في الوقت الذي يتطلع الإنسان العراقي إلى عهد جديد مختلف تماماً عما عاش من عهود الظلام والعوز والفاقة والذل على يد أنظمة سلطوية دموية حكمته بالنار والحديد منذ الحركة القاسمية التي سطت على السلطة بالقوة في عام 1958 وحتى النظام العفلقي الصدامي الذي لم يتفوق عليه في البطش إلا معلمه الأكبر ومثاله في الحياة، جوزف ستاليين، يعود إلينا الستاليون للعب بمقدرات العراق من جديد. وفي الوقت الذي يحتاج العراق إلى دم جديد في جسده العليل المتورم من كثرة الجراثيم البعثية والقومية والشيوعية التي هتكت كيانه وهدته تماماً على مدى نصف قرن من الزمان، تعود تلك الجراثيم من جديد لتخترق ذلك الجسد دون أن ينتبه إليها أحد. كل ذلك تحت عباءة الديمقراطية التي لا يؤمن بها أصلاً أي من تلك الأحزاب لأسباب أزلية معروفة، تلك هي الفكر الشمولي المطلق الذي تشترك به آيديولوجيات هذه الأحزاب، كما تشترك تماماً بفكرة وأسلوب استغلال الديمقراطية للوصول إلى السلطة ومن ثم التفرد بها عن طريق المؤامرات والتصفيات والإغتيالات والعمالة لهذه الدولة أو تلك من أجل البقاء. وأشهد أن الشيوعيين هم أبرع عصابة سياسية في التاريخ من حيث سرقة السلطة أو من حيث التكتيك في سبيل الوصول إليها. ورغم أن الشيوعيين والإسلاميين والقوميين توائم سيامية ثلاثة في أخلاقهم وسلوكهم الفكري والسياسي إلا أنهم يختلفون في نظرتهم إلى السماء. و بدون هذا الفرق جاز لهم أن يتحدوا في خانة واحدة.

وقبل أن أكشف أوراق الشيوعيين العراقيين أمام الشعب العراقي، دعوني أولاً أحدثكم عن تاريخهم الأحمر الملطخ بالدماء لا سيما دماء الكادحين الذين لا ينفك الشيوعيون يتحدثون عنهم بحب ووفاء ويدعون بأنهم هم، أي الكادحون، مادتهم الأساسية في الصراع والنضال وهدفهم الأسمى بين الأهداف!

لقد بدأت الشيوعية كقصر في الهواء، أي أنها ولدت أصلاً بلا أسس واقعية. ولكن بريقها في ذلك الوقت كان كبريق الأديان التي ترفع شعارات العدل والمساواة والحق والمحبة وما شابه من مكارم الأخلاق. ومثلما انجذب الناس إلى الأديان انجذبوا إلى الشيوعية بعد أن أنهكهم النظام الطبقي القاسي الذي كان سائداً في ذلك الوقت ولم يعد الناس قادرين على احتماله إطلاقاً. ومثل هذا الإنجذاب أمر طبيعي. فكلما زاد الفقر والجهل والتخلف كلما نمت وازدهرت بين الناس العقائد والأديان التي تتغنى بالخلاص الأعظم. فالشيوعية والدين يعتاشان في مثل تلك البؤر. ودليلي على ذلك أنهما ينحسران وينكفئان على نفسيهما في الدول ذات الإقتصاد الجيد. فإذا نظرنا إلى خارطة العالم الآن لم نجد بلداً واحداً ذا نظام شيوعي أو ديني دون أن يكون فقيراً ومتخلفاً ودكتاتورياً الناس فيه مغلوبة على أمرها فاقدة الأمل في الحياة تسعى إلى الهروب من جحيمها إلى أوربا أو أمريكا أو أستراليا أو غيرها من البلدان المرفهة التي داست على الدين من جهة ولقحت نفسها ضد الشيوعية من جهة أخرى. والسبب أن البريق الذي بهر الأبصار مرة لا يمكن أن يظل بريقاً. فلا بد أن يأتي الزمن الذي يخفت فيه ذلك البريق بعد أن يشبع الناس من الوعود الكاذبة ويقارنوا حالهم على أرض الواقع فيتساءلوا عن جدوى قصور الهواء تلك وهم يرون غيرهم من الأمم تعتلي ناصية الخلاص. وهذه هي الحقيقة التي قصمت ظهر الشيوعية في أوربا منذ أن تململت أول أمة أوربية، وهي المجر، من نير الشيوعية، فسحقها الشيوعيون بالدبابات التي أنزلت من الطائرات في الشوارع. وتبع ذلك تململ الأمة البولونية حتى انهارت الشيوعية تماماً بعد أن هدم الشباب الألماني الشرقي حائط برلين، كأكبر رمز دكتاتوري في التاريخ. أما قصص محاولات الهرب من أوربا الشيوعية إلى أوربا الغربية فكثيرة ومعروفة يشيب بعضها الرأس. وأدعو كل عراقي أن يقرأ تلك القصص أو بعضها قبل أن يتوجه إلى صندوق الإقتراع ليدلي بصوته لقائمة الشيوعيين، ثم يسأل نفسه إن كان يريد لنفسه أو لعائلته أو لأولاده مستقبلاً مشابهاَ. بل إنني أدعو كل شيوعي عراقي لأن يطلع على هذا أو يجرؤ على قراءة تاريخه ويتساءل إن كان فعلاً يريد لشعبه هذا.

ولمن لا يعرف تاريخ الشيوعية والشيوعيين هذا الموجز السريع.

بدأت الشيوعية كعقيدة وتنظيم سياسي في العقد الأخير من القرن التاسع عشر وعلى يد منظرها الأكبر لينين. كان لينين هذا شاباً متعلماً جداً ومثقفاً ثقافة موسوعية، رغم أن اختصاصه كان حقوقياً. كانت الماركسية قد بدأت تنتشر بين الناس لا سيما الشباب المتعلم، وكان لينين من أشد المعجبين بالفكر الفلسفي والإقتصادي لكارل ماركس الألماني. وبسبب نشاط لينين السياسي ودعمه للتنظيمات الماركسية نفي إلى سيبيريا عام 1897. وهناك في المنفى بين الثلوج ولدت الشيوعية التي عرفت بالماركسية اللينينية. أما الحزب الذي تأسس إثر ذلك وبعد عودة لينين من المنفى فكان اسمه(حزب العمل الروسي). وقد تغير اسمه عدة مرات حتى استقر على تسمية ( الحزب الشيوعي الروسي) عام 1918 وبعد أن تعرض إلى انقسامات ومؤامرات داخلية. وكان أشهر تلك الإنقسامات هو انشقاق التنظيم إلى بلاشفة، وتعني الأكثرية، ومناشفة، وتعني الأقلية. وقد قاد ليننين البلاشفة بنجاح سواء في الثورة التي أطاحت بالنظام القيصري المتهرئ أو في الحرب التي شنها الألمان على روسيا وانتهت بتوقيع معاهدة السلام عام 1918. كذلك تمكن لينين من انتزاع اعتراف الدول الأوربية بدولته عام 1921. وفي عام 1924 مات لينين على أثر جلطة دماغية، فخلفه لرئاسة الحزب الجزار ستالين. وكلمة ستالين تعني الرجل الفولاذي. وكان مكروهاً حتى من قبل لينين الذي سماه (الوقح) في مذكرة الإعتقال التي أصدرها بحقه. لكن ستالين لم يكن طعماً سهلاً فتمكن من المراوغة. وبمجئ ستالين إلى السلطة تكون الشيوعية قد وئدت في مهدها، وأصبحت ستالينية. لقد كان ستالين بشعاً في تعامله مع رفاقه ومع الناس. وفي خلال فترة حكمه التي امتدت حوالي ثلاثين سنة قتل من رفاقه في القيادة ومن الشعب الروسي أكثر من عشرين مليون نسمة، كان جلهم من الفلاحين الذين رفضوا نظام الجمعيات التعاونية التي جاء بها النظام الإقتصادي الجديد الذي رأوا فيه نموذجاً أتعس من النموذج الإقطاعي القيصري. وعلى أثر ذلك أصدر ستالين أوامره لقواته الخاصة بإبادة كل فلاح متمرد. وأدى ذلك إلى مجاعة كبرى لمدة عامين في طول البلاد وعرضها صار الناس خلالها يأكلون حتى أطفالهم من شدة الجوع. ولم يبق ستالين من الكوادر القيادية الشيوعية إلا مولوتف، وزير خارجيته.
لقد مارس ستالين أبشع أنواع التطهير العرقي عندما عمد بعد الحرب العالمية الثانية إلى ترحيل مليون ونصف المليون إنسان من روسيا إلى جمهوريات سيبيريا وآسيا الوسطى ترحيلاً قسرياً بهدف تغيير ديموغرافية تلك البقاع. وفيما يلي إحصائية بسيطة لجرائم هذا المجرم الذي يرى فيه الشيوعيون رمزاً لنضالهم ومثلاً أعلى في النضال:

1.تم إعدام حوالي مليون نسمة مابين العامين 1935 و 1938 وكذلك بين العامين 1945 و 1950.
2. تم ترحيل مليون ونصف المليون نسمة من الروس إلى سيبيريا وآسيا الوسطى بين العامين 1945 و 1950.
3. قام ستالين نفسه بالتوقيع على وثيقة إعدام 25 ألف و 700 بولوني بينهم 14 ألف و 700 أسير حرب.
4.قضى على حوالي 40 ألف سجين فيما يعرف ب(مذبحة المساجين).
5. قام بتصفية رفيق دربه تروتسكي في المكسيك عام 1940 بعد أن نفاه إلى هناك قبل ذلك بسنوات.
6. قام بإبادة ثمانية ملايين فلاح في مزارعهم بين العامين 1930 و1933.
7. قام بتصفية كل أعضاء القيادة الشيوعية الأصليين ولم يبق على أحد منهم على الإطلاق سوى وزير خارجيته مولوتوف، الذي أتمنى أن يطلع الجميع على مذكراته الشخصية.

فهل يحتاج المرء إلا نظرة فاحصة لكي يكتشف الشبه العظيم بين ستالين وتلميذه صدام حسين؟ أليس واضحاً جداً أن صداماً سار تماماً على نهج ستالين سواء في تسلقه الخبيث إلى السلطة أو في تصفية رفاقه القدامى جميعاً عدا طارق عزيز وعزت الدوري وطه الجزراوي الذين ضمن ولاءهم المطلق. المجازر والمقابر الجماعية والترحيل والتهجير والقسوة المتناهية والحكم بالمطلق والغدر والمراوغة والفتنة والتعذيب بلا حدود وتغيير الطوبوغرافيا والديموغرافيا، اليس تلك دروساً تعلمها صدام من معلمه الأكبر ستالين، فساد بها على العراق ثلاثين عاماً تماماً كما ساد ستالين، 1924- 1953.

وبعد أن تقاسم روزفلت وستالين أوربا والعالم بعد انهيار النازية والفاشية على يديهما أصبحت الأحزاب الشيوعية التي انتشرت في كل مكان أدوات في الحرب الباردة بين أمريكا والأتحاد السوفييتي المنحل. وصارت تلك الأحزاب بيادق وذيولاً سوفييتية في صراع القوى والإنتشار في العالم. ومن تلك الأحزاب التي تأسست في تلك الحقبة البائدة من القرن الماضي الحزب الشيوعي العراقي. وعندما زرت أوربا الشرقية في السبعينات وعشت بين الناس وسمعت همهماتهم ورأيت وجوههم التي كانت قد تحولت إلى وجوه ما يشبه الروبوتات علمت بما لا يقبل الشك أن الشيوعية في طريقها إلى الإنهيار. كان ذلك واضحاً من أسلوب الحياة اليومي. كانت الشعوب التي رأيتها شعوباً يائسة فاقدة للأمل بفعل الشيوعية وأعبائها التي لا تحصى. الفقر في كل مكان وفي كل بيت عدا بيوت الرفاق الكبار. وحدهم كان مسموحاً لهم الترف والكماليات. لم أجد في صوفيا كلها، على سبيل المثال لا الحصر، سوبرماركت واحداً. أما الشباب فكان يبحث عن إي سبيل للهجرة. ولمنعهم من الهروب بنت ألمانيا الشيوعية جدارها المشهور، جدار برلين. وما حدث بين الألمانيتين يحدث الآن وكل يوم بين الكوريتين. وإذا سألت أي إنسان بسيط في العالم عن السبب، سيقول لك الشيوعية. فلماذا يريد الشيوعيون العراقيون لبلدهم أن يكون هكذا في المستقبل؟ أم تراهم ينكرون أن ما حصل في ألمانيا وما يحصل الآن في كوريا وفي كوبا، حيث يهدد الهاربون بالقوارب إلى أمريكا حرس السواحل الأمريكان بإلقاء أطفالهم، فلذات أكبادهم، إلى البحر إن هم منعوا من الدخول إلى أمريكا، يعود إلى سبب آخر غير الشيوعية؟ أما يكفي ما فعله صدام، تلميذ ستالين النجيب في هذا الصدد؟ طبعاً ينكرون! أنا أعرف الشيوعيين جيداً. إنهم أناس غائبون عن الوعي مخدرون قافلون على أهدافهم لا يرون الصورة إلا بالمقلوب، مثلهم في ذلك مثل السلفيين المقفلين تماماً لا يسمعون ولا يرون الحياة من حولهم. ورغم أن نصف كوبا ونيكاراغوا قد انتقلتا إلى الولايات الأمريكية الجنوبية وشكلتا ثقلاً سكانياً هناك، بل وثقلاً إنتخابياً، إلا أن الشيوعيين يبقون متمسكين بأن عقيدتهم هي الأصح وهي الأجمل وأنها هي التي سوف تسود مهما حصل، شاء من شاء وأبى من أبى! ويبقى الشيوعيون يدورون حول صبيرة قطبية حمراء لم تقو على العيش حتى في أرضها. ولماذا ستنجح في العراق بعد أن فشلت في كل مكان آخر في العالم؟ بل لماذا ستنجح في العراق وهي التي فشلت فيه مرتين، وخرجت مكللة بالعار؟ عجيب أمر بعض البشر! ليس هذا وحسب بل تراهم الآن يحلمون بثلث المقاعد في البرلمان! يا للمساكين! إنهم يوشكون على الإحتفال بفوزهم بثلث المقاعد، وهم الذين لم يجدوا حتى من يتحالف معهم! بعض كتابهم يبشرون بفوز عظيم مستندين إلى استطلاع للرأي أجراه خائب آخر مناصر لقائمة السيستاني الإيرانية. وقد أظهر الإستطلاع أن القائمة الإيرانية جمعت 40 بالمائة من الأصوات تليها القائمة الشيوعية بنسبة 27 بالمشمش، عفواً بالمائة. وكان الكاتب المسكين سعيداً وواثقاً وحالماً، فراح يتحدث عن أسباب النجاح، مشيراً إلى أخلاقيات الحزب وثوابته وسمعته الرصينة وشعبيته بين الجماهير الكادحة، مؤكداً على الفلاحين الذين حصد منهم حزبه في روسيا وحدها ثمانية ملايين. لقد تعاطفت مع ذلك الحالم المسكين، لا سيما عندما تحدث عن أخلاقيات الحزب الشيوعي. وأود هنا أن أتفصل قليلاً في تلك الأخلاقيات، ولن أعمم هذه المرة بل سأقصر حديثي على أخلاقيات الحزب الشيوعي العراقي بالذات.

عندما انقض عبد الكريم قاسم على السلطة في عام 1958 إلتف الحزب الشيوعي العراقي حوله فيمن التف من الأحزاب الأخرى ومنها حزب البعث. ولأن الشيوعيين أسطوات في المؤامرة والتسلق على نهج سيدهم ستالين فقد استطاعوا أن يبلفوا عبد الكريم، وهو رجل عسكري وسياسي مراهق. وكانوا يوجهون سياسته باتجاه مصالحهم فانقض على الأحزاب الأخرى وساق عدداً من قادتهم إلى الإعدام فكانت محكمة المهداوي الكاريكاتيرية وإعدامات أم الطبول. وصاروا يحركونه كالدمية باتجاه أعدائهم فأوشك أن يغزو الكويت ثم دخل في حرب باردة مع دكتاتور آخر هو جمال عبد الناصر، الذي حرك بدوره عملاءه القوميين بقيادة عبد الوهاب الشواف آمر موقع الموصل. فقام قاسم بضرب الموصل بالطائرات وأطلق للشيوعيين العنان فيها فعاثوا فساداً في المدينة وشكلوا محكمة أهلية بقيادة رجل قصاب اسمه عبد الرحمن القصاب. وقد سحل الشيوعيون الناس الأبرياء في الشوارع وأجبروا الأهالي على الخروج إلى الشوارع للتصفيق وتشجيع السحل بما في ذلك طلاب المدارس. وكل بيت لم يعلق صورة للقائد الأوحد كان يتعرض للنهب ويقتل أهله بالفؤوس والسكاكين ثم يحرق. البعض دفن حياً في منطقة الدملماجة وآخرون صلبوا على أعمدة الكهرباء ثم القيت جثثهم للكلاب حتى أن كلاب المدينة أصبحت ذئاباً. كانوا يلفون المناديل الحمراء على رؤوسهم ويحملون الفؤوس ويدورون في الأحياء لينهبوا ويسلبوا ويقتلوا كل من شاؤوا بغير حساب. كان السحل يتم بربط الرجل من رجليه إلى سيارة نقل عسكرية فتدور به في الشوارع الرئيسية للمدينة وهو حي. كان لحمه وعظامه تتشظى في الشوارع وهو يستغيث بينما الجماهير المصطفة على جانبي الطريق ترجمه بالحجارة وتبصق عليه مرددة (عاش الزعيم عبد الكريم) دون أن يعرف أحد من الناس ما ذنبه. لم يكن لأحد ممن سحل أو علق أو دفن ذنب. كان بإمكان أي إنسان يكره إنساناً آخر أن يتهمه بالخائن فينقض عليه الشباب الشيوعي وأنصار السلام فيقتحمون بيته ويربطونه من رجله أمام عائلته ويسحلونه إلى الخارج ثم يربطونه إلى مؤخرة السيارة ويطوفون به البلد يصرخون من أعماقهم وبكل حماس وحب (ما كو مؤامرة تصير والحبال موجودة) و (لا عبد الناصر لا عبد السلام، عدنا المهداوي يحكم بالإعدام). وبقيت المدينة تنزف وتنحب وتكتم غيضها حتى دار الزمان على الشيوعيين فانقض عليهم سكان المدينة في حملة اغتيالات قرضتهم تماماً ولم يعد لهم ذكرً. وما حصل في الموصل حصل في كركوك حيث ارتكبت أولى المجازر الجماعية في تاريخ العراق الحديث على أيدي الشيوعيين الذين انتهوا هم وقاسمهم النهاية التي يستحقونها بعد أن فتحوا أبواب العراق على مصراعيه للهمجية واللصوصية وسيادة السفلة من الناس على الشرفاء منهم. وما صدام وحكمه إلا صفحة من صفحات تلك العهود المظلمة. فلماذا يسكت الناس عن القوميين والشيوعيين بعد كل الذي ذاقوه من ظلم وذل على أيديهم؟ وإذا سكت الناس فلماذا يجب أن أسكت أنا عليهم والدم يملأ فمي ورائحتهم تزكم أنفي؟

وإذا استطاعوا أن يموهوا على تاريخهم في الخمسينات و بداية الستينات فإن السبعينات ليست بعيدة. لقد كان الحزب الشيوعي العراقي الحزب الوحيد الذي وضع يده بيد النظام العفلقي الصدامي دون قيد أو شرط. واشهد أن صداماً كان يعرف عروقهم جيداً عندما قال لرفاقه في اجتماع مفتوح (ممن تخشون؟ من هؤلاء الشيوعيين الذين أستطيع أن أقشمرهم بوزارة؟) وكان له ذلك فعلاً. هكذا هم الشيوعيون بالضبط؟ عشاق سلطة بأي ثمن، حتى لو اتحدوا مع الطاغية في جبهة واحدة. وضد من كانت تلك الجبهة؟ لقد كانوا يعلمون جيداً أن جبهة صدام كانت ضد عدوه الأكبر، الشعب العراقي! ولم يكن يهمهم ذلك مادام في الأمر وزارة. ألمهم الوزارة. وأي شئ آخر ليس بذي أهمية. المهم السلطة حتى لو كانت وزارة تافهة ليس لها أهمية. المهم موطئ قدم في السلطة. بعدها المؤامرة ومن ثم إزاحة الخصم والإنفراد بالسلطة تدريجياً وفقاً لمنهجم الثابت الذي ورثوه من إلههم الأعظم ستالين الفولاذي. ولكن مع من هذه المرة يلعبون؟ مع صام حسين نفسه، ناسين أنهم يلعبون لعبة المؤامرة مع كبير مهندسي المؤامرات. فكانت نهايتهم المخزية التي يستحقونها، فخرجوا من المولد بلا حمص كالعادة تطاردهم لعنة الشعب العراقي إلى الأبد على ذلك الموقف اللاأخلاقي تجاههم. وكانت نهاية تليق بهم حيث خسروا كل شئ بما في ذلك الأخلاق التي يتبجحون بها بعد أن صار أعضاء الحزب جواسيس لصدام يكتبون التقارير عن الناس. كنا طلاباً في الجامعة وكنا نخشى أن نتحدث عن النظام أمام الشيوعيين خشيتنا من البعثيين أنفسهم. وما النكتة العراقية (الحزب الشيوعي العراقي لصاحبه حزب البعث العربي الإشتراكي) إلا دليل على كلامي، والنكات لا تأتي من فراغ. وهل تجهلون أم تتجاهلون أن الفرق الوحيد بين حزبكم وحزب البعث هو صفته القومية الشكلية؟ هل تنكرون أن عفلقاً بدأ شيوعياً ثم انتهى بعثياً بعد أن نسخ الشيوعية نسخا بائساً كتلميذ فاشل حتى في القوبيا وطلع علينا بحزب البعث ؟ أليس حزب البعث ابنا غير شرعي للشيوعية؟ وتتحدثون عن سمعتكم وأخلاقكم الراقية. فمن هو الشاعر الذي قال على كبر الصفحة الأولى من (طريق الشعب)، الجريدة الرسمية للشيوعيين العراقيين، وباللون الأحمر (كنت المهيب بأن تقرب ساعة...؟) هل كان شاعراً بعثياً أم شيخ الشعراء الشيوعيين محمد مهدي الجواهري؟ وهل يساوي أحمد حسن البكر بيت هجاء لكي يقول فيه الجواهري هذا المديح؟ أم أن مثقفيكم سيطلعون علينا كعادتهم لكي يقولوا، هو ذم بما يشبه المدح. وهل يساوي أحمد حسن البكر حذاء مواطن واحد أعدم بريئأ لكي يتقيأ علينا من أجله الجواهري.؟ هل هذه هي أخلاقكم التي تفخرون بها؟

ولأنكم عبيد سلطة، فقد خرجتم من الباب لتحاولوا الدخول من الشباك. فركبتم جبال كردستان في الثمانينات لكي تناضلوا بطريقة أخرى، ألا وهي خطف الجنود المساكين وتعذيبهم وطلب فديات تعجيزية من أهلهم وذويهم. لقد حدثني مضمد مسكين طيب من عشيرة العبيد في الحويجة كيف خطفه الأكراد على الطريق مابين الدبس وكركوك. ثم أراني جسده الذي تحول إلى منفضة للسكاير. وعندما سألته إن كان الأكراد هم من فعلوا به ذلك أجابني بأنه، على العكس، فقد أوشك الأكراد أن يطلقوا سراحه بعد أن رأوا فيه عربياً يتحدث الكردية. وقال إن الشيوعيين هم الذين عذبوه بتلك الطريقة البشعة رغم أنه لم يكن عسكرياً. وهم الذين فرضوا على أهله فدية مقدارها عشرة آلاف دينار حيث اضطر أهله إلى بيع ما (فوقهم وما تحتهم) حسب تعبيره لكي يفتدوه. فما ذا تقول يا ذا الأخلاق والثوابت؟

أما ثوابتكم التي تتحدثون عنها، فأين هي الآن بعد أن دخلتم في ظل الدبابات الأمريكية؟ ألستم أول حزب يتخذ له مقراً في أم قصر حتى قبل أن تكتمل عملية تحريرها وأنتم أصلب من وقف بوجه تحرير العراق من دكتاتوره الصديق لحزبكم الروسي ؟ ألستم تكرهون أي شئ أمريكي حتى ولو كان الهواء الذي تتنفسون؟ ألستم تستحرمون الماكدونالد الأمريكي؟ فلماذا تضعون أيديكم بأيدي أمريكا إذاًً؟ إن كنتم لا تعرفون الجواب فإنه معي. إن الماكدونالد الأمريكي لا يوصلكم إلى السلطة، فهو حرام. أما الدبابات الأمريكية فإنها توصلكم إلى السلطة، فهي إذاً حلال. تماماً كما فعلتم مع أعدائكم البعثيين. المهم هو السلطة، وبعدها المؤامرات كفيلة بالتفرد بالسلطة، النهج الستاليني الصدامي. خطوة أولى تتبعها خطوتان أو ثلاث فقط. وإلا فإن الإنقلاب العسكري أمر مطروح. أجل! فالذي فعل ما فعلتم من أجل السلطة لن يتوانى عن فعل أي شئ. ولكن مثلما أخطأتم في حساباتكم مع صدام من قبل تخطئون حساباتكم الآن مع أمريكا التي أزالت صداماً بنفخة واحدة بل فككت الإتحاد السوفييتى دون طلقة واحدة وحولت كل الأحزاب الشيوعية إلى زبالين في سوق السياسة وشحاذين نراهم هنا في أوربا يقفون في الساحات العامة يوزعون منشوراتهم مجاناً والناس تتجنبهم. ومثلما تخجلون أنتم من تسمية قائمتكم بالقائمة الشيوعية فإنهم قد غيروا أسماءهم من أحزاب شيوعية إلى أحزاب يسارية. وهذه الأحزاب المتهالكة هي التي أخرجت عشرات الملايين من المتظاهرين ضد تحرير العراق في العالم. ولكن أمريكا وضعت حذاء في فمهم وفم الدول التي تقف وراءهم. ألم يكن هدفهم جميعاً إنقاذ النظام العراقي وإبقاء الحال كما هو عليه؟ وأستغرب كيف تمكنتم من الدخول في ظل أول دبابة أمريكية ولم تلقمكم أمريكا حجراً؟ عفواً نسيت براعتكم في التسلق إلى السلطة! ألم يقم زعيم الحزب الشيوعي الروسي بزيارة إلى صدام قبل أسبوعين من سقوطه؟ ألم تروا ذلك على شاشات التلفزيون؟ فأين كان كتابكم الذين يدعون الأخلاق؟ لماذا لم يكتب شيوعي واحد أية عبارة في أي مكان احتجاجاً على تلك الزيارة؟ ولماذا اقتصرتم في هجومكم على ألمانيا وفرنسا؟ طبعاً ! إنها الأخلاق الشيوعية النموذجية. وهل حسبتم أن أمريكا قد سكبت كل هذه الدماء العزيزة عليها جداً ثم صرفت مئات المليارت من الدولارات لكي تسلم العراق إلى أعدائها من شيوعيين أو إسلاميين أو قوميين فاشيين؟ هل هذا كلام يقبله العقل؟

لماذا إذاً لا تتركون العراق وشأنه؟ عقيدتكم البالية لم تعد تنفع عراقاً يتحول باتجاه المستقبل،وما أنتم إلا صوت من الماضي البغيض، شأنكم في ذلك شأن الإسلاميين والقوميين. ألزمن لا يمكن أن يعود إلى الوراء، وأنتم وراء! ألريح أمريكية تهب، والعراق بحاجة إلى دم شاب نظيف غير ملوث. إن كنتم تحبون العراق فتبرعوا له بدم نظيف! حاولوا أن تصحوا من غيبوبتكم فتروا أنفسكم من الخارج كما يراكم الآخرون. أتعلمون ما البرغي المسلك؟ أنتم برغي مسلك من كثرة الإستعمال وسوء الإستعمال. والبرغي المسلك ليس له إلا أن يلقى في سلة المهملات!! لقد فهم عدد كبير من مثقفيكم وقادتكم وكادركم من الشرفاء بشاعة أن يكون المرء شيوعياً فانفضوا عن الحزب غير نادمين، ولم يبق منكم إلا سقط المتاع !

إذا أردتم المشاركة في بناء العراق الجديد فهذا من حقكم، ولكن عليكم أن تفهموا بأن زمن احتكار السلطة قد ولى ولن يعود إلى الأبد. لي صديق يعمل صحفياً في موسكو. سألته أيام الإنتخابات الروسية الأخيرة إن كان للشيوعية فرصة للعودة إلى السلطة، فقال : إطلاقاً. فالروس الآن يفضلون الجوع وحتى الموت على عودة الشيوعيين. فلماذا الإصرار على عقيدة بليت تماماً؟ ولماذا تريدون لشعبكم أن يعاني ما عاناه الناس في الدول التي طالتها الشيوعية ؟ أنظروا إلى حالكم في مرآة كوبا وكوريا الشمالية؟ لماذا لا تدخلون الإنتخابات بدم جديد غير ملوث؟ لماذا الإصرار على الشمولية في الفكر والسلطة؟ لماذا يجب أن تكون السلطة وسيلة للتسلط وفرض عقيدة غريبة حتى على المجتمع الذي ولدت منه وفيه؟ لماذا الأصرار على فكر أثبت فشله وكراهية الناس له في كل مكان في العالم؟ لماذا لا تكون السلطة وسيلة لخدمة الناس وليس للتسلط عليهم؟ لماذا لا تدخلون بفكر جديد واسم جديد نظيف غير ملوث، فتتخلصون من كيس ثقيل من السمعة السيئة والفشل المطلق والإحباط والمؤامرات والإنتكاسات والرؤوس المقطوعة والكوابيس؟ لماذا لا تشكلون من بقايا حزبكم حزباً أو تجمعاً إشتراكياً ليبرالياً وبقيادة جديدة تؤمن بالتداول السلمي للسلطة وتفهم أن الشعب العراقي هو الأولى بصنع قدره بنفسه عبر انتخابات حرة شريفة عادلة وليس بتعاليم ماركس أو لينين أو ستالين الغرباء ليس فقط عنه بل عن مجتمعاتهم نفسها، بحيث أن فكرهم ما كاد يقف على قدم حتى انهار جملة وتفصيلاً؟ لماذا لا يكون صوتكم فعلاً صوت الشعب وليس صوت لينين وستالين اللذين ما عاد أحد يشتريهما ببعرة واحدة في سوق الغنم؟ لماذا لا تريدون أن تفهموا بأن الشيوعية قد انهارت لأنها عكس منطق الطبيعة والناس، على الأقل على المستوى التطبيقي؟ لماذا لا ترون في اختلاف الناس وأفكارهم وتوجهاتهم عنصر غنى وأصالة وجمال، تماماً كألوان الطبيعة واختلاف كائناتها؟ لماذا الإصرار على الشمولية وفرضها على الآخرين؟ لماذا لا يكون الآخرون بنفس الأهمية لكي تستمر الحياة؟ لماذا لا تستطيعون أن تفهموا بأن النور طيف من عدة ألوان، وأنكم مجرد لون واحد لا يكتمل به النور؟ لماذا لا تفهمون بأن الحياة تعتاش على تناقضاتها وأنها بدون تلك التناقضات تزول؟ لماذا لا تستطيعون أن تفهموا أن الحياة ولادة وموت، امرأة ورجل، نور وظلام، حار وبارد، سالب وموجب، حزن وفرح... إلخ، وأن الحياة لاطعم لها بل ولا يمكن أن تكون أو تستمر إلا بهذا الجدل؟ لماذا لا تفهمون وأنتم أهل الجدل؟ لماذا حين تطبقون تنسون هذا الجدل؟