركة في الحكم من خطأه. (هكذا وجدت نقاشات طويلة على صفحات مواقعهم)مادمنا نرى واقعا نستطيع استنطاق العقائد فيه،وموجبات المشاركة السياسية لأي طرف من الأطراف حسب ما يرتضيه ويقدر له الأهمية بمسؤولية كبيرة.
ولست احتج على مشاركة أي طرف ديني في العملية السياسية العراقية،ولكني استغرب مع استحياء كبير ان يجد البعض الآن في مثال الدولة العثمانية حكومة جديدة بامكانها ان تحكم العالم والعراق بضمنه،وليست هذه اتهامات من عندياتي بل هي جزء مما وجدته في أدبيات حزب التحرير،واجد من دواعي النصح ان يكون المثال العثماني مستبعدا بشكل نهائي كمثال ناجح ومقترح لدولة،تواكب العصر وتخاطب العقول بصيغ مستقبلية.. اقول قولي هذا واترك للقارئ التعليق على فقرات من نص رسالة حزب التحرير التي قدمها لمكتب الرئيس الفرنسي جاك شيراك في الشانزليزيه،أيام الاحتجاجات على منع الحجاب في المدارس الفرنسية، يذكّر فيها الحزب الرئيس الفرنسي ب" المعروف الذي قدمه خليفة المسلمين العثماني سليمان القانوني حينما استجاب لطلب المساعدة من فرنسا في إنقاذ ملكها الأسير فرانسوا الأول "هو الجميل الذي صنعته دولتنا،الدولة الإسلامية دولة الخـلافة العثمانية، (لفرنسا الأمس)، فهل تردّ (فرنسا اليوم) هذا الجميل للمسلمين، فتقررون إلغاء قرار منع الحجاب للنساء المسلمات في فرنسا؟إننا ننتظر ونرى. فإن ردّت (فرنسا اليوم(الجميل، فإن هذه ستكون بادرةً طيبةً مع دولة الخـلافة الإسلامية عندما نعيدها، بإذن الله من جديد".

* * *
الى الآن يسيء أكثر العرب فهم آلية الوعي العراقي في النظر الى مستقبل الدولة العراقية القادمة،فالظلم الهائل الذي ذاقه هذا الشعب لم يعد يقبل أية صورة تجريبية تعرضت في سابقات التجارب للإحباط والفشل والانتكاس لأي سبب كان،وما عاد الواقع العراقي مختبرا لها،وليس ثمة أفق غير الديموقراطية وثقافتها الملتزمة بحقوق الإنسان،طموحا للشعب-بضمنه الأقليات العرقية والدينية - ؛ بالمساواة وحق الهوية في دولة لا تحمل أي عنوان آخر.
المشروع العراقي مشروع دولة الأمة بحدود خريطتها ومعالمها الأثنية والعرقية،والتعايش الديني،وهي مقومات فشلت كل الحكومات المتعاقبة على احتوائها في إطار العدالة،وليس من سبيل لتحقيقيها الآن غير صناديق الاقتراع والتصويت،وإن كانت تجربة الانتخابات العراقية مثار شكّ لديهم،فيكفي انها خطوة لم يجربوها هم بعد. سنجربها ملياً ولن نخسرها للنسيان؛أفبعد ان سجن صدام وتحررنا منه..ذلك رجع بعيد.