بادي ذي بدء أقول لكم كل عام وانتم بخير... عسى أن تكون أعيادنا القادمة عامرة بالأفراح والمسرات والانتصارات الحضارية.

و كما عودتكم على كتابة الخواطر كلما غبت عنكم... إلا أنني هذه المرة ذهبت إلى مسقط رأسي حيث يرقد " قس بن ساعده " خطيب العرب وبليغهم، بجوار مدينة الأخدود الأثرية والتاريخية في منطقة نجران العريقة، وحيث تتعانق النخيل الباسقات مع أشعة الشمس القادمة عبر صحراء الربع الخالي، الذي يطلق عليه أهل نجران " الربع الغالي ".

عشت أيامي متأملا في الوجوه التي لا زالت تتعامل مع الواقع بعفوية مفرطة، إلى درجة أنني أشعر أحيانا كثيرة، وكأن هؤلاء الناس يسكنون كوكبا خاصا بهم. حيث تجدهم يفلسفون الأحداث المحلية والعالمية بطريقة تختلف تماما عن الأطروحات التي يتداولها الناس والإعلام بشكل عام. بل أنهم أحيانا كثيرة يسخرون منك عندما تعطي للأحداث تفسيرا قلقا أو مبالغا في عالميته، دون أن تخضعه إلى تفسيرهم الذي يفلسف الأمور بطريقة ميتافيزيقية، ممزوجة بفكر تشم فيه رائحة الزمان القديم، الذي نطق فيه مهد الأخدود بين يدي أمه.

هنا... في نجران: تجد الحكمة على لسان طفل... أو شيخ... أو أي إنسان أمي، ليتضح لك أن قس بن ساعدة لم يكن استثناء على القاعدة النجرانية، بقدر مايكون الاستثناء... هنا.. أن لا تجد الحكمة في نجران. وكنت أتمنى لو أن أهل الحكمة والتاريخ يمتعون نظرهم وفكرهم بجامعة تليق بهذا التاريخ تحمل اسم هذه المدينة التاريخية " الأخدود " التي سطر التاريخ بإسمها واحدة من أعظم الملاحم التاريخية في الدفاع عن الحق والمبدأ قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة. وأن يتمكن الموسرون من بناء بنى تحتية سياحية متميزة، كي يتمكن السائح المحلي والخارجي من زيارة هذه المنطقة الغنية بخيراتها الكثيرة والاستمتاع بأجوائها المعتدلة، وبالتنزه بين بساتينها الجميلة، التي ما أن تستشعر قدوم زائر إليها، إلا و تستقبله بعبق الأرض، وسنابل القمح، وأهازيج العصافير، بصورة احتفالية تنقلك إلى اللحظة التي قال فيها خطيبها المفوه عبارته الشهيرة ( البينة على من أدعى واليمين على من أنكر).

هذه المنطقة: أعطت دروسا منذ آلاف السنين في التضحية المقدسة، والبلاغة في الخطابة، وقوة الحكمة والحجة، والقانون، عبر ما قاله بعض المنتسبين إلي ترابها من أقوال مأثورة بقيت ما بقي الزمان يحفظها في ذاكرته، بالرغم من تعاقب الأحداث على هذه المنطقة التي حاولت عبر العصور المتتالية أن تدفن تاريخا أقوى من قدرة الدفان، وأنصع من محاولة السواد في التسويد.

بل أنها كلما تعرضت للتقزيم.. تتعملق...

وكلما تعرضت للتجهيل... تتعلم....

وكلما تعرضت للموت... تحيا من جديد على أنقاض جثث الذين يريدون لها أن تموت.

هكذا... هي نجران... حبيبة طفولتي وصباي.. وكل عمري...

تعلمنا من جبالها... الشموخ..

ومن نخيلها... الكرم...

ومن ماءها العذب... السخاء...

ومن امتداد ذراعيها نحو الشمس... حب المعرفة... والحقيقة.

وقد عدت من نجران بخواطر جاهزة ومعدة سلفا، حيث فتشت في الأوراق القديمة عندما كنت أمارس " جنون الشخبطة " فوجدت ما يستحق النشر هنا في إيلاف تحت مسمى " خواطر العيد ".

فانتظروها في الحلقات القادمة.

وكل عام وأنتم... ترفلون بالمحبة !!

سالم اليامي [email protected]