يشكل (المثلث) البعثي (وحدة، حرية، اشتراكية) المحور الفكري لمباديء البعث. ويدعي البعثيون انهم اول من ربط ( ربطا جدليا) بين الوحدة والحرية والاشتراكية. وسنحاول ان نلقي نظرة مختصرة على ( مباديء ) البعث على مستويين، الأول النظري والثاني التطبيقي لنتعرف على الخلل النظري والتطبيقي في مباديء وسلوك البعث.

على المستوى النظري تعمل (منطلقات) البعث الفكرية على وضع العربة (الوحدة ) امام الحصان (الحرية ) متصورة ان تحقيق الوحدة شرط (اي ضرورة خارجية) لتحقق (صيرورة) الوحدة وهذا تصور نظري خاطيء(مقلوب) لأن الوحدة العربية (كمدرك) معرفي لاينشيء الا بواسطة فهم (ضرورة) الوحدة، اي بواسطة الحرية، لأن الحرية هي فهم الضرورة مع عنصر الممارسة، فعندما نقول ان (فلانا) حرا في عمل مايشاء فان هذا القول يتضمن الأقرار بمعرفة (فلان) بتفاصيل محيطه الطبيعي والأجتماعي التي يريد ان يتعامل معها، فاذا هو لايعرف مثلا كيفية لعب كرة القدم فانه ليس حرا في ممارسة اللعبة مع الآخرين، لان ممارسة هذه اللعبة بدون معرفة لقوانينها( اي فهم ضرورتها) هو( فوضى ) وليست حرية، اما في حال ان (فلان) على معرفة بقوانين اللعبة( فهم ضرورتها) ولكنه لايستطيع ممارستها بسبب اعاقته البدنية(عاجز عن الممارسة ) فهو غير حر ايضا بممارسة اللعبة، وكذلك فأن الحرية الجنسية مثلا تعني وعي ضرورة الجنس (وعي قوانينه الداخلية والخارجية) مع القدرة على (الممارسة) وبدون هذه المعرفة تتحول ممارسة الجنس الى (فوضى) وليست حرية. ويجب ان ندرك هنا ان (الممارسة) الأنسانية هي التي اوصلت البشرية للمعرفة،وان المعرفة هي التي طورت الممارسة، وهذا هو معنى العلاقة الجدلية بين الممارسة والمعرفة.

ان الأنسان، وعن طريق عنصر الممارسة، فهم ضرورة التعاون مع (الآخر) كي يستمر في الحياة فتنازل للآخر بحريته عن جزء من حريته،وكذلك فعل الآخر، فنشأت الوحدة الأجتماعية بمختلف درجاتها( الأسرة، القبيلة، الدولة، اتحاد عدة دول،الأمم المتحدة ). فالوحدة، كممارسة لفهم ضرورة الوحدة،هي،وبصورة عامة، ومهما كانت درجتها، تعني التنازل بحرية عن جزء من الحرية، غير ان هذا التنازل يصبح بدوره (وعن طريق عنصر الممارسة) حرية ايضا لانه وعي بضرورة التعاون مع الآخر وممارسة لهذا الوعي، في حين تتحول الوحدة القسرية (ابشع صورها الظم عن طريق القوة) الى عبودية باسماء مختلفة، لأن التنازل عن الحرية او عن جزء منها في هذه الحالة لم يتم بحرية، اي ان ممارسة هذا التنازل لم ينبع من، بل يناقض، فهم المتنازل للضرورة( الوحدة هنا ليست ضرورة). وهذه الجدلية(العلاقة الجدلية بين الحرية والوحدة لابين الوحدة والحرية) لايفهمها ( مفكرو) البعث لانهم سطحيون ومعوقون فكريا، لذا جاءت (افكارهم) لاتتميز عن الكتابات الأنشائية لطلاب الأعدادية، بل ان ( انشاء) بعض طلبة الفرع الأدبي المتميزين افضل من هلوسات( في سبيل البعث) مثلا.

أن تطبيق الوحدة العربية قبل نيل الشعوب العربية لحريتها عن طريق تطبيق الديمقراطية (الشكل السياسي للحرية) على صعيد الأقطار العربية يعني عدم اكتراث البعث برأي ورغبة وحرية الشعوب العربية، ويعني ايضا سلب هذه الشعوب حريتها،وبهذا تتحول الوحدة العربية الى عملية فوقية مفروضة على الشعوب العربية من قبل البعثيين، وبمعنى اخر تتحول الوحدة العربية،على الطريقة البعثية الى عبودية،في حين تحولت الوحدة الأوربية الى حرية، لانها بدات بالحرية(فهم الضرورة مع عنصر الممارسة) وصولا للوحدة كممارسة حرّة. لقد نجحت الحرية في خلق وحدة اوربية، وفشلت الأنظمة والاحزاب القومية العربية ( ومنها البعث) في اقامة وحدة بين دول عربية لأن شعوبها ترسف تحت نيران عبودية انظمتها الديكتاتورية. وكما قلنا في البداية ان البعث فشل في فهم العلاقة الجدلية بين الحرية والوحدة فوضع العربة امام الحصان فتحولت مسيرة الشعوب التي قادها البعث (العراق وسوريا) الى رحلة تراجع كارثية..

ففي التطبيق لم يحقق البعث الوحدة العربية، بل لم يحاول، محاولة جدية، اقامة تجربة وحدوية بين دولتين تبعثّتا على يدي فرعي البعث ( العراق وسوريا) وذلك لأن البعث استعبد الشعبين العراقي والسوري وحول البلدين الى قلعتي( عبيد) تنتظر( سبارتكوس) يجيئها على ظهر (الشبح) الفانتوم.


ان تفاصيل الحياة الداخلية المروعة لسكنة (قلاع) البعث ترسم صورة واضحة لفهم البعث لمعنى الحريات بأنواعها، فالحرية السياسية اقرب الى (تريد ارنب اخذ ارنب، تريد غزال اخذ ارنب) لاشيء في عراق صدام،وسوريا الأسد غير الأرنب ( حزب البعث)، مع ابداء روح (فكاهة) بعثية سمجة احيانا،حيث يتم عند الضرورة اطلاق اسم (الغزال) على بعض (الأرانب) المهجّنة حتى لايقال ان مزارع البعث لاتفرّخ غير الأرانب، ولهذا قال ارنب العراق ( اوجرذه):(( صدام حسين يعارض صدام حسين اذا حاد عن المباديء)). فصدام هو الرئيس للدولة والحزب ومجلس الوزراء والقوات المسلحة والأجهزة الأستخباراتية وحتى الطاقة الذرية وهو المعارض لصدام حسين ايضا.وحين اجرى انتخابات رئاسية (على الطريقة البعثية طبعا) فكان هو المرشح الوحيد. وحتى يوفر للشعب (حرية) المشاركة جعل المشاركة في التصويت الزامية وتحت اشراف الأمن والمخابرات ( التصويت للرئيس مقابل البطاقة التموينية).فالترجمة العملية للحرية في القاموس البعثي هي ابشع انواع الديكتاتوريات حيث كل شيء (للحزب القائد) الذي سيتحول شيئا فشيئا الى سلطة الفرد (القائد الضرورة) الذي سينهش لحوم رفاقه واقربائه ثم (يبكي) عليهم بكاء (ديمقراطيا) فهو (حزين لأن القانون اعدمهم).

ان هذه المقالة لاطاقة لها على الخوض في تفاصيل ( الحرية) البعثية ويكفي ان نذكر بعض شعارات البعث في العراق لنتعرف على تطبيقات البعث (للحرية). احد هذه الشعارات يقول: العراقي الجيد هو بعثي وان لم ينتم لحزب البعث،وشعار اخر يقول: العراقي الجيد هو بعثي جيد. وقد تفرعت من هذا الشعار شعارات (نقابية) كالموظف الجيد هو البعثي الجيد، والعسكري الجيد هو البعثي الجيد (الخ). فلايمكن للمواطن ان يكون مواطنا جيدا ولاينتمي لحزب البعث، لأن عدم بعثية العراقي تنفي عنه صفة المواطنة ( الجيدة)، اما اذا انتمى المواطن الى فكر اخر او حزب اخر فهو يكون قد ارتكب جرم الخروج من (الصف الوطني) اي اصطف مع اعداء الوطن، ولهذا فأن حزب البعث انشأ تنظيمات خاصة ضمن تنظيمات الحزب سماها (تنظيم الصف الوطني) ليدخل فيها اعضاء الأحزاب المعارضة والذين يتم اعتقالهم ثم يطلق سراحهم بشرط الأنتماء لحزب البعث، هؤلاء كانوا خارج (الصف الوطني)، حسب العرف البعثي، والآن وبعد ان تم اجبارهم على الأنتماء لحزب البعث سيوضعون في هذا القسم البعثي ( تنظيم الصف الوطني) ليتعلموا كيف يكونوا وطنيين على الطريقة البعثية. هذه هي الممارسة البعثية التطبيقية لشعار الحرية:حزب واحد هو (قائد المسيرة)، وصحافة من لون واحد (لون البعث)، ونقابات من نفس اللون، كل شيء، كل شيء لونه بعثي.هذه هي الحرية البعثية.

وماذا عن الأشتراكية البعثية؟

كما كان الفهم النظري البعثي للوحدة والحرية قاصرا ومغلوطا كذلك فهمه للأشتراكية،فهي عند البعث ليست ( جعل وسائل الأنتاج جماعية ) بل هي عبارة عن تحويل ملكية وسائل الأنتاج من يد الأفراد الى يد الدولة، اي اقامة رأسمالية الدولة من خلال جملة تأميمات لبعض الصناعات ( الكبرى) كصناعة النفط والمعادن والصناعات الكيمياوية وصناعة النسيج وغيرها، لقد انشيء البعث قطاعا عاما تديره الدولة فأسماه ( القطاع الأشتراكي) متوهما ان اقامة القطاع العام هو الأشتراكية بعينها غير مدرك لحقيقة بسيطة ومعروفة وهي ان اغلب الدول الرأسمالية لديها قطاعا عاما تملكه الدولة.

ماحدث من (اشتراكية) في العراق حدث مثيله في سوريا وهذا يؤكد ان ماحدث في العراق ليس (اجتهادا) يخص البعثيين العراقيين بل هو فهم بعثي عام للأشتراكية.ومثل ماهو معروف وبسبب سوء الأدارة البعثية للقطاع العام في كلا البلدين تحول القطاع العام الى عبيء ثقيل على الدولتين، حيث مني هذا القطاع بخسائر كبيرة، وبدلا من أن يساهم في تطوير الأقتصاد صارت الدولة تسدد خسائره من خزينتها.ولهذا اضطر النظامان البعثيان الى بيع اغلب مشاريع القطاع العام الى الأفراد ( اي اللجوء الى الخصخصة). وفي العراق بيعت اغلب المصانع الى المقربين من النظام وكانت حصة عدي عدة معامل منها معامل التعليب في كربلاء. وفي سوريا حصل نفس الشيء وسأكتفي بالخبر الذي نشرته ايلاف يوم 18-1-2005. يقول الخبر ( اصدر الرئيس السوري بشار الاسد اليوم مرسوما يقضي بالغاء المزارع الحكومية وتوزيع املاكها على المزارعين.. وتأتي هذه الخطوة بعد سلسلة من الجراءات الحكومية التي تؤكد نية دمشق الأسراع في سياسة الأصلاح الأقتصادي وخصوصا فيما يتعلق بالقطاع العام الخاسر). هذه هي اشتراكية البعث: قطاع عام خاسر!!.

ترى ماذا بقي للبعث كي (يناضل) من اجله بعد ان فشل نظريا في تحديد مفاهيم فكرية صحيحة فضلا عن فشله في تطبيق مبادئة الثلاثة: الوحدة والحرية والأشتراكية، رغم بقائه في الحكم مدة طويلة في العراق وسوريا؟ سؤال لانوجهه الى بعثيي العراق الذين يحاولون بغباء ووحشية استعادة السلطة مرة ثالثة لان هؤلاء قد مسخت ادميتهم بعد ان صاروا مجرد حفاري قبور جماعية وممتهني القتل المجاني، السؤال نوجهه الى بعثي الأردن واليمن ولبنان وباقي الأقطار العربية التي يحلم حزبهم بالاستيلاء على السلطة فيها، نقول لهؤلاء من اجل ماذا تناضلون؟ هل من اجل هذه المباديء التي فشل رفاقكم في تطبيقها لقصورها النظري قبل اي شيء اخر. اعلموا ان البعث لاينجب (بالضرورة ) الا امثال صدام والأسد لأن الأفكار هي كالارحام لاتنجب الا من جنسها.

[email protected]