يسود الركود في البنى والأحزاب والمؤسسات الاجتماعية، والضعف الوظيفي للأحزاب والمؤسسات الاجتماعية المترهلة والمعمرة لفترة طويلة من دون تجديد في بنيانها وفكرهها في سورية. ويهيمن الانحطاط والبيروقراطية على صعيد الجهاز العام، والتوقف عن تحقيق الوظائف الأولية، ويتجلى ذلك في ضعف مراقبة ومحاسبة منتهكي القواعد الاجتماعية والتنظيمية، وسيادة حالة عامة أقرب ما تكون إلى اللامسؤولية، وازدياد الهوة بين الفقراء والأغنياء، واستشراء الفساد والرشوة، والاستخدام غير النزيه للسلطة، ونهب الملكية العامة، وملكية الدولة بمختلف الطرق والأساليب، ويترافق ذلك مع تراقص القادة النقابيين والحزبيين وجهاز المراقبة حول الإدارات لتغطية سلوكها، بما يضمن المكاسب والمصالح الشخصية.
بالأمس القريب، بغداد سقطت. اليوم، بغداد تحت الحصار، وليس للتفاح الاسرائيلي إلا أن يلقى أفواها أكلة في دمشق، إذ اعتبرت السيدة "بشرى كنفاني" مديرة دائرة الإعلام الخارجي في وزارة الخارجية السورية أن الإعلام الإسرائيلي لم يطرح الحقيقة كما هي، وهي أن التفاح الجولاني يتعرض للكساد والتلف وهي بذلك، أي سورية، تقدم مساعدة لأبناء شعبها. إنما وللحقيقة تتمة أيتها السيدة، فمن يخرج سورية اليوم من التصريحات اليومية لوزير الخارجية "الإسرئيلي" سيلفان شالوم عندما يقول أن هناك 10 دول عربية جاهزة للتعامل معنا "أي إسرائيل" وأنها تلقت تطمينات من أن العلاقة ستتطور في المستقبل، ومن بينها 5 دول خليجية بالإضافة إلى ليبيا وتونس ودول لم يسمها. فهل كل ما يأتي به التاريخ صدفة؟ وللحقيقة تتمة ونضيف إلى ذلك، ما قد بادر إليه الرئيس السوري من نيته الجلوس على طاولة المفاوضات "وحتى من دون شروط مسبقة"، وأنه جاد في السلام وحتى إن كان "استراتيجيا وعادلا"، ولن يغب عن بالنا اللعب على أوراق الحركات الفلسطينية المقاومة المقيمة قسرا في سورية كما في لبنان. إن ما نراه اليوم، من تراخ وانزلاق في سقف الخطاب الوطني السوري داخليا وخارجيا، لهو إرهاصات لسقوط أخر الجدران العربية في وجه الطوق "الإسرائيلي"، على المستوى السياسي والتجاري، أفليس بالأجدر أيتها السيدة "بشرى كنفاني" أن تقوم سورية بإرسال معونات مالية للتعويض على المزارعين الجولانيين من دون حاجة لأن يصدر التفاح المسمى سوريا إليكم تحت كل العناوين؟ وهل أنكم دخلتم عصر الزوايا اللبنانية، وعصر الشرنقة اللبنانية بكل تكتيكاتها، إذ عندما شرع مجلس النواب اللبناني إستيراد التفاح "الجزيني" لصالح الجيش اللبناني كنتم تعرفون مسبقا أنه من إنتاج "إسرائيلي" وان الكميات المصدرة إلى لبنان كانت أكثر بكثير من تلك المنتجة في جزين، وأن الكميات المصدرة من جزين إلى لبنان كانت تأتي عبر عملاء الطوائف "الوطنية" ورؤسائها المعروفين بالأسماء وتحت كل العناوين "الوطنية" وبمباركة سيادية، أما اليوم فأين تفاح جزين؟ وأين مأسي المزارعين في جزين؟ فهل انتهت مشكلة التفاح الجزيني لتبدأ في الجولان السوري، وأي عصر هو الذي يعيد "حواء" إلى الوراء، إلى خطيئة لا تحمد نتائجها؟ حواء الأبية بأهلها، الصامدة الموعودة بنصر لا مفر منه، مهما طال زمن الظلم والظالمين.
لكم هو جميل عندما تصرح السيدة "بشرى كنفاني" بثقة تامة: "إن سورية وافقت عبر مكتب الممثل المقيم للأمم المتحدة بدمشق (UNDP)، على الطلب مشترطة أن يصل تفاح الجولان إلى سورية عبر نقط الحدود السورية ـ الأردنية، غير أن إسرائيل رفضت هذا الشرط السوري، وفي وقت من الأوقات اقترحت سورية على الأردن الذي يستورد عادةً التفاح من سورية، أن يشتري تفاح المزارعين السوريين في الجولان ويحسم الكمية التي يشتريها منهم من مشترياته من سورية، إلا أن الاقتراح السوري لسبب أو آخر، لم يلق تجاوباً". إن تاكيدا سوريا على أن صفقة الشراء ستتم عن طريق الأمم المتحدة وليس مباشرة من إسرائيل لا يخفف من هول الكارثة على الذين لا زالوا يغطون عيوب النظام السوري وكل الجبهات التقدمية تحت ذرائع الأمن الإستراتيجي، التصدي الإستراتيجي، والسلام الإستراتيجي. إن وزير الحرب الإسرائيلي "شاؤول موفاز" قد صرح مباشرة "إننا سمحنا ببيع سوريا 15 ألف طن من التفاح الإسرائيلي بناء لطلبها، إنها أول صفقة رسمية تجارية بين البلدين، والأمور تسير بشكل جيد".
إن أبسط ما يمكن أن يسمى السقوط الممنهج للنظام - الدولة، وربما قريبا للثقافة الوطنية أو ما يسمى "المجتمع" بدأت تظهر بوادره السياسية في مدلولات وأحداث على الصعيدين الداخلي والخارجي، إذ كانت أحداث "القامشلي" القشة التي قسمت ظهر البعير، وأظهرت الهشاشة في التعاطي مع مواطنين لم تتصالح معهم الجمهورية العربية السورية منذ قانون الإحصاء العنصري عام 1962 وذيوله، وما ترتب عنه من إجراءات و ممارسات أفقدت الآلاف من أبناء سورية من الأكراد جنسيتهم السورية، هو أحد هذه السياسات الساقطة، والتي لا تحظى بأي شرعية قانونية أو أخلاقية. فقد أدت سياسة التبعيث وبناء الجيل العقائدي إلى تضخم عدد أعضائه، حتى وصل إلى مليون وربع المليون عضوا عام ً(2001)، وارتباطاً مع علاقته المشرعنة بقيادة الدولة والمجتمع، فلم ينتج عن ذلك امتصاص الحقل السياسي للمجتمع المفتت، بل نقل صراعات ذلك الحقل إلى داخله، على الرغم من تجليها بأشكال مختلفة، كالجهوية والمناطقية والطائفية ومراكز القوى والزعامات (تنظيم النقباء، مشكلة رفعت الأسد). وبالإضافة إلى عدم تجدد دورة الحياة الداخلية للحزب وتوقف مؤتمراته القطرية لمدة خمسة عشر عاماً، منذ مؤتمره لعام 1985 الأمر الذي كرّس استمرار القيادة القطرية لنفس المدة ووزارة الزعبي لثلاثة عشر عاما.
ضف أكثر من ذلك، لا زالت السجون السورية تزخر بالكثير من السجناء السوريين وحتى العرب ممن قضوا 34 عاما وراء قضبانه (رغم إغلاق سجن المزة الشهير)، ففي كل مرة تتعرض سورية لضغط خارجي يصدرعفو رئاسي عن مجموعة من القتلة والمجرمين بالإضافة لبعض المساجين السياسيين، وذلك بعد صفقة معهم يتعهدون من خلالها بعدم ذكر أسماء الجلادين، طرائق التعذيب، وكيفية توقيفهم (هذا لم ينطبق على السجين أكثم نعيسة، ولا على الضابط السجين منذ 34 عاما فرحان الزعبي). السؤال المقلق هو لماذا لا يصدر العفو لمرة واحدة عن كل السجناء السياسيين بلا إستثناء، بدون مناسبات، وبلا أعياد؟ ولماذا لا يبادر الرئيس السوري د. بشار الأسد إلى إطلاق التعددية الحزبية خارج الجبهة التقدمية التي لم تتطور منذ تأسيسها ولا يجمع بين الأحزاب المشاركة فيها سوى خطابا خشبيا يصاغ بلغة واحدة وذات رسالة خالدة في نومها العميق، وبتزايد الإنقساميين المنضوين في قيادة الدولة والمجتمع.
إن سورية تحتاج إلى قانون أحزاب ينظم العمل السياسي في البلاد، ولكن القلق موجود في محتوى أي قانون، فهل يمكن أن يكون قريبا من قانون المطبوعات وبالتالي يتحول إلى سلاح من الممكن ان يستخدم لإنزال العقوبات ضد النشطاء السياسيين مثلا؟ إذا قسنا على قانون المطبوعات الذي صدر قبل أكثر من ثلاث سنوات (وهو آية من آيات الاعتباط والتحكم، وصفه بعض الناشطين بأنه قانون عقوبات...) فإن المفارقة التي يرجح أن تسم قانون الأحزاب المنتظر، هي أن الواقع القائم أرحم وأعدل وأحكم من القانون المتوقع، فـالواقع يعترف بأحزاب مستقلة ومعارضة. أي مشكلة سيسوّي قانون الأحزاب إذاً؟ أي حل وسط سيقترح للمسألة السياسية السورية؟ فالبعض يرى وجوب خلق مناخات من الحرية قبل وجود قانون الأحزاب بما في ذلك رفع قانون الطوارئ والأحكام العرفية، ونلفت إلى قضية تعانيها سورية وتتفرد بها بشكل منذ عقود، وهي أنه مع استمرار العمل بقانون الطوارئ لفترة طويلة أصبحت العلاقة بين المواطن والقانون علاقة ضعيفة يحكمها الشك وانعدام الثقة التامة، فالمؤسسات التنفيذية حاضرة دائما للتدخل في أي قانون، وعلى حساب القانون. والجدير ذكره، أنه عندما أناخت الهزيمة بثقلها على العالم العربي، تفاقمت التناقضات داخل البعث بشقه السوري، فيما عرف بأزمة الحزب؛ التي حاول المؤتمر القومي العاشر (1968) ودورته الاستثنائية (1970) الالتفاف عليها وأدت حصيلة الصراع بين أطرافها إلى قيام الحركة التصحيحية في 16 تشرين الثاني (1970) بقيادة اللواء حافظ الأسد، وبذلك دخل البعث السوري مرحلة جديدة. وبعد أيام من حركته، شكّل حافظ الأسد حكومة وحدة وطنية، بدأت بتطبيق سياسة تضامن عربي وعززت التعاون مع الإتحاد السوفياتي، إذ حاول أيضا إخراج الحزب من عزلته باتجاه المدن فشكل منظمة الجماهير، وضاعف عدد أعضائه العاملين نحو ثلاث مرات حتى عام (1974)، وسرعان ما تكرّست زعامتة في المؤتمرين القطري الخامس والقومي الحادي عشر (1971)، فسمي قائداً للمسيرة، وأصبح رئيساً في الاستفتاء العام (1972)، واستكمل التركيب الجديد للمؤسسات السياسية في جبهة وطنية تقدمية ملحقة ومجلس شعب وأخيراً في دستور دائم، كرّس فيه الحزب قائداً للدولة والمجتمع. وعلى الرغم من محاولته المركبة في هذه الأنماط، أن تكون وسطاً ما بين النسق التعددي ـ الليبرالي وبين النسق الأحادي ـ الحزبي، فقد أخذ حكمه طابعاً شخصياً، نظراً لمحافظته على تركيز وتكثيف هائل للقوى في المركز، وكان في النهاية وحده صاحب القرار. إذا المراقب يقول، ثمة تسوية يجب أن تحدث ما بين فاعلين سياسيين وقوى اجتماعية مستقلة، فكانت المحصلة: المنطق الرسمي لا يعترف بالواقع، والمنطق الواقعي لا يبالي بالقانون الرسمي.
اليوم، إني أرى أنه لمن الأجدى طرح قانون بين جميع القوى السياسية لتشارك في بناء العقد الإجتماعي على قاعدة التعدد، فما هو الضير من أن يكون لطرف واحد موقف إيديولوجي سلبي من موضوع التعددية، إنها التعددية الديمقراطية بحد ذاتها؟ إنه لمن المستحيل إحياء مجتمع غيبه الطوارئ بدون قوننة الحياة العامة، الهادفة لكسر أطواق العجز البنيوي الذي وصل إليه المجتمع كعملية حراك سياسي. وفيما لو صدر مترافقا مع إلغاء قانون الطورائ، يمكن أن يكون قانون الأحزاب رافعة للعمل الديمقراطي، وبالتالي فهو سيساهم في تفتيت الكثير من الأطر الهامشية القائمة التي تحتمي بالطوارىء وبالتبعية.
إن أحد أعضاء قيادة الجبهة الوطنية التقدمية في سورية نسب للرئيس السوري د. بشار الأسد قولا مفاده: "ليس بيننا من يقول لن يكون هناك قانون أحزاب أو إننا لسنا مع قانون أحزاب، فالموضوع يمكن أن يثار ويحسم في المؤتمر الٌقادم لحزب البعث."، "المصدر: نشرة كلنا شركاء الإلكترونية، 14/10/2004". ونقول لعله ليس من قبيل افتعال المفارقات وخرق القانون الطبيعي أن نتساءل:... ولكن ما علاقة مؤتمر البعث بقانون الأحزاب؟ وكيف يمنح البعث نفسه حق التشريع لجميع السوريين فيما هو حزب بعضهم؟ ألا يفترض بالقوانين أن تصدر عن سلطة مختصصة هي السلطة التشريعية "مجلس الشعب"، وليس عن حزب لا يجلس فيه غير بعض الشعب؟ أليس تحكيم حزب البعث في شرعية الأحزاب الأخرى - المنافسة من حيث المبدأ- تصرفا تحكميا لا يستجيب لمقتضيات العدالة ولا لمنطق السياسة المدنية؟ الجواب عن السؤالين الأولين بسيط: البعث حزب ودولة، أو أن سورية دولة حزب البعث وليست دولة السوريين جميعا.
* كل الأسئلة برسم الإجابة من أجل مجد تستحقه سورية.
[email protected]
نضال القـادري، كاتب وشاعر سوري قومي إجتماعي مقيم في أوتاوا، كندا.