تناولت فى المقال السابق أهم عناصر الإصلاح السياسي المنشود، والتى تشمل تعديل الدستور المصرى وبعض القوانين وصياغة قوانين أخرى جديدة، وخصوصا المتعلقة بمباشرة الحقوق السياسية من أجل تأصيل النظام الديموقراطي، وتفعيل دور المؤسسات ودعم سيادة القانون، حماية لحقوق وحريات المواطن المصري بصفة عامة، حجر الزاوية فى تحقيق التنمية الشاملة.
أما هذا المقال فيركز على جوانب الإصلاح التى تتعلق بأوضاع المرأة والأقلية القبطية باعتبارهما الفئتين اللتين تعرضتا للتهميش المشين – بل والإستبعاد الكلي من مواقع معينة فى الحياة العامة - على مدى عقود. فعلى الرغم من أن تعداد المرأة يصل إلى نصف تعداد سكان مصر تقريبا، إلا ان نصيبها فى الوظائف العامة والتمثيل النيابى لا يعكس هذه النسبة. أما الأقباط، وإن كان تعدادهم فى حدود نسبة 15 فى المائة من التعداد العام للسكان، إلا ان وجودهم فى قطاعات كثيرة من الدولة يكاد يكون معدوما، وهذا ماسوف أتعرض له ببعض من التفصيل فى الجزء الأخير من هذا المقال.
ولكن قبل البدء فى الحديث عن السلبيات، ربما يكون من المناسب عدم تجاهل حقيقة إهتمام الدولة فى الآونة الأخيرة بأوضاع المرأة فقد بدأت حركة دفع المرأة وتشجيعها - بطرق غير تقليدية - للدخول في الحقل السياسي من خلال المجلس القومي للمرأة، والأحزاب، والمناداة بتحديد نسبة لتمثيلها في هذا القطاع وغيره، وذلك عن طريق ما يمكن أن نطلق عليه آلية "الإجراء التوكيدي" Affirmative Action، هذا بالإضافة إلى إجراء بعض التعديلات على قوانين الأحوال الشخصية وإنشاء محاكم الأسرة، وتعيين المرأة فى مركز القضاء لأول مرة فى التاريخ المصرى، بالإضافة إلى إزدياد عدد النساء الذين شغلوا مناصب فى السلك الدبلوماسى موخرا. ولا شك أن هذه كلها خطوات إيجابية رفعت عن المرأة بعض المظالم. إلا أننا وعلى الجانب الآخر، وفيما يتعلق بوضع الأقباط لم نر أية بادرة – سواء من جهة الدولة أو أحزاب المعارضة - لتحسين وضعهم الذى يتميز بالغبن الفاضح.

ملامح الرؤية الخاصة بالإصلاح السياسي المتعلق بالمرأة والأقباط
قبل الحديث عن ملامح هذه الرؤية الخاصة بالأقباط والمرأة، ينبغي أولا أن أؤكد على أن علاج تهميش هاتين الفئتين يستلزم إجراءات عملية خاصة تعالج هذا الإستبعاد علاجاً جذرياً، وتعمل على فتح قنوات المشاركة السياسية والوظائف العامة أمام هاتين الفئتين – على أساس من العدالة - بضمانات قانونية وبتدعيم ثقافي ديمقراطي جماهيري من خلال الإعلام والتعليم، حتى تتأصل الممارسة الديمقراطية بشكل طبيعي، وبالتالى نجنبها أية نكسات مستقبلة، الأمر الذي يساهم بشكل عملى ليس فقط في علاج المشاكل التي تواجهها هاتين المجموعتين، بل و في دعم الوحدة الوطنية والتنمية الإجتماعية الشاملة.
وأرى أن من أهم الإجراءات العملية اللازمة لضمان مشاركة المرأة والأقباط في العمل السياسي مايأتي:
•النص في الدستور على أن المصريين متساويين أمام القانون، ولا يميز ضد أي منهم بسبب الأصل أو الجنس أو الدين أو اللغة أو الرأي أو بسبب شخصي أو بسبب انتماء سياسي، أو لأي سبب آخر.
•النص في قانون تنظيم مباشرة الحقوق السياسية على أن قيد أسماء المواطنين في سجلات الناخبين واجب وطني. وقد يكون من الأفضل وضع هذا النص ضمن مواد الدستور، تحت الجزء الخاص بالواجبات.
•إتخاذ الإجراءات القانونية أللازمة لضمان تمثيل المرأة والأقباط في المجالس التشريعية، والمحليات، والنقابات والمناصب العامة، بشكل يتوائم مع نسبتهم العددية، مع إقرار حد أدنى لهذا التمثيل. ويمكن أن يتم ذلك عن طريق برامج "الإجراء التوكيدي" Affirmative Action، ونظام الحصة النسبية، أي.Quota
•زيادة إهتمام الأحزاب السياسية بتدريب كوادر نسائية وقبطية من خلال المشاركة في كافة المهام والمناصب الحزبية، وترشيح عدد كاف من الفئتين يتناسب ونسبتهم السكانية فى الإنتخابات العامة والمحلية، وذلك على قوائم مرشحي الأحزاب.
• بالإضافة إلى ما يقوم به المجلس القومي للمرأة من أنشطة لمساعدة المرأة على مزاولة حقوقها السياسية، على المجلس القومي لحقوق الإنسان أن يقوم بدور قيادي في التوعية الثقافية بحقوق الإنسان السياسية فيما يتعلق بالترشيح والإنتخاب، ومراقبة الحملات الإنتخابية والتأكد من إلتزامها بإحترام القانون وعدم إستخدام الشعارات الطائفية أو الإثارة الجماهيرية ضد أي مرشح. هذه مجرد جزئية مما يمكن ان يكون برنامجا قوميا للتسامح السياسي، يقوم على إحترام حق الإنسان فى التعبير والبحث العلمي، وحرية الفكر والدين والعقيدة. ولاشك في أن ممارسة كل هذه الحقوق والحريات وغيرها، دون أية عراقيل، يمثل الأساس الذي لا يمكن ان يكون بغيره أي إصلاح سياسي أو ممارسة ديمقراطية.

لماذا الحديث عن تمثيل الأقباط سياسيا بصفتهم أقباط؟
إذا كنا لا نزال نريد الحديث عن "أقباط" أ و "مشاكل أقباط" أو "هموم أقباط" أو "أي شئ له علاقة بوجود أقباط ككيان جماعي له خصائص مختلفة عن بقية المصريين "، على الأقل من الناحية الدينية؛ وإذا كنا نسعى حقاً لكفالة حقوقهم الإنسانية كأفراد وجماعة، فيجب ان يفهم الجميع ويقتنع أن علاج أي مما يواجهه الأقباط - بصفتهم هذه - لايمكن ان يبدأ إلا من خلال الإقرار بأن "الأقباط – وهم المسيحيون المصريون - يشكلون الفئة الأقل عددا من الشعب المصري ذات الأغلبية المسلمة." وكون الأقباط - فى واقع الأمر – يشكلون أقلية عددية بالنسبة للأغلبية المسلمة فى مجتمع معاصر ومتعدد الأديان، لا يعنى – نظريا - انهم ليسوا مواطنون.... إنهم مواطنون، وأقلية، وعليه فإثارة الجدل وخلق التضاد المفتعل بين الإصطلاحين، أمر غير مفهوم، ولا يخرج عن كونه مماحكة ومراوغة، لم يأت من وراءها إلا تسويف تمكين الأقباط من ممارسة حقوقهم الفردية – كمواطنين - وحقوقهم الجماعية كاملة، بشكل يحفظ لهم هويتهم الدينية والثقافية الجماعية الخاصة بهم بإعتبارهم "أقباطاً" حسب التعريف الدولي وواقعهم الإجتماعي بالنسبة للأغلبية المصرية المسلمة.
يجب أن يفهم الجميع أن هذه المماحكة، وغيرها مما إستخُدمت فيها إصطلاحات "الوحدة الوطنية" و"النسيج الإجتماعي"، كشعارات مخادعة، لم تكن إلا مجرد بعض من أدوات سياسة التسويف والتهميش، والتمييز المستمرة التي تعرض لها الأقباط، مثلما تعرضت لها المرأة، وإن كان – فى حالة المرأة - بشكل أقل حدة، وتحت دعاوي أخرى. وإعتقد أن الوقت الحالي وظروفه الدولية لا تسمح باستمرار تلك السياسة، فهي لا تساعد على الإطلاق في إقامة النظام الديمقراطي المأمول الذي يشارك فيه كل المواطنين رجالا ونساء، ومسلمين وأقباطا.
أمام الواقع الذي يعيشه الأقباط اليوم، أرى أن أية رؤية إصلاحية تتعلق بوضع الأقباط ومطالبهم من أجل المشاركة الفعلية، والإنطلاق بمصر نحو مستقبل أفضل للجميع، ينبغي أن تُقدم من الأقباط والمسلمين معاً، آخذين فى الإعتبار إتفاق هذه الرؤية المشتركة مع روح العصر وقوانين حقوق الإنسان والأقليات، دونما مماحكة كلامية تسعى إلى التعتيم على المشاكل التى يعيشها الأقباط، أو محاولة من بعض المغرضين لتجاهل حقوقهم المسلوبة.
ولكن يبقى الجزء الأكبر من المسئولية واقع على الأقباط - قبل غيرهم – إذ عليهم أن يدركوا هذه الحقيقة، أي الواقع السياسي الذى أصبحوا فيه مجردين من حق المشاركة السياسية، من خلال التمثيل النيابي وغير النيابي - وهو أحد أهم حقوق المواطنة - وبالتالي، وعلى أساس من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما تبعه من عهود وإعلانات دولية خاصة بحقوق الإنسان والأقليات، أرى أن لكل قبطي – بصفته هذه وكمواطن مصرى في ذات الوقت - الحق في الدفاع عن حقوقه الإنسانية تجاه السلطات القومية والمنظمات الدولية. فالحقوق لا تُمنح ولكنها تنتزع من مغتصبيها.

بالإضافة إلى السؤال السابق، قد يتساءل البعض، فيقول وهل يعاني الأقباط من مشكلات بسبب كونهم أقباطا؟ وهو سؤال كثيرا ما يطرحه بعض من يتصورون انهم على درجة من الزكاء النادر القادر على خداع العالم كله بما فيهم الأقباط أنفسهم!
أقول أن مثل هذا التساؤل لم يعد مقبولا اليوم، إذ أن الحديث عن مشاكل يعاني منها الأقباط بشكل خاص، موضوع قديم ومعروف. وكان الأجدر أن يكون الحديث بالأمس قبل اليوم عن حلول عملية لتلك المشاكل التي يمكن تلخيصها في شئ واحد إسمه التمييز الديني، وهو – في الواقع - صورة من صور التمييز العنصري، في جو ملبد بالتعصب ضدهم. ومع ذلك يُصر الكثيرون على القول بأن كل المصريين يواجهون مشاكل حياتية، وليس الأقباط وحدهم. وهذه حقيقة لايمكن الجدال حولها، ولكنها ليست الحقيقة كاملة، إذ أن الأقباط يُعانون من التمييز الفاضح في المسائل الآتية:
•إنعدام التمثيل النيابي بشكل ديمقراطي في المجلس التشريعي، وكل المجالس الأخري، ومن ضمنها المجالس المحلية، ومؤسسات المجتمع المدني، كالأحزاب والنقابات، والنوادى والجمعيات.
•ضعف تمثيل الأقباط في الجهاز التنفيذي للدولة، فلا تزال الوزارات الهامة والسيادية،، بالإضافة إلي منصب رئيس الوزراء، ممنوعة عن الأقباط.
•التمييز ضدهم فيما يتعلق بمزاولة شعائر دينهم، وهو ما نراه فى وضع كل العراقيل "اللاقانونية" والإدارية أمام بناء الكنائس وإصلاحها. والشئ المستجد على هذا الوضع المؤسف، أننا أصبحنا نرى، فى الآونة الأخيرة، إعتداءات متكررة على بعض الكنائس والأديرة ومؤسساتها الخيرية (خاصة خارج القاهرة) من بعض رجال الأمن والإدارة، بشكل لم تشهده مصر قبلاً. وكل ذلك يحدث بإدعاء البناء أو إجراء إصلاحات بدون ترخيص. وهي فى الواقع ممارسات تتسم بالعنف والإرهاب من البعض، في غياب قوانين وآليات وإجراءات عامة ينبغي أن تُطبق على الأقباط والمسملين عند الشروع في بناء أو إصلاح دور العبادة أو المؤسسات الإجتماعية التابعة لأى من الجماعتين، دون تفرقة.
•التمييز ضدهم في تقلد المناصب العامة والوظائف العليا فى الدولة، سواء في المؤسسات المدنية أو العسكرية أو الأمنية، ويظهر ذلك في عدم وجود أقباط يتولون مناصب محافظين، أو رؤساء مدن، أو قيادات بالجيش والشرطة، أو مديرو جامعات، أو عمداء كليات، أو مديرو إدارات أو مؤسسات عامة بشكل يترجم عن شراكتهم كمواطنين في إدارة الدولة.
•التمييز ضدهم في تقلد مناصب سفراء وقناصل وبقية رتب السلك الدبلوماسي. والملفت للنظر، أننا لا نرى أي تواجد للأقباط حتى في الدرجات الأدني للسلك الدبلوماسي، وهكذا – ومن البداية - يغلق المسئولون أمام الأقباط الباب الذي قد يسمح لهم بتبؤ المناصب الأعلى في التمثيل الدبلوماسي.
•التمييز ضدهم في مؤسسات التعليم، ويظهر ذلك فى التناقص الحاد فى عدد المدرسين بالجامعات المصرية. ويرجع ذلك إلى عدم تعيين المتفوقين منهم في وظائف المعيدين أو إختيارهم ضمن البعثات التعليمية بالخارج. التضييق عليهم في الإلتحاق ببعض الكليات مثل العسكرية و الشرطة، والتربية، وطب النساء. و هكذا، وكما يحدث - من البداية – فى السلك الدبلوماسي، يحدث أيضا فى مجال التعليم: غلق الباب الأول للسلم الوظيفي المؤدى إلي الوظائف القيادية.
•ويكاد يتكرر نفس التمييز وأسلوبه في بقية أجهزة الدولة من وزارات ومؤسسات، الأمر الذي أفرغ إدارات كثيرة من الأقباط بشكل شبه كامل، وهذا ما يظهر بوضوح كبير فى وزارات الداخلية والخارجية والإدارة المحلية والبترول. والملاحظ، وهو أمر جد خطير، وكانت له أثار سلبية في تكرار الإعتداءات على الأقباط، هو خلوّ إدارات الأمن وأقسام الشرطة من الأقباط، الأمر الذي ساهم بشكل فاضح في تجاهل الشرطة لشكاوى الأقباط، و تواطؤ بعضهم مع المعتدين، بتغطية الجرائم التي إرتكبوها ضد الأقباط.
•أن كل ممارسات التمييز التي ذكرتها، والتى لم أذكرها، وهي صادرة من أجهزة الدولة ذاتها، قد خلقت مناخاً وثقافة وأعرافاً عامة تميز ضد الأقباط بشكل أعتبرته الأغلبية أمر طبيعي، الأمر الذى يشجع قطاعات كبيرة من الأفراد على ممارسته عند التعامل مع الأقباط.
ان حل مشاكل الأقباط، فى جزء كبير منها، لا يحتاج إلا إلى توفر النيّة والإرادة لدى أصحاب القرار. فالمسألة هنا ليست إلا تنفيذ لمبادئ العدالة والمساواة التى يحتويها الدستور المصري، فى إطار سلطة صاحب القرار. هذا، بالإضافة إلى ضرورة الإلتزام بقوانين حقوق الإنسان الدولية!
نعم هناك حلول لا تأتي إلا بقرارات رئاسية. وهذا ينطبق، على سبيل المثال، على تعيين الوزراء أو السفراء، و رجال القضاء، والقيادات العسكرية والأمنية، و ماشابه ذلك. أما المسائل الأخرى المتعلقة بالوظائف الإدارية الأخرى، فهي تخضع للوائح عامة يطبقها الوزراء أو مديرو الإدارات في مصالح أو شركات، عامة أو خاصة. المطلوب هنا أن يُعامل الجميع على قدم المساواة، دون تمييز ضد أى شخص، لأى سبب، سواء كان جنس أو دين أو غيره.
ولكن الواقع، أن المفروض شئ وما يحدث شئ آخر. وهنا لابد من إتخاذ الإجراءات الكفيلة بوقف أي صورة من صور التمييز. وهذا يتطلب – كما نشاهد فى بلاد أخرى - إتخاذ إجراءات عملية Special practical measures وليست مجرد نصوص أو مؤتمرات موسمية أو مقابلات تطييب خواطر، أو ماشابه ذلك. وقد تتطلب هذه الأمور – كما سبق وقلت - إجراء تعديل في الدستور المصري حتى نوضح أمور غير واضحة في الواقع القانوني المصري. كما توجد هناك أمور لا يمكن علاجها إلا بسن قوانين جديدة، مثل إصدار قانون موحد لتنظيم بناء دور العبادة وصيانتها، وتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمعات الدينية على أسس تساوى بين الجميع في المعاملة، وتترجم نصوص دستور معاصر، والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان والإقليات، إلي واقع معاش. وبالتالي لا نترك مثل هذه الأمور وهذه العلاقة للأهواء والتفسيرات. فهذا أمر ثبت أنه مصدر مباشر للقلاقل والإحتكاكات الطائفية والعدوان على المواطنين الأقباط، منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي.

من المسئول عن القيام بعملية الإصلاح السياسي؟
عملية الإصلاح السياسي – كما قلت فى المقال السابق – يمكن أن تبدأ فكريا من مؤسسات الدولة أو بواسطة عناصر حية من المجتمع المدني. ولكن من المنطقى أنه لما كانت الأوضاع الموجودة بمصر قد وصلت إلى درجة حرجة من التعقيد، يبدو أن الكل مطالب بالمشاركة فى هذه العملية. بل أستطيع أن أقول أن مصر اليوم فى حاجة إلى دعم من المنظمات الدولية لرسم بعض السياسات وإقامة الأليات وتنفيذ البرامج اللازمة لضمان إحداث الإصلاح السياسي المنشود.
•دور الحكومـة: من الناحية النظرية، وفى البلاد الديموقراطية، هي الفاعل الأول، لأنها تحمل التفويض الرسمي بإدارة دولاب الدولة. أما إذا كانت تعوزها الحكمة أو الخبرة، فعلى مثل هذه الحكومة أن تستعين بالخبراء أو بمؤسسات من خارج إداراتها. ولكنها، فى نهاية التحليل، هى الفاعل الأول لطرح وإنجاز الإصلاح السياسي وغير السياسي، وإلا فلتذهب خارج المسرح السياسي نتيجة فشلها، ولتأت حكومة أخرى قادرة على تحقيق ما وُكلت به. هذه بديهية من بديهيات المسئولية العامة تجاه الشعب، ويجب أن نتحقق من قدرة أية حكومة على القيام بها.
•دور البيروقراطية ( المدنية والأمنية): بإعتبارها جزء من الحكومة وخاضعة لها، عليها أن تُنفذ ما تُطالب به بشأن الإصلاح السياسي، وهو موضوع الساعة. وإذا لم تقم البيروقراطية بذلك، فعلى الحكومة أن تتخذ الإجراءات اللازمة لتصحيح الأمور، حتى إذا إستلزم الأمر إتخاذ إجراءات عقابية قانونية أو إجراء عملية تطهير من فساد بيروقراطي، وإلا فستظل البيروقراطية عقبة أمام أية حركة إصلاح أو تطوير.
•دور مؤسسة القضاء: كذلك القضاء، وهو جزء من الدولة، والمفروض أنه مسئول عن حماية الحقوق ودعم دولة القانون، التي تمثل بكل تأكيد الجهاز العصبي لضبط حركة الجسم المجتمعي كله فى المجتمع المتطور والمستقر الذى نتوقعه من وراء إنجاز الإصلاح السياسي الذى نتحدث عنه اليوم. فدور القضاء أساسي وحيوي ويأتي فى المقدمة.
•المؤسسة التشريعية: فى إطار حركة الإصلاح السياسي التي نحن بصددها فى مصر، يقع على عاتق هذه المؤسسة مسئولية خطيرة لم تقم بها بشكل مرض حتى هذه اللحظة من أجل الإصلاح، وعليه ربما نحتاج إلى حلها، وإنتخاب عناصر جديدة مؤهلة لصياغة الرؤى القانونية الللازمة لعملية الإصلاح السياسي. أن ضعف أداء هذه المؤسسة يشكل عقبة كؤود تقف فى مواجهة أية عملية إصلاحية.
•دور المؤسسات الإعلامية ( المقرؤة – المسموعة – المرئية): إذا كنا نتحدث عن المؤسسات التابعة للدولة، يصبح ما قلناه فى البندين السابقين منطبقا على هذه المؤسسات. بمعنى أنه على الحكومة أن توجهها الوجهة اللازمة لإنجاز الإصلاح، لا أن تتركها على حالها عقبة فى طريقه من الناحيتين الفكرية والتنفيذية اللازمتين لتحريك كل المواطنين داخل وخارج مؤسسات الدولة. وبطبيعة الحال، نتوقع من الوسائل الإعلامية المستقلة، إذا كانت فعلا هكذا، وإن كانت على درجة من العلم والمسئولية الوطنية، أن تقوم بواجبها الوطني فى الترويج ودعم حركة الإصلاح، فهذا بلا شك فى مصلحة هذه المؤسسات أكثر من مصلحة مؤسسات الدولة الإعلامية.
•دور الأحزاب السياسية: يأتى دور الأحزاب، وإن كان من أرضية أضيق مساحة وأقل قوة من أرضية الحكومة والحزب الحاكم، إلا انه يمكن أن يكون دورا مساعدا، بل وربما ضاغطا على الحكومة من أجل إتخاذ الإجراءات اللازمة لإنجاز الإصلاح. وطبيعي أن يتطلب هذا الدور حركة قوية وسريعة من الإحزاب لزيادة عدد أعضاءها، مع طرح رؤاها وخططها (العملية) للإصلاح السياسي وغير السياسي بشكل واضح ومفصل حتى تكسب الدعم الشعبي المؤدى إلي تنشيط الحركة الحزبية برمتها، وهكذا تُحشد الجماهير المصرية للتفاعل مع حركة الإصلاح، كجزء من مشروع مصر القومي.
•دور منظمات حقوق الإنسان المصرية: وإن يكن دورها مساعدا، إلا إنه في ذات الوقت محوري، إذ يمكن أن تكون مُشاركة فى تنظير حركة الإصلاح السياسي وآلياتها، وخصوصا فيما يتعلق بتأصيل النظام الديمقراطي وتفعيل منظومة حقوق الإنسان على إطلاقها. ولا شك أن دورها التثقيفي الجماهيرى مطلوب وهام، فهي أقدر على القيام به من أى وسائل إعلامية غير متخصصة.
•دور المثقفين: يبدو أن دور المثقفين بوجه عام متواضع فى هذا الشأن، وهذا مايتضح مما يُنشر على صفحات الجرائد المصرية، إذ لا يتعدى فى غالبه الكتابات السجالية ذات الطابع العام، الخالي من الرؤية الإيجابية ذات الصلة بأسس ومتطلبات الإصلاح السياسي فى قرننا الواحد والعشرين. ومهما يكن من أمر، فهذا الوضع يضع جل المسئولية على قلة من المثقفين المعنيين بهذا الموضوع ممن لهم دراية بالعلوم السياسية وربما نجد بعضهم من أساتذه الجامعات ومراكز البحث.
•الجمعيات الأهلية و النقابات المهنية: لا شك ان دورهم على درجة من الأهمية، وخصوصا فيما يتعلق بحشد التأييد الجماهيرى – على مستوى القطر كله - لدعم حركة الإصلاح السياسي والتفاعل معها. وحتى يكون التفاعل الجماهيرى إيجابي ومُثمر، أتصور أن يكون هناك تنسيق بين منظمات حقوق الإنسان والمثقفين والجمعيات الأهلية والنقابات المهنية، والإعلام بكل صوره وإنتمائاته.
الخلاصة أن عملية الإصلاح التى تحتاجها مصر اليوم أصبحت تتطلب مشاركة الجميع، حكومة ومؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدنى بكل تشكيلاته. وإن كانت هناك بعض الأمور التي لا تحتاج إلا إلى قرارات خاصة لأنها دائما تتم بهذه الكيفية، فإن هناك أمورا أخرى تحتاج إلى تغيير في المحيط الإجتماعي السياسي حتي تنتشر ثقافة قبول الآخر وحقوق الإنسان لتدعم الممارسة فيما يتعلق بحقوق المواطنة وحقوق الإنسان بوجه عام. أضف إلى ذلك، ضرورة سن القوانين الرادعة ضد كل من ينتهك حقوق المواطن وحرياته، وهو موضوع عام يتطلب الإهتمام به عند تناول الإصلاح السياسي. ويظل نصيب المرأة والأقباط من عملية الإصلاح جزء هام، وخصوصا فى ظل الأوضاع الدولية المتعلقة بالحقوق والحريات التى لا يمكن تجاهلها. كما أن المشاركة السياسية الفاعلة لهاتين الفئتين في إدارة شئون الوطن هو أمر ضرورى لقيام النظام الديمقراطي السليم، وإحداث التنمية الإجتماعية الشاملة.
_______________
(*) رئيس المنظمة الكندية المصرية لحقوق الإنسان