يقول البعض أن لبنان آخذ في التحول من زمن الحرب إلى زمن السلم، وبذلك بدأنا نرى تجمعا سياسيا ملونا يطالب بالاستقلال والسيادة كان حتى الآن محصورا على فئة اعتبرت أن الوطن سلب هذه السيادة والاستقلال يوم فرضت عليه الوصاية السورية الدائمة. بدأنا نرى بوضوح تجمع فئات لبنانية كانت متحاربة ومتصارعة ومتباعدة، تتعاون في سبيل التفاهم على مستقبل الوطن. فهل كان اللبنانيون كلهم قصيري النظر حتى اليوم؟ أم أنه لم يكن لهم خيار استعمال هذا النظر عندما تقرب الأمور من السيادة والاستقلال المسلوبان، من قبل الشقيق، والذي يهدد دوما بالتوازن بين الاستقرار والسيادة، فإما هذه وإما تلك؟.
من المؤكد بأن للتطورات الدولية وتلك الجارية في المحيط أساسا كبيرا أدى، وبوتيرة مستمرة، إلى هذه الثقة عند اللبنانيين بأن الأمور تسير باتجاه سحب يد الشقيقة وضغطها عنهم، لا بل فإن الأيام القادمة سوف تشهد ضغوطا متعاظمة على هذه الشقيقة نفسها، ليس فقط في الموضوع اللبناني الذي أعطاها حجما دوليا، كما قال الدكتور سليم الحص في دفاعه عن التدخل السوري، بل في تحسين صورتها الدولية في موضوع الديمقراطية وتفرد الحزب الواحد، لا بل البيت الواحد، بالحكم، كما لو كنا لا نزال نعيش في زمن السلاطين.
وها نحن اليوم بدأنا نشعر بأن الرئيس السوري الشاب قد يكون عند حسن الظن، وسوف يقدر النصح، فينبري إلى تخفيف انغماسه بالموضوع اللبناني الداخلي من جهة، وسحب أزلامه من كل شبر منه، ثم التخلي عن دوره الإقليمي في قيادة الإرهاب ودعمه، وفي نفس الوقت التخفيف من سلطة الحزب داخليا وطروحاته بالنسبة للمحيط، فلا يجوز أن يبقى غير معترف باستقلال لبنان وتبادل السفراء بين البلدين، ولا يجوز أن يرفض كل الوقت الحل في العراق، لأن أحدا ليس بمعصوم عن المشاكل الداخلية لو أطلقت يد الإرهاب في بلاده، ولا يجوز له أن يهيج الفلسطينيين إلى ما لا نهاية ولا يقبل بإسرائيل وباليهود كشعب أصبح جزءا من هذه المنطقة، فالسلام لا يمكن أن يكون هدنة أو مناورة، كما حاول المرحوم الوالد (حافظ الأسد) أن يجعله يوم طرح شعاره المشهور "نعم للسلام ولا للتطبيع"، فلا تجزئة في موضوع السلام، وإما أن يكون سلاما شاملا كاملا تنفتح أمامه أبواب التعاون أو لا يكون.
هذا كله حسن وقد يؤدي إلى تطورات إيجابية، ليس على مستوى لبنان فقط، بل على مستوى المنطقة ككل، لأن سوريا وحدها اليوم من يقف بوجه الحلول في الشرق الأوسط، ويعتقد بأن الإرهاب خيار استراتيجي وسلاح لا يعرف أحد أن يديره أكثر من قادة البعث العريقين فيه.
ولكن ماذا عن حزب الله في لبنان؟ وماذا عن الخيار الإيراني؟
يحاول بعض اللبنانيين أن يقاربوا الحزب ويتحايلوا عليه بأن يعتبروه جزءا من النسيج اللبناني وأنه قد أعاد للبنان بعضا من الجنوب، وهو من أخرج إسرائيل حتى حدود الهدنة دون أن يوقع معها أي اتفاق. قد يكون هذا صحيحا بمعنى أن أفراد وعناصر الحزب هم من اللبنانيين، الشيعة بالتحديد، ولكن هل كان لهذا الحزب ولاء للبنان أو لتعايش فرقائه أو للقبول بالآخر؟ أو حتى، هل كان له أي مطلب بالسيادة والاستقلال؟
فهو نشأ يطالب بدولة إسلامية شيعية يحكمها "الولي" على غرار الجمهورية الإسلامية في إيران. وهو أول ما ضرب اخوته الشيعة من جماعة "أمل"، ثم اقتطع له دويلة في البقاع تحت حراسة السوريين وإمرة الحرس الثوري الإيراني. وأخذ ينشر أشكال التمييز والتخلف ويقتل من يخالفه بها، ففرض الحجاب على نساء لبنان، وهو أول إشارات التمييز، ثم فرض القتال على الناس، وفرض الانتحار سلاحا استعاره من جماعة حسن الصباح الفارسي التي عرفت بالحشاشين، وكان الوحيد الذي أبقى سلاحه يوم قبل اللبنانيون مرغمين بالحل السوري ولم يقبل بأن يفاوَض الجنوبيون، ليصبحوا كغيرهم جزءا من الوطن، وينسحب الإسرائيليون بدون الحاجة لكل هذا القتل.
حزب الله الذي يفاخر زعيمه ويعرف عن نفسه "بالممثل الشرعي لآية الله خمينئي في لبنان"، هل يمكن أن يكون شريكا في صنع السيادة والاستقلال؟ وماذا يفعل في الجنوب؟ هل هذا هو رأي اللبنانيين وقرارهم، بأن يستقطع الجنوب والضاحية ويتحرش بالإسرائيليين كلما خطر لأسياده في دمشق أو إيران، فيسيء إلى أهل الجنوب ولبنان؟ أم أنه بتزعمه عصابات الإرهاب المزروعة في الخارج، كما فعل ويفعل جماعات "القاعدة"، وهي تنتظر أوامر التحرك لتقلق المجتمع الدولي فيسقط على لبنان غضب الكل، سيقنع اللبنانيين بأنه يريد لهم الخير ويعدهم بالمن السلوى؟
الشيعة في لبنان جزء أساسي منه، لا بل لن يكون لبنان بدونهم، فهم سكنوا لبنان قبل مأرب وخراب سدها، وقد قبلوا شظف العيش مع الحرية، تماما ككل اللبنانيين، وتحولوا إلى الإسلام شيعة مع أبي ذر، وتحملوا فتاوى ابن تيمية وظلم المماليك، ورسموا حدود الجنوب مع ناصيف النصار، ولكنهم لن يشرفهم أبدا أن ينسبوا لمن تشدق على الله، عز وجل، فأطلق على القتلة اسمه، وغرر بأبنائهم الطيبين ليجعل منهم وحشا يسيّر بالريموت أو قاعدة فارسية متقدمة على المتوسط.
وعندما نتكلم على السيادة، فالسيادة لا تتجزأ، ولا يمكن أن يخرج السوريون ليبقى الإيرانيون وسلاحهم وهيكلية تنظيمهم، فحذار أيها اللبنانيون الشرفاء، يا من تحاولون اليوم أن تتجمعوا لدرس مستقبل البلد، من الوقوع في شرك كهذا، فنحن لسنا ضد الشيعة، لا سمح الله، أو حتى منهم تلك العناصر المنضوية لحزب الله، ولكن التفاوض مع قيادة هذا الحزب يعطيها دورا لا نريده أن يفسد الحلول التي ستحرر لبنان من كل القيود. فلن نكون بعد اليوم رهينة لأحد. ولن نقبل للبنان أن يقتل طفل فيه في سبيل الآخرين، ولا أن يقصف جسر أو محطة كهرباء، ولا أن يقتل الآمنون كأبناء قانا بسبب هذا الحزب ثم يستغل ذلك ليصبح بطلا بدل أن يكون المجرم الحقيقي. لقد اكتفينا من هذه المآسي وآن لنا أن نلحق الركب العالمي.
إن الكلام على تجمع اللبنانيين للمطالبة برحيل الغرباء كما قالها القرار 1559 يجب أن يتضمن حل حزب الله كجهاز إيراني يديره الغرباء في لبنان، وأن يلقي سلاحه، ويغير قادته، ويسلم عناصره المطلوبة بجرائم دولية، ويبدل لهجته العنيفة، وطريقة التعامل مع الأمور التي يعتمدها، وعليه أن يخفف من نشر الحقد بين الأجيال، ليسهم في بناء الوطن، فحتى لو أراد الشيعة أن يمارسوا حكما ذاتيا مقبولا عليهم جميعا في واحدة من مناطق لبنان وضمن نظام يقبله اللبنانيون، فلا مانع طالما لم يؤدي ذلك إلى الانتقاص من سيادة البلد واستقلاله وحرية بنيه. أما أن يتزعم حزب الله كما هو اليوم، بسلاحه الغريب، وطروحاته المستوردة البعيدة كل البعد عن مصلحة لبنان، وزعامته المأمورة من الخارج، وتمويله وأجهزته التي تسيء إلى سمعة اللبنانيين أينما وجدوا، فذلك مرفوض ولن يؤدي إلى سلام داخلي أو خارجي، ولن تقوم قيامة للبنان ما دام من يمثل أبناءه لا يجرؤ على القول بأن حزب الله ليس نسيجا لبنانيا، إنه خرقة مختلفة تماما رقع بها هذا النسيج الجميل، نسيج شعب لبنان، لتغطي على أصالته وتضل الناظر إليه فيعتقد بأنه وجه من وجوه لبنان.
وإلى الأخوة الشيعة حتى في حزب الله نقول: لا تسيئوا فهم الأمور ولا تعتقدوا أن من واجبكم التعلق بهذا الحزب، لأنه ولو أتاكم ببعض الأموال من الخارج فقد دفعتموها حقدا على الآخرين ودماءً ذكية بدون ثمن، وإنه قد أذلكم وسلب حريتكم وجيّركم للغرباء وساهم في تخريب البلد، ولو أنكم لم تدفعوا فواتير الكهرباء، فسوف تدفعونها أضعافا بالديون التي ألزموا بها البلاد، وبالكره الذي أحاطوكم فيه من كل صوب، فلن يقبل بكم العرب طالما تحاربون في صفوف إيران ولو اشتريتم إرهابيي حماس والجهاد، ولن يقبل بكم العالم وزعماؤكم يفاخرون بالقتل ويربون أولادكم على الحقد.
فيا شيعة الحق، لو أن أئمتكم الحقيقيون يسمح لهم بالكلام، لردعوكم، والله، عما انتم به، ولحرّموا على أمثال هؤلاء أن ينتسبوا لكم أو يسموا عليكم. فحرامٌ على الدماء التي أهرقت في سبيل أن يتنعم بعض من تستر بالدين زورا، وأسفٌ على أبرياء غرر بهم لتخرب بلاد العرب، وتسلب أموالهم، ويصبح زعماؤهم صبية حاقدون يتلهون بقتل الناس، من أهلهم قبل الغير، ويشوهون صورة الله وكتابه.
25/1/2005

الكولونيل شربل بركات