دروس هامة للإصلاح الاقتصادي بالدول العربية إن كانت ستقوم لها قائمة


يبدا مع بداية السنة الجديدة العقد الرابع لصعود ماسمي بـ " فتيان شيكاغو " وهو الفريق الاقتصادي المتكامل وذي رؤية الواضحة الذي استلم الحقائب الاقتصادية في الحكومة الشيلية، مما مكن الشيلى من تطبيق احد اكبر برامج الإصلاح الاقتصادي طموحا وشمولية بالدول النامية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. قد حول هذا البرنامج البلد من حالة فوضى اقتصادية عارمة ، نتيجة إفلاس التجربة الاشتراكية التي قادها سالفادور آلاندي ، والتي أوصلت البلد إلى الهاوية في ظل تضخم الأسعار وصلت نسبة 75% سنة 1975.

فما هي مدرسة شيكاغو لاقتصاديات التنمية؟ ومن هم " فتيان شيكاغو " وماذا فعلوا لتصبح الشيلى على ما هي عليه الآن؟ وماذا يمكن للدول العربية ان تتعلم من تجربة الإصلاح الشيلية الشاملة التي قادها " فتيان شيكاغو "؟

مدرسة شيكاغو لاقتصاديات التنمية:
تأسست نظرية الحرية الاقتصادية على يد مؤسس علم الاقتصاد الحديث ادم سميث بصدور كتابه " ثروة الأمم " عام 1796 ، الذي طور فيه نظرية " اليد الخفية ". مفاد هذه النظرية أن اقتصادا حرا بدون أية قيود من سلطة مركزية، يقوم على أساس الربح الشخصي ، وتقوم فيه مبادلات السوق على مبدأ الطوعية ووفقا للمصلحة المتبادلة ، يحقق أفضل النتائج على مستوى المجموعة الوطنية. وعلى هذا الأساس ، فان أي تدخل من طرف الحكومة ، مثل تحديد الأسعار أو فرض قيود على التجارة الخارجية ( فرض تعريفة جمركية على الواردات.. ) ، يؤدي إلى نتائج اقل بكثير من النتائج التي كانت ستتحقق لو تركت الأسواق تعمل بحرية.

تطورت هذه النظرية عبر العصور رغم محافظتها على الثوابت الأساسية ، حتى وصلت إلى صورتها المشرقة في النصف الثاني من القرن العشرين فيما يسمى بـ " مدرسة شيكاغو لاقتصاديات التنمية ". تأسست هذه المدرسة على يد الاقتصادي " فريدريك هاياك " مع صدور كتابه " الطريق إلى العبودية " سنة 1945 ، الذي طور من خلاله الفكرة القائلة بان كم المعلومات وتنوعها الضروري لتنظيم الاقتصاد لا يمكن أن تسيطر عليه قوة مركزية للتخطيط ( مثل
" Gosplan " خلال الحقبة السوفيتية ). زيادة على ذلك فان توجيه موارد الدولة عبر جهاز مركزي كمن " يضع كل بيضاته في سلة واحدة " ، بينما يعتمد اقتصاد السوق على قرارات الملايين من الفاعلين من رجال أعمال وشركات ومستهلكين. وتكون النسبة العامة للنجاح في هذه الحالة أعلى بكثير من نسبة الفشل. وقد ثبتت نبوءة " هاياك " بشكل باهر مع إفلاس كافة تجارب الإدارة المركزية للاقتصاد وانهيار الكتلة الاشتراكية. ومما زاد " مدرسة شيكاغو لاقتصاديات التنمية " شهرة هو انتشار أفكار مجموعة من الأساتذة والباحثين بكلية الاقتصاد بجامعة شيكاغو بقيادة الأستاذ " ميلتون فريدمان " الذي يعتبر بلا شك اكبر داعية للحرية الاقتصادية في العالم خلال العقود الخمسة الماضية ، والذي يعتبر كتابه حرية الاختيار " Free to Choose " عصارة فكره في هذا المجال.

ويمكن تلخيص أهم وصايا مدرسة شيكاغو لاقتصاديات التنمية فيما يلي:

-ضرورة إلغاء كافة القيود القانونية ، مثل القيود على الاستثمار في أنشطة معينة ، كالاتصالات والنقل الجوي، والقوانين المقيدة لعمل البنوك وأسواق راس المال.
-إلغاء كافة القيود على التجارة الحرة ( تعريفة جمركية ، وكالات التوريد ، دواوين التجارة الخارجية التابعة للحكومة... ).
-تبسيط النظام الضريبي وتوحيد النسبة وتخفيضها لما يقارب 10%.
-انسحاب الحكومة من كافة الأنشطة الاقتصادية بما فيها البنية التحتية ( طرقات سريعة ، مطارات ، مواني ، السكك الحديدية ، المترو للنقل الحضري... ) والخدمات ( الاتصالات ، البنوك وأسواق راس المال ، التعليم العالي ).
-إفساح المجال لآليات السوق حتى في الميادين التي تقع ضمن مسئولية الحكومة. في مجال التعليم الأساسي والثانوي على سبيل المثال ، وجه ميلتون فريدمان بوضع المصادر المالية الحكومية على ذمة الأولياء لتمويل تعليم أبنائهم في المؤسسات التي يختارونها ، مما يمكن من: (1) تخفيض التكلفة حيث أن القطاع الخاص غالبا ما يوفر نفس الخدمة التعليمية بتكلفة اقل من نصف تكلفة المدارس الحكومية ، (2) يقدم القطاع الخاص - في ظل المنافسة – أفضل الخدمات التعليمية بتوفيره أفضل الحوافز للمدرسين واختيار أفضل المناهج التعليمية ، و (3) يوفر النظام الجديد القدرة للأولياء على توجيه أبنائهم وبناتهم إلى معاهد أرقى شرط أن يدفعوا فارق التكلفة.
-إلغاء كافة برامج " مقاومة الفقر " مثل دعم المواد الغذائية للفقراء ، البرامج العينية لدعم الأسر ضعيفة الدخل ، وتعويضها بضريبة سلبية للدخل "Tax Negative Income " حيث تحصل العائلات ضعيفة الدخل على تحويل مالي تنفقه كيفما اردات.
-مراجعة سياسة الإنفاق العام وتخفيض مجمل نفقات الميزانية العامة بالدولة إلى حوالي 10% وهي النسبة التاريخية التي مكنت بريطانيا حتى نهاية القرن التاسع عشر وهونج كونج على مدى عقود طويلة من تحقيق تنمية اقتصادية هامة.

أثرت مدرسة شيكاغو بصفة كبيرة على مجريات الإصلاح الاقتصادي لإدارتي " تاتشر " بالمملكة المتحدة وادارة الرئيس " ريغن " بالولايات المتحدة الأمريكية. لكن تبقى تجربة
" فتيان شيكاغو " هي الأهم من ناحية التطبيق بالنسبة للدول النامية.

والمقصود بـ " فتيان شيكاغو " هو الفريق الاقتصادي الذي احتل المناصب الوزارية الحساسة في التشيلي ، ويروى لناI Jose De Pineraقصة مشوقة عن اختيار الطغمة العسكرية لهذا الطاقم. وخلاصة القول ، ان اختيار العسكريين الاول كان لصالح الحزب الديمقراطي المسيحي ، على اعتبار ان لهم تجربة سياسية. لكن هذا المسعى فشل فجاء الاختيار الثاني لرجال اعمال ، لكن مقابلات العسكريين معهم فشلت بدورها حيث بدى واضحا ان كل فرد منهم يريد الدفاع عن النشاط الذي يمارسه ، مما يورط الدولة في الاقتصاد على طريقة السياسات الاشتراكية التي جاء العسكريون للقضاء عليها في المقام الاول. وتتكون المجموعة الثالثة من كبار المحامين. لكن المقابلات معهم اثبتت انهم لا يتملكون رؤية واضحة للتغيير ، حيث جاءت اجاباتهم متناقضة.
وكان الاختيار النهائي للطغمة العسكرية على " فتيان شيكتغو " حبث اظهرت المقابلات المتكررة معهم انهم يمتلكون رؤية واضحة للاهداف – بناء اقتصاد حر على انقاض الاشتراكية المنهارة - ، وهو بطبيعة الحال نفس هدف العسكريين. كما بدا لهم ايضا برنامج واضح للتغيير الاقتصادي ، بما فيه الاجراءات العملية.وتمت تسميتهم كذلك لان معظمهم حاصل على شهادة الدكتوراة في الاقتصاد من جامعة شيكاغو ، نتيجة معاهدة بين الجامعة الكاثوليكية بالشيلي وهذه الاخيرة منذ سنة 1952 ، والتي اخرجت على مدى العقود الطويلة جيشا من الاقتصاديين الشيليين - ونفس الشيء بالنسبة لباقي دول امريكا اللاتينية الاخرى – في الوقت الذي بقيت فيه الدول العربية تعيش على الانتاج المحلي بالنتائج الكارثية التي نعرف. اشهر اعضاء هذا الفريق Sergio de Castroو Sergio de la Cuadra اللذان شغلا منصب وزير المالية و Jose de Pinera الذي تقلد منصب وزير العمل وادخل اول نظام لصناديق التقاعد المبني علىشركات القطاع الخاص ، وهو نظام فشلت حتى امريكا والى الان في اعتماده.

أهم الإجراءات التي اتخذها هذا الفريق:
إحداث إصلاح اقتصادي هيكلي وجذري أساسه:
1.انسحاب الحكومة من النشاط الاقتصادي بعملية ضخمة للخصخصة شملت ما يزيد عن 400 مؤسسة.
2.اعتماد تعريفة جمركية موحدة بنسبة 10% لكل البضاعة المستوردة باستثناء عربات النقل وعدد محدود من المواد الكمالية الأخرى.
3.خروج الحكومة من قطاع المصارف.
4.تحرير قانون العمل.
5.إصلاح الضمان الاجتماعي والتامين على الشيخوخة باعتماد نظام جديد لشركات التامين الخاصة وهو الأول من نوعه بتعويض النظام القديم ، المتعارف عليه باسم نظام " Pay as You Go ". ويقوم النظام الجديد بمطالبة كافة الموظفين بضرورة اختيار برنامج للادخار خلال سنوات العمل. وقد ساعدت المنافسة بين هذه الشركات في تحقيق عائد سنوي هام بنسبة 10% خلال العقدين الماضيين ، وهو عائد أفضل بكثير مما كان سيحصل عليه العامل لو بقي العمل بالنظام القديم.
6.كذلك مكن هذا النظام دولة الشيلى من جمع حوالي 50 مليار دولار كأصول لهذه الشركات ، وهو مبلغ ضخم يتم استثماره في عدة قنوات من بينها أسواق راس المال ، مما انعكس بالإيجاب على الاستثمار والنمو الاقتصادي.

الشيلى مقارنة بدول أخرى مع نهاية عام 2000:
تؤكد المقارنة لمختلف مؤشرات التقدم النجاح الكبير للتجربة الشيلية ، حيث يبلغ معدل دخل الفرد ( بعد الأخذ بعين الاعتبار فارق الأسعار بين الدول ) ثلاثة إضعاف دخل الفرد بدول مثل مصر ، سوريا والجزائر. كما تعطي المؤشر الأخرى فارقا كبيرا لصالح الشيلى ( النمو السنوي ، نسبة الفقر...).


معدل النمو السنويمعدل دخل الفرد بالدولارنسبة الصادرات ذات التقنية العاليةنسبة الفقر ( الذين يعيشون دون 2 دولار باليوم للفرد الواحد)
التشيلي6.8%91104%4%
البرازيل2.9%732013%25.4%
الأرجنتين4.3%120908%غير متوفر
اورغواي3.3%20902%2.2%
الدول العربية غير النفطية
مصر4.2%3690صفر52.7%
سوريا5.6%3230غير متوفرغير متوفر
الأردن5.0%40402%7.4%
تونس4.7%60903%10.0%
الجزائر2.1%50404%15.1%
المغرب2.2%3410صفرغير متوفر

إذا كان نجاح التجربة الشيلية بهذه الصفة ، فالسؤال الملح هو كيف يمكن تطبيق التجربة بالدول العربية وسأحاول الجواب على هذا السؤال كالتالي:
1.يجب الالتزام القوي والواضح من طرف السلطة السياسية العليا بإرساء أسس اقتصاد السوق من خلال رزنامة محددة للاصلاحات الشاملة والسريعة التي لا تحتمل التراجع او التاخير.
2.تعيين فريق اقتصادي ذي تكوين اكاديمي " انجلو ساكسوني " وذي تجربة في المؤسسات العالمية. ويكون الفريق منسجما وذي رؤية واضحة للاصلاح.
3.توفير إطار تشريعي سهل واضح وشفاف للاستثمار والاعمال.
4.توفير نظام قضائي يسهل حل النزعات التجارية بأقل تكلفة.
5.اقرار قانون استثمار موحد مؤسسة تطوير الاستثمار مبنية على أفضل الممارسات العالمية ( خلافا لجيش البيروقراطيين بالإدارات العربية الذي يمثل عامل طرد لتطوير الاستثمار)، ويمكن اعتماد المؤسسة الايرلندية كنموذج.
6.توحيد ضريبة دخل الأفراد والشركات والتعريفة الجمركية وبنسبة لا تتجاوز 15%.
7.إلغاء السياسة المالية لدعم المواد الأساسية وتخصيص نصف الميزانية المالية الحالية لتقديم دعم نقدي للمحتاجين.
8.إقرار برنامج الانسحاب الكامل للحكومة من المؤسسات المالية ( بنوك وشركات تامين ) واستعمال المداخيل المتأتية من هذه العملية لتحمل الدولة للقروض المتعثرة ، أسوة بالتجربة التشيكية في هذا المجال.
9.خروج الدولة ضمن عملية شاملة للخصخصة من كافة الأنشطة الاقتصادية بما فيها البنية التحتية ( مطارات ، مواني ، شركات النقل البري والبحري والجوي ، والسكك الحديدية ، الاتصالات ( بما فيها شركات الهاتف الجوال والثابت ) ، الطرقات السريعة ، شركات صناعة الماء والكهرباء...) وتحويل كافة المداخيل المتأتية من هذه العملية إلى صندوق خاص يتم استحداثه لهذا الغرض ، مع اعتماد بند واضح في الدستور يمنع استعمال راس مال الصندوق مهما كانت الظروف ، بحيث يقتصر الإنفاق الحكومي من الصندوق على الدخل السنوي المتأني من استثمار راس المال.
10.إعادة هيكلة النظام التعليمي بتطوير القطاعات الثلاث – العمومي ، والشراكة بين القطاع العام والخاص ، والقطاع الخاص – مع اعتماد مناهج التعليم الانجلوساكسونية والربط بين المناهج التعليمية واحتياجات سوق العمل.


(*) بريد الكتروني: [email protected]