ظلت أجهزة الأمن في دول العالم الثالث ومنها الدول العربية سيفاً مسلطاً على رقاب العباد، فلقد مارست أعمالاً لا تقبلها جميع القيم والأعراف السماوية أو الدولية،انتهكت حقوق الإنسان بشتى وأبشع أنواع التعذيب بعيداً عن أي حماية قانونية تذكر، أصبح كل مواطن عرضة لبطش تلك الأجهزة بسبب أو بدون سبب وأصبحت أنفاس الفرد معدودة عليه وانعدمت حرية الكلمة وسادت حالة من النفاق في أوساط المجتمعات في الدول العربية ودول العالم الثالث عموماً،نفاق اجتماعي وسياسي غدا ديدناً لهذه المجتمعات، وكتب الشعراء والروائيون والقصاصون عن هذه الظاهرة وأنتجت أفلام ومسرحيات وبرامج وثائقية، ولكن الوضع بقي على حاله اللهم إلا في حالات استثنائية لا تذكر حيث حققت بعض الدول تقدماً في مجال حقوق الإنسان والحرية الفكرية ووضع الأجهزة الأمنية في إطارها الصحيح كونها أوجدت لخدمة أمن المواطن لا لخدمة أمن الحزب الحاكم أو "الزعيم المفدى" أو لتحقيق مصالح ومنافع للقائمين على تلك الأجهزة!

لا يتسع المجال للحديث عن تفاصيل سلبيات انفلات أجهزة الأمن وحسبي أن أتطرق إلى أمرين كارثيين بمعنى الكلمة كنتيجة لهذا الانفلات:-

1) تراجع الإبداع الثقافي والإنتاج الاقتصادي والتقدم العلمي وانتشر الفساد بشتى أشكاله وألوانه مما حدا بكفاءات علمية وفكرية ومهنية إلى هجران الأقطار العربية للإقامة بعيداً وأصبحت "الفيزا" لدولة أوروبية أو إلى أمريكا الشمالية حلماً للكثير من الشبان الذين ضاقت بهم سبل العيش وبات الفقر والتخلف والخوف سمة لمجتمعاتهم!

2) استغلت الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى لإقامة إمبراطورية كونية جديدة هذا الوضع فأصبحت تتدخل في شؤوننا وطريقة حياتنا وتلقي علينا النصائح مستغلة ما نحن فيه من تخلف لإنجاح مشروعها الإمبراطوري متسلحة بتقارير ودراسات يصدقها الحال والأمر الواقع في مجتمعاتنا وبدل معالجة الخلل أصبح كل واحد منا يعزف على وتره الخاص فمن مرحب بتدخل "المارينز " لتخليص الناس مما هم فيه من بلاء أو من رافض لفكرة إجراء أي إصلاحات تحت ذريعة التحدي والتصدي للمشروع الأمريكي،إلى مهادن ومتحايل على أي دعوة إصلاحية بانتظار مرور العاصفة!

في فلسطين لم تقم دولة بعد ولكن قامت السلطة الفلسطينية كنتيجة اتفاقات أوسلو بين منظمة التحرير والحكومة الإسرائيلية وكان من أبرز معالم وجود السلطة في قطاع غزة وبعض مناطق الضفة الغربية أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، طبعاً لا يمكن مقارنة حال الكثير _إن لم يكن جميع _ من الدول العربية بحالتنا الفلسطينية من ناحية تغوّل وبطش أجهزة الأمن بالناس،الوضع في فلسطين أفضل بكثير وهناك منظمات حقوق إنسان لها صفة الاستقلالية تراقب وتصدر التقارير وهناك حالة من الوعي تسود أوساط الشعب الفلسطيني، ولكن هذا لم يمنع وجود تجاوزات وانتهاكات وأخطاء يمكن معالجتها فالإنسان يسعى دائماً نحو التطور ما دامت الحياة قائمة ويسعى نحو الأفضل في تنظيم شؤونه الخاصة والعامة.

حسن السلوك

عانى الفلسطينيون كثيراً من أجهزة الأمن الإسرائيلية والمخابرات التابعة لها (الشين بيت ) وغدا الفلسطيني في مصيدة وهو في وطنه وبين أهله ومارست إسرائيل من خلال جيشها وأجهزة مخابراتها كافة أشكال الإذلال والامتهان لكرامة الفلسطيني على مر السنين

قوات الاحتلال تحكمت بأرزاق الناس فلم تسمح بتوظيف من ارتكب مخالفة أمنية من وجهة نظرها في قطاعات الصحة والتعليم التي كانت تحت إدارتها منذ احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة سنة 1967م وحتى قيام السلطة الفلسطينية بل تم فصل موظفين لأن قريباً لهم من الدرجة الأولى أو الثانية مسجون بتهمة أمنية وحرمت أجهزة المخابرات الإسرائيلية المواطن الفلسطيني من الحصول على رخصة قيادة لسيارة أو باص عمومي وكان يعرض على كل فرد التعامل مع الاحتلال في مقابل الحصول على أي وثيقة لتسيير أي شأن من شؤون حياته اليومية وحين فرض الإغلاق على المناطق الفلسطينية وبات مفروضا على المواطن الراغب في العمل داخل الخط الأخضر الحصول على تصريح خاص استمرت تلك المساومات والتي طالت أيضاً الطلبة الراغبين في إكمال دراستهم في الخارج وحتى من يضطر لتلقي العلاج في الخارج أو حتى أداء مناسك الحج والعمرة!

المخابرات الإسرائيلية وضعت المواطن الفلسطيني وفي حالات كثيرة جداً بين خيارين:إما خيانة شعبه ووطنه وتحوله إلى جاسوس أو حتى جندي احتلالي وإما الحرمان من أبسط الحقوق في العمل أو السفر أو الحصول على وثائق ضرورية لأموره الحياتية.

بعد قيام السلطة الفلسطينية أعيد جميع من فصلوا بقرارات الاحتلال الجائرة إلى وظائفهم في قطاعات التعليم والصحة والزراعة وغيرها واستوعبت مؤسسات السلطة الكثير من الخريجين والذين ما كانوا ليحلموا بأي وظيفة حكومية في عهد الاحتلال.

ولكن هناك تجاوزات وانتهاكات عديدة ارتكبت من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية في هذا المجال، منها بل أبرزها قضية البحث الأمني و"حسن السلوك" ؛ ليس من المعقول إعطاء رخصة قيادة لسيارة نقل عمومي لإنسان ساقط أخلاقياً لأنه سيستغل مهنته لارتكاب الرذيلة بطريقة أو بأخرى، إنها حجة منطقية لإجراء بحث حول أخلاق الأشخاص الذين يتقدمون بطلبات للحصول على هذه الرخصة وينسحب هذا على جميع الوظائف العامة وحتى الخاصة.

الخلل كان في الطريقة وفي تحديد من هي الجهة المخولة وبمدى صلاحيات الأجهزة الأمنية وتوسعها في إبداء رأيها وحجج وطبيعة بحثها عن الشخص المتقدم للحصول على وظيفة أو من يطلب رخصة قيادة...إلخ

الانتماء السياسي

في حالات عديدة تعرض المتقدمون للوظائف العامة في السلطة والحاصلين على قرارات رئاسية بتعينهم إلى الاستجواب، لم يستخدم العنف الجسدي أو النفسي في تلك الاستجوابات ولكن جوهرها كان قائماً _في المعظم_ على انتماء الشخص السياسي هل هو معارض لاتفاق أوسلو؟!هل هو عضو في حركة حماس أو الجهاد الإسلامي أو الجبهة الشعبية أو الديمقراطية؟....إلخ

وتوسع القائمون على تلك الاستجوابات ليسألوا عن قرائن تشير إلى انتماء الشخص للحركات الإسلامية بالسؤال عن تأديته للصلاة في المسجد أو علاقته ببعض الأفراد والجمعيات.

كذلك أسئلة عن أمور حميمية وخاصة بالإنسان،وكأن السائلين تحولوا إلى أطباء ومحللين نفسيين!

أسئلة وطريقة بحث لا تفيد التوصية بمدى صلاحية الفرد للوظيفة التي يريد إشغال شاغرها.وأصبح ما يعرف بأمن المؤسسات التابع لجهاز المخابرات العامة وجهاز الأمن الوقائي أدوات للتفتيش الفكري والسياسي إن جاز التعبير ومن خلال الاستجوابات وطريقة التقصي وأسلوب التحري تم الإيحاء للمواطن الراغب في العمل في السلطة أن عليه أن يغير انتماءه السياسي ولا يبدي رأيه في موقف السلطة السياسي أو حتى انتقاد بعض الأشخاص المتنفذين!

كل هذا يضعنا أمام ضرورة إعادة النظر في هذه المسألة برمتها، صحيح أن ديوان الموظفين العام أو الوزارات المعنية لا تأخذ في معظم الحالات بتوصيات الأجهزة الأمنية التي تجري تلك التحريات ولكن مجرد إشعار الفرد الفلسطيني بأنه عرضة للمساءلة أو المراقبة لمجرد اعتناقه أفكاراً معينة هو أمر يدفع الشخص للاغتراب والسلبية والقلق والخوف وعدم الانتماء للوطن!

البعض اضطر لاستصدار شهادات من تنظيم فتح تبين أنه ملتزم بحركة فتح في منطقته وقام بتقديم الشهادة للجهات المختلفة، لماذا نصل إلى هذا الحال؟!مجتمعنا الفلسطيني متنوع في انتماءاته ومعتقداته السياسية و الجميع يحق له الحصول على وظيفة حسب مؤهلاته العلمية أو المهنية بغض النظر عن ميوله السياسية والفكرية.

وأرى أنه لا يجوز لأي جهة أمنية أن تعامل المواطن على أنه متهم حتى تثبت براءته، أو أن هذه الأجهزة هي الحريصة على الوطن ومصلحته وهي الأدرى بما يجب وما لا يجب،أو أنها الوصية على الناس وأرزاقهم وطريقة حياتهم!

وحتى نخرج من هذه الدوامة ونعالج هذا الخلل أقترح العمل بالاقتراحات التالية :-

1) يطلب من الشخص المتقدم أو المرشح للحصول على وظيفة عامة أو ترخيص بالتوجه إلى وزارة العدل أو إلى المحكمة لاستصدار شهادة تفيد بعدم قيامه بارتكاب جنحة أو جناية ويتم البت في أمره بناءً على مدى تأثير ارتكابه للجنحة أو الجناية على عمله الذي يرغب به وطبعاً ليس من المعقول أو المقبول معاقبة الشخص بالحرمان من العمل مدى الحياة لأنه ارتكب مخالفة عوقب بسببها.

2) وجود فرع في الشرطة المدنية متخصص بهذه القضايا أو بعبارة أكثر صراحة تجنب إشراك جهاز المخابرات مباشرة في هذا الأمر فالمرجعية للشرطة.

3) إيجاد تشريع صريح وواضح يعلن عنه في وسائل الإعلام ويتم توعية المواطن به ينص على أن كل التنظيمات الفلسطينية شرعية ولا يجوز حرمان أي شخص من إشغال وظيفة عامة بسبب ميوله السياسي والحقيقة أن هناك نصاً بهذا الخصوص في مسودة الدستور الفلسطيني وقانون الخدمة المدنية ولكن أجهزة المخابرات لا تتعامل به أو تتجاهله.

4) إيجاد مجال للتظلم وتقديم الشكوى من قبل المواطن إلى هيئة خاصة يتم تشكيلها خصوصاً لهذا الغرض وتصدر قراراتها بسرعة وخلال أيام معدودة وتكون قراراتها ملزمة.

5) تفعيل الرقابة في جميع الحالات نظراً لكون القرار بهذه القضايا يخضع في أحيان كثيرة لأمزجة شخصية أو اعتبارات عائلية أو جهوية لا سيما في المناطق الريفية.

إن عدونا سيحترمنا إن نحن احترمنا أنفسنا وستقوى شوكتنا بقوة نسيجنا الاجتماعي من خلال إنصاف كل فرد فينا ويحضرني عبارة وردت في صحيفة "العروة الوثقى" التي كان يصدرها السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده تقول ما معناه أن الفرد في المجتمع كالبرغي الصغير في الآلة الكبيرة إن تعطل أو أزيل تتعطل الآلة رغم كبر حجمها بالنسبة للبرغي الصغير.

وفي ظل الحديث عن إعادة هيكلة وترتيب أوضاع أجهزة الأمن الفلسطينية آمل أن يفتح المعنيون قلوبهم وعقولهم لإصلاح الخلل وتدارك الأمر فليس العيب في أن نخطىء ولكن العيب والعار باستمرار الخطأ والإصرار عليه!

[email protected]