الإنتخابات الحرة تؤسس لمجتمعات ديمقراطية، شوكة في حلق أنظمة الإستبداد!!

الإنتخابات الديمقراطية النزيهة مطلب جماهيري وشعبي لدى كافة شعوب العالم، ويصبح هذا المطلب اكثر إلحاحا لدى الشعوب العربية، التي أبتليت طوال العقود الستة الماضية التي هي عمر زمن ما أطلق عليه ( الإستقلال العرب )، بأنظمة قمعية متسلطة، وصلت كلها للسلطة إما عبر وراثة ملكية رجعية متخلفة، أو عبر إنقلابات عسكرية وصلت للسلطة عبر البندقية والدبابة، ولم يضمن نجاتها من إنقلابات مماثلة، سوى الإعتماد على القمع والإرهاب، مما جعل عدد السجون في اغلب الأقطار العربية، أكثر من عدد المستشفيات أو دور حضانة الأطفال، واستمر عبرهذا القمع والقتل كل من وصلوا إلى السلطة، ممسكين بالسلطة حتى الموت، كما في مثال جمال عبد الناصر وحافظ الأسد وأنور السادات، أو لحين التخلص منهم عبر الإستعانة بقوى خارجية كما في حالة الديكتاتور الطاغية صدام حسين، وبدون العاملين السابقين، مازال طغاة آخرين في السلطة: القذافي من عام 1968، وحسني مبارك من عام 1981، وعلي عبدالله صالح من عام 1987 وباقي الطغاة والمستبدين في كافة الأقطار العربية، الذين لجأوا في العقود الأخيرة من القرن الماضي إلى إنتخابات شكلية، تشرف على تزويرها مسبقا أجهزة مخابراتها، فإذا الرئيس اللامفدى، يحوز دوما على تسعة وتسعين بالمائة من أصوات الجمهور المقهور...ولم يكتف الطاغية صدام بهذه النسبة، ففي آخر إنتخابات ديكورية نظمها في العراق قبل شهور من سقوطه، جعل المزورون نتيجتها مائة بالمائة، وكأنه في يوم الإنتخابات لم يمرض أو يتغيب أو يموت أي مواطن عراقي.
على ضوء هذا الواقع الإستبدادي،و بعد أسابيع قليلة من الإنتخابات الفلسطينية الذي شهد العالم بنزاهتها، وصعدت لأول مرة في التاريخ الفلسطيني، رئيسا منتخبا بشكل مباشر من الشعب، تجيء الإنتخابات العراقية القادمة محطة ونقلة نوعية في تاريخ الشعب العراقي والمنطقة العربية، لأنه في ظل الواقع العراقي الجديد، لا مجال مطلقا لتزوير أية إنتخابات بأي شكل من الأشكال، بد ليل مساحات الحرية الهائلة المتاحة لكافة القوائم وسط دعوات البعض لمقاطعة هذه الإنتخابات دون أن يلتحقوا بموتى المقابر الجماعية، ويكفي السؤال : من يكان يجرؤ في زمن الطاغية صدام، أن يهمس داخل جدران بيته بمقاطعة الإنتخابات؟؟. لذلك فإنه من المهم إغناء تجربة الإنتخابات العراقية هذه بدراسات عديدة، منطقية وموضوعية، لأن هذه التجربة حتما ستترك بصماتها في المسيرة الديمقراطية التي بدأت رياحها تهب على الأنظمة القمعية، وتحاول الإلتفاف عليها بإصلاحات شكلية، لا تمس واقع ظلمها وتسلطها....

أولا : مدى تأثير الإنتخابات وتداعيات نتائجها على الوضع الأمني في العراق.

أعتقد أن إجراء الإنتخابات في موعدها المقرر، أصبح تحديا علنيا ومكشوفا بين الشرعية الشعبية العراقية والقوى التي تضررت من تحرير العراق من النظام الديكتاتوري، وهي غالبية القوى التي تدير العمليات الإرهابية والإجرامية في العراق الآن، مستعملين زورا إسم ( المقاومة )، قافزين على أن الغالبية العظمى من هذه العمليات تطال الشعب العراقي وبنيته التحتية من مؤسسات عامة ونفط وكهرباء وشرطة وأمن وطني. لذلك فإن نجاح الإنتخابات، يعني قيام حكومة وبرلمان شرعيين عبر إرادة شعبية، وهذا سيفقد القوى الإرهابية أية حجج وتبريرات لجرائمها، فحكومة وبرلمان منتخبان مباشرة من الشعب، يعطي الحكومة الحق في مطاردة وقتال هذه القوى الإرهابية بغطاء شعبي ديمقراطي، وهذا من شأنه إستتباب الأمن والإستقرار بعد عملية الإنتخابات، أيا كانت الفترة الزمنية التي ستسغرقها محاولات القضاء على هذه القوى. وهذا الوضع المتوقع هو ما يفسر ذعر هذه القوى الإرهابية و تصعيدها لعمليات القتل والتخريب بشكل عشوائي، طال كل القوميات والطوائف في العراق، وهو ما يفسر تركيز العديد من عمليات الإجرام على المراكز الإنتخابية، وإطلاق التهديدات ضد اللجان الإنتخابية ومن سيتوجهون لصناديق الإقتراع...ومن المهم التأشير على أن بعض دول الجوار العراقي، خاصة سورية وإيران، لايريحها إستقرار الأمن وقيام نظام ديمقراطي منتخب في العراق، لأن هذا من شأنه أن يكشف خطايا وجرائم هذه الأنظمة الديكتاتورية الشمولية التي إرتكبت في حق شعوبها جرائم لا تختلف عن جرائم الديكتاتور صدام، وبالتالي فمن الطببيعي أن تسعى هذه الدول لدعم القوى الإرهابية داخل العراق.

ثانيا : مدى تأثير نتائج الإنتخابات على وحدة العراق الوطنية والفتنة الطائفية

هذا التخوف من نتائج الإنتخابات العراقية، يقع تفاديه على كاهل الشعب العراقي ومسؤوليته، عبر الإقرار بجملة من الحقائق، من أهمها :

1. إن نسيج المجتمع العراقي، يتشكل من قوميتين أساسيتين، هما القومية العربية و القومية الكوردية، ولم يعد هناك أية فرصة لقومية كي تضطهد القومية الأخرى أو تصادر حقوقها، وكافة مبادىء حقوق الإنسان، والشرائع الأرضية والسماوية، ومنها الإسلام الذي يدين به غالبية القوميتين العربية والكوردية، حيث ( الناس سواسية كأسنان المشط ) و ( لا فضل لعربي على اعجمي إلا بالتقوى).
وفيما يتعلق بمطلب ( الفيدرالية ) الذي تتبناه وتطالب به القومية الكوردية، فهو مطلب إنساني ودستوري، مارسته العديد من الدول التي تتألف من قوميات مختلفة، وحقق في تلك الدول تقدما وحضارة وتعايشا سلميا إنسانيا بين القوميات المختلفة، إلى الحد الذي ذابت الفوارق بين القوميات بشكل مدهش، كما في التجربتين الكندية والسويسرية، والكل يعرف أن هذين البلدين من أرقى دول العالم تطورا وتقدما بعد تطبيق النظام الفيدرالي بين القوميات المختلفة منذ مايزيد على نصف قرن. لذلك فلا خوف مطلقا على الوحدة الوطنية العراقية بعد الإقرار السلمي الدستوري القانوني للنظام الفيدرالي.

2. إن القومية العربية في العراق تتشكل في غالبيتها من المسلمين الشيعة والسنة وبعض الطوائف الأخرى كالمسيحيين وغيرهم من الطوائف،وعندما يترسخ حقيقة لدى الجميع أن الإنتماء للوطن فقط، وليس المذهب أو الطائفة، عندئذ لايهم المواطن العراقي ولن يسأل إن كان ذلك المسؤول سنيا أم شيعيا أم مسيحيا أم إيزيديا أم أشوريا أم...أم...وعندئذ كذلك لايهم لمن تكون الأغلبية في الحكومة او البرلمان أو الجيش...إلخ....إن المسألة لها علاقة مباشرة بنسبة التطور الحضاري والتسامح الإنساني لدى البشر، ومن المهم ملاحظة أن أوربا التي شهدت في منتصف القرن التاسع عشر العديد من الفتن الطائفية بين الكاثوليك والبروتستانت، ولكن الإيمان بالإنتماء للوطن فقط، أفرز تطورا حضاريا، لم يعد معه المواطن الأوربي يعرف ولا يسأل إن كان رئيسه كاثوليكيا أم بروتستانيا أم أرثودكسيا...لذلك فإن الكرة في ملعب الشعب العراقي، فهو من سيقرر : هل الإنتماء للوطن أم المذهب، فإن كان الإنتماء للوطن، فلا يهم إن كان الرئيس أم غالبية البرلمان من السنة أم الشيعة أم المسيحين أم من أتباع مذهب آخر. المعضلة التي تحتاج إلى جرأة ومواجهة في السؤال والطرح تتلخص في أن المواطن العراقي، يطالب بالديمقراطية الحقيقية، عبر الإنتخابات الحرة النزيهة، وفجأة يتدارك البعض، فيقول : ولكن الإنتخابات ستفرز أغلبية شيعية في البرلمان وكافة مراكز الدولة، لأن الشيعة هم الأغلبية العربية !!!. والجواب : لم لا ؟. فلتكن الأغلبية من أتباع أي مذهب طالما الإنتماء للوطن..فالسني والشيعي والمسيحي، كلهم أبناء هذا الوطن...وعبر معايشتي للشعب العراقي وعملي في العراق سنوات عدة، أستطيع القول، أن الشعب العراقي في غالبيته المطلقة، شعب غير طائفي في إسلامه وغير متعصب، وكل مابرز على السطح عقب سقوط الطاغية، سببه تعصب بعض القيادات الدينية، التي تدرك أن إستمرار هيمنتها وإمتيازاتها لا يستمر إلا بتزعم الطائفة، وبالتالي فإن ممارساتهم ونوعية تثقيفهم تصب في إثارة النزعات الطائفية...

ثالثا: مدى تأثير الإنتخابات على الوضع الإحتلالي للعراق سلبا أم إيجابا

الإحتلال الأمريكي للعراق، إحتلال إعترفت به الأمم المتحدة، وهذا يعني أنه إحتلال لابد من أن يزول وينتهي ويرحل...فهو مختلف تماما عن الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين..ألإحتلال الإسرائيلي إستيطاني إقتلاعي..إقتلع وطرد شعبا من وطنه التاريخي، ووطّن محله شعبا آخر، معلنا عن دولة جديدة هي دولة إسرائيل، نالت حتى الآن إعتراف الغالبية العظمى من دول وشعوب العالم، بمن فيهم الشعب والسلطة الفلسطينية التي إعترفت بدولة إسرائيل ضمن حدود عام 1967، أي على مساحة ثمانين بالمائة من فلسطين، وأقصى طموحات الشعب الفلسطيني، هي دولة فلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية، أي على مساحة عشرين بالمائة من فلسطين التاريخية...أما الإحتلال الأمريكي فهو إحتلال مؤقت جاء ضمن ظروف وصراعات وموازين دولية، فأنهى نظام الطاغية الذي كان أساسا من أهم عملاء الولايات المتحدة في المنطقة، وعندما تبدلت الأدوار تم التخلي عنه وإسقاطه، وبعد تحقيق هذا الهدف، وإستقرار الأوضاع في العراق، لن يكون هناك أي سبب أو مصلحة أمريكية للبقاء في العراق..البعض يقول جهلا، أن الأمريكان سيبقون للمحافظة على نهب نفط العراق..هذه مقولات لا تنطلي على طلاب المرحلة المتوسطة، فلم يعد في القرن الحادي والعشرين شيء إسمه نهب ثروة شعب من شعب آخر، هناط ضمان للمصالح النفطية، وفي زمن القائد الضرورة، من كان المتحكم في إستخراج النفط العراقي وشرائه حسب الأسعار العالمية ؟. إنهم الأمريكان والدول الغربية وتحديدا فرنسا وبريطانيا. إن النفط ليس ملكا للدولة التي يوجد النفط في أعماق أراضيها وحدها، إنه ملك لها وللدول التي تستخرجه من باطن الأرض وتشتريه...لذلك فإن إجراء الإنتخابات العراقية من شأنه إفراز حكومة وبرلمان منتخبين من الشعب العراقي مباشرة، وهذا يعني عند الشعوب المتحضرة بداية للآمن والإستقرار والتفرغ للبناء والتعمير، وعندئذ لن يكون هناك سبب أو رغبة لإستمرار الإحتلال الأمريكي، فهو حتما سيرحل، وهو ضامن لمصالحه النفطية، ولكن حسب الأسعار الدولية وليس نهبا وسرقة، فهذا من غير المعقول ولا المسموح به في القرن الحادي والعشرين، وما لا تستطيعه ولا ترغب فيه الولايات المتحدة الأمريكية. إن إجراء الإنتخابات في موعدها والإلتزام الديمقراطي بنتائجها من شأنه أن يعجل من رحيل قوات الإحتلال الأمريكي...وتبقى مفارقة عربية مضحكة، فالجماعات العربية التي ترفض الإنتخابات العراقية، تؤيد الإنتخابات الفلسطينية تحت الإحتلال الإسرائيلي رغم علمها بالفارق بين الإحتلالين الذي بينّاه..وهذا يعني أنها تستعمل مسألة الإحتلال لتعطيل الإنتخابات، وذلك يعني تأجيل رحيل الإحتلال...ولكن هذه الجماعات لايهمها هذا...إن ما يهمها هو إستمرار الذرائع التي تؤمن مصالحها وإمتيازاتها، وبالتالي فهي من يؤجج الصراع الطائفي وليس الإحتلال...ويبقى الأمل في عموم الشعب العراقي للخروج عن طاعة القيادات الطائفية، لتجذير الإنتماء للعراق وليس للمذهب !!.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني، مقيم في أوسلو [email protected]