لعلني من أكثر من يكتب عن الديمقراطية كأمل لنا في مستقبل أفضل.. وأنا فعلااعتبرها من أنجح نظم الحكمولكن منطلق مختلف تماما عن
منطلق التعريفات النظرية البراقة.. اني انطلق في نظرتي الي الديمقراطية من واقع الانسانية المؤلم والقسوة الكامنة في النفس البشرية...

أني أعتبر الديمقراطية اقل نظم الحكم شرا وليس افضلها.. فلم ولن يوجد نظام الحكم الافضل أو اليوتوبيا.. وسيظل هذا النظام حلما يداعب خيال البشر.. شعرائهم ومفكريهم.. ولكن الديمقراطية ستظل اقل نظم الحكم شرورا..

والحقيقة أنني لا أعتبرها ايديولوجية ولا حتي نظرية.. أنها مجرد نظام لتسيير الحكم وأدارة الدولة.. فهي في الحقيقة ليست حكم الشعب لنفسه من خلال انتخاب ممثلين له وهو التعريف الشائع لها.. وهي ايضا ليست نظام الحكم الذي يقوم علي التعددية الحزبية والانتخابات الحرة والفصل بين السلطات وسيادة القانون كما يحب الغرب وخاصة مفكري أمريكا ان يكون هذا تعريفهم الليبرالي لها.. لأن الشعب لم ولن يحكم أبدا ولكن الصفوة هم دائما من يحكمون..

لأن الحقيقة في رايي وهو راي لا أدعي اطلاقا انه صائب 100% ولكن أومن بصحته بنسبة كبيرة.. أنه لم يوجد أي
نظام حكم منذ ان بدأ التاريخ او بدأ الانسان تدوين التاريخ كان يحكم فيه الشعب نفسه.. مهما كانت الراية التي يحملها هذا النظام.. دينية.. علمانية.. شيوعية او راسماليه.. وحديثا راية الديمقراطية..

في كل نظم الحكم الصفوة هم من يحكمون.. والفرق بين الديمقراطية وغيرها من نظم الحكم.. ان في الديمقراطية الصفوة هم من يحكمون نعم.. ولكن باختيار العامة.. الصفوة يتنافسون فيما بينهم علي اصوات العامة.. وهذا هو السبب الحقيقي لنجاح الديمقراطية.. وليست الشعارات البراقة عن الحقوق والواجبات وفصل السلطات..

ان الديمقراطية الحديثة هي الابنة الشرعية للصفقة السياسية التي عقدها النبلاء الانجلوساكسون ذوو الدم البارد والعقل البراجماتي مع العامة والتي ضمنت لهم الاستمرار في الحكم في مقابل اعطاء هؤلاء العامة بعض الحقوق وتجنب ثورتهم.. و الحق الاهم الذي تطور بالتدريج مع الزمن الي الديمقراطية الحديثة...
هو حق العامة في الاختيار بين عدة متنافسين من الصفوة..

وقد استطاع هؤلاء النبلاء بهذا العقل الانجلوساكسوني البراجماتي والذي امتد الي الولايات المتحدة.. تجنب الثورات الشعبية للعامة مثل الثورة الروسية وما صاحبها من أهوال.. والثورة البلشفية في روسيا والتي اوصلت الشيوعيين الي الحكم..

الماجنا كارتا أو الوثيقة المكتوبة لهذه الصفقة
– قائمة "الحقوق" التي منحها شقيق الملك ريتشاد "قلب الأسد" لنبلاء البلاط الملكي الإنجليزي ثم للشعب بعد ذلك، ووفقاً للمعايير النظرية هي ضد حقوق الإنسان؛ لأنها لا تساوي بين المواطنين وتعطي النبلاء حقوقاً تميزها على غيرها، لكنها وفقا للواقع تعد فتحاً حقوقيا
ينظم العلاقات الإنسانية وفقاً لحقوق واضحة مكتوبة يلتزم بها الجميع: النبلاء أو الصفوة و العامة، ورغم كل ما حدث من تطورات وثورات وحروب تظل الماجنا كارتا هي الاساس الحقيقي للديمقراطية.. وسبب نجاحها.. وثيقة اتفق علي بنودها الطرفان.. النبلاء او الصفوة وعامة الشعب.. يحكم علي اساسها النبلاء ويحصل من خلالها العامة علي بعض المكاسب من خلال حقهم في اختيار من يحمكهم من هؤلاء النبلاء.. من يعطيهم مكاسب أكثر يختارونه.. هكذا بكل بساطة.. والحقيقة ان العامة وافقوا علي هذه الصفقة لآنهم علي الاقل يحصلون علي بعض المكاسب والنبلاء ايضا وافقوا لان هذه الصفقة
جنبتهم الثورات الشعبية التي كانت تحدث من وقت لآخر وتطيح برقاب بعضهم..

هذه هي حقيقة الديمقراطية بدون رتوش ولا ماكياج فلسفي او ثقافي.. وهذا هو السبب الحقيقي لنجاحها.. حصول العامة علي بعض المكاسب كان حصولهم عليها في اي نظام حكم آخر غير مضمون ويتوقف علي الحاكم الفرد..أن كان انسانا عادلا حصلوا علي بعضها.. ولكن مثل هذا الحاكم
كان دائما يمثل الاستثناء وليس القاعدة.

الذي تغير عبر هذه القرون فقط هو تعريف الصفوة.. وليست الصفقة في حد ذاتها.. فهذه الصفوة كانت تمثل في الماضي طبقة النبلاء من الاقطاعيين وملاك الاراضي والذين توارثوا امتيازاتهم بالنسب.. رغم أن بدايتهم بدأت عندما تكونت طبقة السادة والعبيد.. السيد اصبح سيدا لأنه كان مستعدا ان يجازف بحياته لأثبات تفوقه وسيادته علي الآخرين ومن نجي من الموت في هذه المجازفة اصبح سيدا واستمد قوته هو ونسله فيما بعد من عبيده.. وهم للأسف نسل من تغلبت عليه غريزة البقاء فآثر الحياة والبقاء تابعا علي الموت في معركة اثبات الذات..

ومع الوقت والثورة الصناعية تطورت طبقة النبلاء من ملاك الاراضي الي الطبقة البورجوازية التي تملك المال ووسائل الاعلام والتي يخرج منها المتنافسين علي الحكم في هذا النظام..

ولكن في نفس الوقت حدث تغيير هام في تعريف من هم الصفوة الذين يحق لهم التنافس علي مقعد الحكم في المنظومة الديمقراطية.. حدث هذا التغيير بسبب الثورات الشعبية خارج الحزام الانجلوساكسوني والذي لم تجيد فيه طبقة النبلاء قواعد اللعبة.. وبسبب كتابات صفوة من المفكرين والفلاسفة من اتجاهات مختلفة امثال فولتير وجان جاك روسو وهيجل وماركس وانجلز ونيتشة..

اصبح تعريف الصفوة الاساسي هو هؤلاء الاشخاص الذين يملكون ملكات شخصية خاصة (كاريزما ) وقدرة علي اقناع وقيادة الجماهير وركوب الموجة في لحظة ارتفاعها.. صفوة تكونت من خلال ثورات العامة في فرنسا وروسيا والمانيا.. ووجدنا نابليون يصل الي الحكم وليس منظري الثورة الفرنسية ولينين وليس منظري الشيوعية من عينة ماركس.. وهتلر وليس نيتشة صاحب فلسفة القوة والانسان السوبر..

وهنا اثبتت البورجوازية ذات الاصل الانجلوساكسوني مرة أخري قدرتها البراجماتية وقدرتها علي التطور ووعت الدرس جيدا.. فاصبحت تتبني هؤلاء النوعية من الصفوة والذين تطور اسمهم الي الساسة ومن خلال تكوين الاحزاب التي تفرز هؤلاء الساسة.. ليصبحوا هم واجهة الطبقة البورجوازية التي تتنافس علي الحكم.. الساسة اصبحوا هم ممثلين النبلاء الذين كانوا يتنافسون علي الحكم.. اصبح من يحكم هم تاتشر او بلير.. كلينتون او ريجان.. وهم في الحقية مجرد واجهة لطبقة النبلاء القديمة.. وهم يتنافسون فيما بينهم علي الحصول علي اختيار العامة لهم مقابل أعطائهم مكاسب اكثر والشعب راضي بقواعد اللعبة.. لأن البديل هو نظم قد ترفع شعارات براقة وجميلة تصب في مصلحة الرعاع... ولكن تظل الحقيقة كما هي الصفوة هم من يحكمون وهم من يحصلون علي الجزء الاكبر من الكعكة وان لم تكون هناك اصول للعبة كما هو الحال في الديمقراطية يترك فيها السادة جزءا من الكعكة للرعاع.. فقد لا يحصلون
منها علي شيء..

والصفوة البورجوازية كانت من الذكاء انها وضعت قواعد اكثر للعبة تضمن من خلالها الا يتسلط عليها الساسة وهو عدم بقاء اي منهم في الحكم مدة طويلة حتي لا يقلب الطاولة علي رؤوسهم.. ويخرج منهم من هو مثل لينين او هتلر
أو عبد الناصر او صدام.. وضعوا قواعد لها اسمها الدستور.. ليحمي هذه الصفقة القانون المستمد من هذا الدستور.. كما يحمي هذا الدستور وبالتالي الصفقة القوات المسلحة وأخراجها من حلبة الصراع مقابل الحصول علي مكاسب حارس الامن..

هذه هي حقيقة الديمقراطية.. وحقيقة سبب نجاحها.. وحقيقة انها رغم كل شيء اقل نظم الحكم شرا.. انها صفقة قديمة بين النبلاء والعامة تتطورت مع الزمن الي صورتها الحالية.. صفقة يحكم فيها الصفوة باختيار العامة مقابل التنازل لهم عن بعض المكاسب..

صفقة اخترعتها الثقافة الانجلوساكسونية وطورتها الي صورتها الحالية ومن خلالها ولمدة قرون طويلة سيطرت علي العالم من خلالها الامبراطورية البريطانيته ثم ابنتها الشرعية الولايات المتحدة في القرن الماضي والحالي.. وهي صفقة ستبدو هي المسيطرة لوقت طويل لرضي طرفي الصراع الدائم منذ بدء التاريخ علي نتائجها.. صراع السادة والعبيد....

أن الحقيقة يا سادة أن من يحكم وسيظل يحكم هم الصفوة.. حكموا في كل نظم الحكم التي عرفتها الشرية.. ولكن ما يجعل الديمقراطية هي اقل هذه النظم شرا.. هو ان هؤلاء السادة وافقوا في لعبتها ان يتنازلوا لنا نحن العامة علي بعض المكاسب في مقابل ان نشارك في لعبة اختيار من يحكمنا منهم..

يؤسفني قول الحقيقة التي قد لاترضي من يعتبرونني زميلا لهم من الليبراليين.. وأؤكد لهم و أطمئنهم في نفس الوقت انني لا اري منافسا للديمقراطية في المستقبل المنظور..

د. عمرو اسماعيل

[email protected]