يجري الحديث منذ فترة وفي مقالات عديدة عن الشراكة في الوطن العراق لجميع قومياته وأطيافه. إلا أن كل ما كتب توقف على عتبة باب النيات الحسنة والأحاسيس النبيلة التي عبر عنها كتاب المقالات التي تناولت هذا الموضوع.

دعونا نتفق من الآن أن الإنسان كينونة مادية نفعية وأخلاقية. في كينونته المادية النفعية ينسج الإنسان علاقات اقتصادية مع غيره من أبناء البشر. ثم يأتي الجانب الأخلاقي كإطار حقوقي ينظم هذه العلاقة الاقتصادية. هذه الأطر الأخلاقية نظمتها تاريخيا الأديان تارة ومن ثم البنى السياسية (الدولة) في المراحل اللاحقة تارة أخرى.

وحينما كانت تتطور الكينونة المادية بتطور أ شكال الملكية والنمط الإنتاجي دون ان يصاحبها تطور في الجانب الاخلاقي (الحقوقي) يعيد صياغتها وتنظيمها يدخل الانسان في صراع مع الكينونة المادية الجديدة. فينكفيء الانسان على قيم وتقاليد مر عليها الدهر معتقدا انها ستكون وسيلة ضمان نفعيته. هكذا كان الحال مع حركات التحرر الوطني والحركات القومية حينما اوهمت شعوبها بأنها ضمان لكينونتها المادية النفعية. وهكذا كان الحال كذلك مع الانظمة الشمولية التي استغلت الكينونة المادية النفعية لشعوبها لتستند اليها في قيام انظمتها الشمولية الي ان يستفيق المنتفعون ويرون ان كلفتها كانت ابهضا من ربحها. ونظام صدام حسين احدث شاهد على ذلك.

يبقى ان الكينونة الاخلاقية تنطوي على سلوكيات ثقافية هي خصوصيات هذه الطائفة او تلك، هذه القومية او تلك والتي تتشابك مع الصياغة الحقوقية للكينونة المادية النفعية فتصبح الصورة اكثر تشوها وغموضا لدى عامة الناس فيرون فيها جمال الزمن القادم فيتبنوها عبر شعارات وطموحات سياسية ليس لهم بالضرورة فيها لا ناقة ولا جمل.

العراق اليوم مقدم على مرحلة هامة من مراحل تاريخه الا وهي صياغة دستور لعراق الجميع. فيه يجب ان يتوافر منجز تاريخي لا يقل اهمية عن منجز ابتداع الكتابة من قبل اهل سومر ولا عن منجز اوروبا في فصل الدين عن الدولة. هذا المنجز الخصه بضرورة فصل القضاء عن السلطة السياسية وجعله هيئة تستمد شرعيتها من الاقتراع العام وتجعلها مسؤولة امام الشعب وفق هيكلة وِآليات خاصة يجعلها الضامن لمصاحبة الكينونة الاخلاقية (الحقوقية) لكل تطور لاحق للكينونة المادية النفعية. وجانب ثاني من هذا المنجز هو جعل الائتلافات السياسية تجاوز على مفهوم فصل السلطات السياسية وضرورة استقلالية كل هوية سياسية والاحتكام الي الاقتراع العام لتحديد مكانتها ودورها في الحياة السياسية. هذا الموضوع سأعالجه في مقالة لاحقة.

اما الموضوع هنا هو اية هيكلة اقتصادية (المادية النفعية) للمجتمع العراقي يمكن ان تصاغ لجعلها اساس الهوية المشتركة لشعب العراق واساس التطبيع والمصالحة الوطنية بين جميع مكوناته، تحرره من أي استغلال لاحق من هذه القوة السياسية او تلك التي ستتقلد زمام الامور دستوريا وتفصل سلوكيته الاخلاقية (بمعناها الثقافي) لتتولى التعبير عنها هيئات اخرى مثل مجالس المحافظات وربما مجالس اقليمية (لا دستورية) بين المحافظات تنسق وتدعم وتطور السلوكيات الثقافية المشتركة أياً كانت نسبتها في المجتمع العراقي.

ضمن هذا الاطار سيمكن حل مشكلة كركوك وإزالة الاحتقان السياسي الذي نشهده. وكرد كذلك على الدعوات الي فيدراليات طائفية.

الهيكلة الاقتصادية شرط لتطبيع الاوضاع في العراق

ميدان الهيكلة الاقتصادية يشمل ثلاث مجالات تحدد طبيعة المواطنة وعلاقاتها من حقوق وواجبات:

أولا ـ النظام الضرائبي العام (ضريبة الدخل والرسوم الكمركية ورسوم القيمة المضافة علي السلع المستهلكة) الذي يحدد واجب كل فرد في تحمل قسطه في تمويل عمل مؤسسات الدولة والمشاريع العامة التي تقرها السلطة السياسية المنتخبة.

هذا النظام لا مجال للخوض فيه لانه يعتمد على السياسات المتبعة التي تقترحها برامج الاحزاب السياسية لدى خوضها الانتخابات. الا انه من الواجب ان تقدم الاحزاب السياسية اثناء الانتخابات القادمة التي ستلي اقرار الدستور برنامجا تفصيليا لماهية النظام الضرائبي العام الذي ستتبعه في حالة فوزها بثقة غالبية الناخبين العراقيين.

ثانيا ـ ملكية الدولة للثروات الطبيعية

الدولة العراقية مالك وحيد للثروات الوطنية العامة ونظريا تستخدمها السلطة السياسية الحاكمة لصالح الشعب. إلا ان التجربة المعاشة في العراق وغيره من البلدان شهدت ضيق هذا التصور. اذ مهما كانت الانظمة التي تدير هذه الثروة تبقى في سياساتها العملية حبيسة انتماءاتها السياسية ومن ثم الطائفية. لذا من الضروري تصور تقاسم هذه الملكية بين الدولة وابناء الشعب نفسه لضمان ان يكون الشعب نفسه المستفيد المباشر من الثروات الطبيعية، مع بقاء جزء من هذه الثروة بيد الدولة لتنفيذ السياسات المعلنة من قبل السلطة المنتخبة.

وها هي اقتراحاتي العملية في هذا المجال واخص بها ثروة العراق النفطية التي من خلالها سيمكن تطبيع الأوضاع في العراق بشكل عادل لجميع مكونات الشعب العراقي:

1) تأسيس شركة وطنية عامة تكون مالكا وحيدا لجميع الثروات النفطية الحالية والتي ستكتشف مستقبلا في العراق والمؤسسات الملحقة العاملة في هذا المجال،

2) تمتلك الدولة 50% من هذه الشركة،

3) يمتلك الشعب العراقي الـ50% الباقية من هذه الشركة وفق نظام المحاصصة التالي:

أ) ـ تمتلك كل عائلة عراقية 100 سهم اسمي. مفهوم العائلة يحدد على أساس مصدر الدخل الرئيسي وبما فيهم العاطلون عن العمل،

ب) ـ يحدد سعر كل سهم بحيث تستطيع العوائل ذوي الدخل الضعيف اقتناءها، وتباع هذه الأسهم بنظام الأقساط،

ت) ـ ريع كل سهم يحتسب ابتداء من تاريخ تسديد سعره، ويصبح سهم فعلي،

ث) ـ يخضع ريع الأسهم هذه لنظام ضرائبي خاص ضمن النظام الضرائبي العام (ضريبة الدخل) تحدده الحكومة المركزية،

ج) ـ هذه الضريبة تمنح الى مجالس المحافظات كمورد مالي لادارة شؤون المحافظة ومشاريعها التي يقررها مجلس كل محافظة ضمن سلطاته اللامركزية التي سيحددها الدستور القادم الخ...

ح) ـ تحتسب حصة كل محافظة وفقا للمعادلة التالية: عدد عائلات المحافظة مضروباً بالريع الضرائبي لمجموع اسهم عوائلها = حصة المحافظة،

خ) ـ ملكية الاسهم الفعلية هي ملكية عائلية لا تورث إنما يورث فقط ريع هذه الاسهم وتقسم بالتساوي علي جميع اعضاء العائلة ومن ضمنهم اولئك الذين ينفصلون عن العائلة لاسباب الزواج او الطلاق او الوفاة او الاستقلال عنها. وفي هذه الحالة تضمن السلطات الحكومية دفعها مباشرة الى المعنيين في الحالات الآنفة الذكر تلافيا للخلافات التي قد تحدث.

د) ـ ريع الاسهم الاسمية التي لم تسدد اسعارها بعد من قبل العائلة الممتلكة يكون ملكا لخزينة الدولة، اما ريعها الضرائبي فيحتسب ويكون ملكا لميزانية مجلس المحافظة.

منافع هذا النظام:

1) هذه الترجمة للكينونة المادية النفعية للإنسان تسمح بخلق إحساس عام بالشراكة في الوطن بربط الإنسان بخيرات وطنه والانتفاع منها،

2) سيسمح للأكراد أن يكونوا شركاءً في نفط البصرة وكركوك ولأهل البصرة والفلوجة والانبار والموصل وغيرهم شركاءً في نفط كركوك والبصرة وربما نفط بغداد إذا اكتشف،

3) جعل الريع الضريبي لأسهم العائلة مورد مالي لمجلس المحافظة سيخفف من اعتراضات البعض علي وجود عوائل من الخارج والنظر إليها أنها دخيلة بل يمكن أن يرحب بها لأنها ستساهم ماديا في الانتعاش الاقتصادي للمحافظة.

تبقى مسألة الهوية الثقافية للمحافظة التي يمكن ان تحل من خلال ما سيحدده الدستور من سلطات مجالس المحافظات وبنيتها وطريقة عملها وتشكيلها لضمان ازدهار الهويات الثقافية المتعايشة في محافظة ما وصياغة علاقة وثيقة مع الهويات المتماثلة في المحافظات الأخرى. سأعالج هذا الموضوع في مساهمات قادمة لكتابة دستور عراق الجميع.

ثالثاً ـ النظام الضرائبي الاجتماعي الذي يحدد واجب كل فرد، عاملا كان أو فلاحا أو رب عمل، في تحمل قسطه في تمويل صناديق التقاعد والبطالة والضمان الصحي والتأهيل المهني. تاريخيا كان هذا النظام موضوع صراعات انتخابية في الدول الغربية تهيمن فيها المزايدات لكسب الأصوات أكثر مما كانت تقدم حلا جديًا يضمن كرامة الإنسان وحقه في الوجود الاجتماعي. كذلك كان جوهر السياسات الذي اعتمدته الأنظمة الشمولية والذي أدى إلى أن يصبح الإنسان طفيليا يعتمد على الدولة أكثر من اعتماده علي قدراته الإبداعية في الخلق والتطور.

وبحكم تجربتي كعامل قاسيت الأمرين اسمح لنفسي أن اقترح في معالجة قادمة البديل الذي أراه مناسبا للبيئة العراقية والذي أهدف منه ان أجنب المجتمع العراقي آثام التجارب السابقة.

عامل مطابع ـ فرنسا

[email protected]

www.sawmar.com