رحم الله الدكتور يوسف ادريس، عندما كان يكتب فى جريدة الأهرام القاهرية، كان يكتب من قلبه، كشخص يشعر أن له رسالة عليه أن يؤديها، كان يمسك بسوط يطارد به كل من يروج للخرافة، أو يحاول أن يحط من قيمة العلم أو ينال منه..، رحم الله الدكتور يوسف ادريس.. و رحم أيامه..
لست أدرى ما الذى جعلنى أتذكر الدكتور يوسف ادريس و أنا أتابع بعض فتوحات الدكتور زغلول النجار المعرفية، هل لأن موعده مع القارىء كان يوم يوم الاثنين فى نفس الجريدة مثل الدكتور زغلول؟ أم ماذا؟.. لست أدرى..
أيا ما كان، كأنما نحن على موعد عند حدوث كل كارثة طبيعية لكى يطلع علينا شخص مثل الدكتور زغلول النجار ليفتى أن هذه الكارثة عقاب من الله ضد عبيده، و ان من حدث له شىء فى هذه الكارثة فهو "يستاهل و ستين يستاهل" لأنه أعرض عن ذكر الله و لم يسلك كما يأمر الله..
و الكلام كما ذكره الأستاذ صلاح منتصر فى مقال له بتاريخ السبت 8 يناير 2005 فى جريدة أخبار اليوم "وجدت الباحث الاسلامي الدكتور زغلول النجار يتحدث علي الهواء في قناة فضائية يصل ارسالها إلي آفاق واسعة في العالم وقد راح يكرر وبصورة أشد عنفا وقسوة ما سبق أن قاله خطيب الزاوية الصغيرة في جمع محدود.. وكان من أرق العبارات التي استخدمها الدكتور النجار قوله 'إن ما حدث هو عقاب للعاصين ولأمم تباهي الله بما ارتكبته من معاص، وبعد أن اطال الله الحبل لهم كي يتوبوا ولم يتوبوا أنزل عليهم تلك الهزات التي تعتبر بالذات نوعا من العقاب الإلهي!'.
لم يكتف الدكتور زغلول النجار بذلك بل أضاف ان الفواحش التي تقترف في هذه البلاد لا يتخيلها عقل، وان 'جزر المالديف' بعضها لا يدخلها العرب والناس فيها عراة ويحكمها حاكم مسلم، وان منطقة شرق تيمور ترتكب فيها الموبقات باسم السياحة ويذهب الاجانب هناك لارتكاب الفواحش فحق عليهم عقاب الله..!"
و ليست هذه أول مرة نستمع فيها لهذا الهراء.. و من نجم تلفزيونى مشهور مثل الدكتور زغلول له شعبية أكثر من شعبية نجوم كرة القدم..، بل سبقه فى ذلك نجوم كثيرون، تباهوا و تنافسوا فى تقريع وتوبيخ ضحايا الكوارث الطبيعية كما لو كان الموضوع تحول الى مسابقة يحاول كل متنافس فيها أن يستخدم أقسى العبارات لاظهار أن الضحايا عصاة، زناة، و كفرة ان لزم الأمر، يستحقون كل ما أنزله الله بهم من عذاب..، ليست هذه أول مرة، بل حدث من قبل كثيرا، و أتذكر احدى هذه المرت عندما حدث زلزال مروع فى أرمينيا فى عام 1988، و كانت فى ذلك الوقت جزءا من الاتحاد السوفيتى، و راح ضحية هذا الزلزال ما يقرب من خمسة و خمسين ألف شخص، أتذكر أن أحد العلماء الزغلوليين (نسبة للدكتور زغلول النجار) خرج علينا معلقا عن هذا الحدث الرهيب أنه غضب من الله تعالى على الشيوعيين لأنهم كفرة ينكرون وجود الله، و المضحك (أو المبكى ) فى الموضوع أن هذا العالم الزغلولى خرج بتعليقه هذه من التلفاز الحكومى ما يقرب من عقدين من الزمن قبل أن يطلع علينا الدكتور زغلول بتعليقه هذا..، و المؤلم أكثر أن سيادته لا يعرف أن قاطنى أرمينيا ليسوا شيوعين و انما من أهل الكتاب..
و هكذا، بينما الغرب يفعل كل ما يستطيع من أجل انقاذ ما يمكن انقاذه من ضحايا هذه الكارثة، و يشترك فى ذلك الجميع من أصغر شخص الى اكبر شخص، الفنانون.. حتى رؤساء الجمهورية المتقاعدين، خرجوا فى حملات لجمع التبرعات من أجل ضحايا هذه النكبة..، حتى الأطفال، خرجوا أثناء العطلات الأسبوعية لجمع التبرعات من أمام محلات السوبر ماركت، الشركات الكبرى و الصغرى.. الخ، أقول بينما يفعل الغرب الذى نصفه فى اعلامنا المنصور أنه كافر و مادى و به البدع.. الخ، خرجنا نحن ببدع آخر الزمان من نوعية الدكتور زغلول و أشباهه، لنعلن للعالم ليس فقط عن جهلنا، بل عن تعصبنا وعنصريتنا وضيق أفقنا واحتقارنا للنفس الانسانية..
لقد أفرد الأستاذ صلاح منتصر فى نفس المقال ما أورده فى نفس البرنامج من اراء تعليقا على كلام الدكتور زغلول، نوردها هنا لنوضح للقارىء فساد النظرية الزغلولية التى تؤكد أن المنكوبين "يستاهلوا" ما حدث لهم:
أولا: لماذا يحلو لغالبية الذين يوجهون الخطاب الديني التركيز علي الله المنتقم الجبار وعقابه وعذابه ويتجاهلون الله الرحمن الرحيم الغفور السلام؟ لماذا ترهيب المتحدثين إلي حد التلذذ من العذاب والعقاب دون الترغيب من خلال المكافآت الضخمة التي وعد بها الله المتقين.
ثانيا: لماذا يتحاشي أصحاب الخطاب الديني الحديث عن المبررات العلمية وارجاع كل حدث إلي مبرر ديني؟ هل الاسلام ضد العلم؟ وهل العلم وما وصل إليه إلا صورة من صور قدرات الله أمد بها من اراد من العلماء الذين شاءت ارادة الله ان يكونوا من مختلف الاديان والجنسيات؟
ثالثا: هل من الامانة العلمية القول بأن الاوروبيين الذين تركوا بلادهم الشديدة البرودة وذهبوا إلي تلك البلاد للاستمتاع بشمسها.. أقول هل من الامانة تصويرهم بأنهم وفيهم كثيرون صحبوا زوجاتهم وأولادهم قد ذهبوا ليرتكبوا المعاصي والفجور في تلك البلاد.. وكأنه تنقصهم الوسائل في بلادهم حتي يعاقبهم الله في بلاد معظم أهلها يشكون الفقر؟!
الملاحظة الرابعة: هل هذه أول مرة يشهد فيها العالم منطقة تتعرض لكارثة طبيعية حتي يحكم البعض بأن ما حدث هو عقوبة إلهية؟ وهل كانت زلازل وفيضانات تركيا وايران وبنجلاديش والصين وشيلي وغيرها عشرات عقوبات إلهية هي الاخري؟!

وبالاضافة لما ذكره الأستاذ صلاح منتصر أضيف هذه البديهية،أن الكثيرين ممن أصيبوا فى هذه النكبة كانوا اما أطفال لا يعرفون شيئا فى الحياة و لم يفعلوا شيئا يعاقبوا عليه أو بسطاء يقومون بأعمال بسيطة ليس فيها معاصى او فجور، فلماذا - حسب النظرية الزغلولية - يتوجه الله بعقابه لهؤلاء و يترك الآخرين الذين يفعلون الأهوال والموبقات و يسفكون و يضللون ويدجلون وينهبون فى مناطق اخرى من العالم بلا زلازل؟ و من أين أتى سيادته بجملة "منطقة شرق تيمور ترتكب فيها الموبقات باسم السياحة ويذهب الاجانب هناك لارتكاب الفواحش فحق عليهم عقاب الله.." و منطقة تيمور الشرقية ليست من المناطق التى اضيرت فى هذه الكارثة؟
أشياء وحجج كثيرة، لن ننتهى اذا أردنا أن نذكرها كلها، لكنه أمر محزن، أن بعض نجوم الاعلام فى العالم المتحضر يسابقون الزمن من اجل جمع التبرعات لضحايا هذه الكارثة بينما بعض نجوم الاعلام فى عالمنا يتسابقون من أجل اشباع غرائزهم فى الشماتة..
و لكن هل هذه تعتبر نكبة عقل؟ أما تعتبر نكبة أخلاق و مبادىء و ضمير؟ وهل هى نابعة عن جهل؟ أم عن خبث؟ سنحاول فى مقال آخر أن نتعرض لموضوع العقل و الضمير فى فتوحات الدكتور زغلول بصورة أعمق بعض الشىء..
عماد سمير عوض