ليس من الممکن إنکار الدور الذي لعبه الاتراک على صعيد التأريخ الاسلامي، وخصوصا فيما يتعلق بإنشاء الدولة العثمانية التي کانت لبنتها الاساسية العرق الترکي. ولامناص من الاقرار بأن الدولة العثمانية قد إستطاعت التوسع بکل الاتجاهات و حتى إنها إجتاحت جزءا لايستهان به من الاراضي الاوربية وحاصرت" فينا "عاصمة أقوى دولة أوربية في حينها، وأسقطت روما الشرقية التي کانت تتجلى في الدولة البيزنطية. ولم يکن هذا المجد الترکي للإسلام مبني على مبادئ وقيم إنسانية تدعو للتسامح و المحبة، وأنما کان مبنيا على روح القسوة و الشدة التي غلبت على الجيوش العثمانية التي کانت جلها من العرق الترکي وقد أصبح الاعتماد على العنصر الترکي في بناء و بقاء وإستمرار الدولة العثمانية هو معلما مهما من معالمها التي تميزت بها حتى أن الامتداد العثماني أوربيا لم تجعل من الرداء الاسلامي الذي کانت تتوشح به الجيوش العثمانية سببا لإنهاء دور العامل العرقي بل و على العکس، فإن الاسلام ظل مرادفا في أذهان الاوربيين مع العنصر الترکي. وحتى هذه الايام لازلن الامهات الاوربيات وفي دول أوربية متباينة حين يتحدثن عن حقبة الاحتلال العثماني، فإنهن يروين لأطفالهن حکايات عن " الترکي الجلف و القاسي" بل وحتى يشبهن الاتراک بالارواح الشريرة التي تطارد الناس الطيبين. ورغم إننا ندرک أن تلک الحکايات قد تتخذ بعدا أسطوريا يجنح في کثير من الاحيان بعيدا عن الواقع، لکنه مع ذلک يضم في طياته جانبا لايستهان به من الحقيقة، فالمذابح العثمانية في الارمن والتي يقشعر منها الابدان هي بمثابة مدرک تأکيدي على هذا الجانب. و حين نطالع المشاهد التأريخية لولاة و قادة الدولة العثمانية الاتراک المنصبين في المناطق العربية على وجه الخصوص نرى تکرار تلک الصور المروعة. ولعل مجازر جمال باشا السفاح التي حدثت في لبنان تروي حقائق مروعة من المغالاة في القسوة و التعذيب الترکيين الذين وقعا على رؤوس القوميين العرب المناهضين للدولة العثمانية. أما الحديث عن الفساد الاداري و المالي و القضائي للدولة العثمانية في ممتلکاتها المختلفة، فهو الانکى و الاوضح للعيان هذا الفساد الذي لم تستطع الدولة الاتاتورکية من القضاء عليه أو إزالته وأنما توارثته مع أسلوب القسوة في التعذيب، لذا ليس غريبة تلک الروايات التي الروايات التي تناقلتها وکالات الانباء عن إشارات الفساد المالي لکل من " تانسو تشيلر" و " نجم الدين أربکان" و " مسعود يلماز" الذين کانوا رؤساء وزرات في ترکيا لفترات مختلفة، بل وقد تکون غيضا من فيض ! وقد کان العامل الاهم من بين العوامل المهمة التي أدت الى سقوط الدولة العثمانية هو مسألة الفساد التي کانت مستشرية في کل مفاصل الدولة العثمانية من قمة رأسها الى أخمص قدميها، ولذا حين إنتهى أمر رجل أوربا المريض الى يد کمال أتاتورک وصارت دولة مقلمة الاظافر، لم يکن هناک " من غير الاتراک " من يأسف لتلاشيها من عالم الوجود بل وحتى کان مدعاة للفرح و السرور. لکن مجئ کمال أتاتورک بدولته العلمانية في مظهرها و القومية الشوفينية في ديدنها، لم ينهي تلک المظاهر التي تحدثنا عنها وإنما إستمر العمل بها، وما الاسلوب الدموي الذي إتبعه الجيش الترکي في عام 1937 في قمع إنتفاضة درسيم الکوردية إلا دليلا واقعيا على إستمرار ذلک النهج العريق في تعاطي الساسة الترک مع القضايا الملحة، لکن ترکيا الاتاتورکية لم تقف عند حاجز قمع الانتفاضة و أنما تجاوزتها الى تحريف الحقائق التأريخية وتزويرها، ففي التأريخ الرسمي الترکي يدعون أن إنتفاضة درسيم قد حدثت في عام 1938 حتى يغطون على مشارکة کمال أتاتورک في تلک الجريمة، ذلک أن أتاتورک کان في عام 1938 مريضا وکان عام موته. أما الرعيل الذي جاء بعد أتاتورک فلم يحيد قيد أنملة عن ذلک النهج القمعي وإنما ظل وفيا له، ومن المفيد أن نشير هنا الى الاجراءات التعسفية و القمعية التي إتبعتها الدولة العلمانية الترکية مع التجار الرئيسيين الذين کانوا يهيمنون على سوق إسطنبول عام 1956، إذ کانت معظم الرساميل الضخمة بيد التجار اليونانيين و الارمن و اليهود وحتى تضمن إنتقال رساميل هؤلاء التجار الى التجار الاتراک، لجأت الى قانون ضرائبي غريب طالبت بموجبه أولئک التجار بضرائب طائلة لايستطيعون إطلاقا الايفاء بها و بموجب ذلک القانون المجحف و غير المبرر قانونيا لم تقم بمصادرة ثروات أولئک التجار فحسب وإنما قامت بتصفية أعدادا کبيرة منهم فيما هرب نفر منهم بجلده کي ينجو من مصيدة الفناء الترکية. إن أهمية العامل العرقي في توجيه سياسة الدولة الترکية هي من القوة بحيث لايستطيع المتتبع بسهولة إنکار ذلک أو التغاضي عنه، فالدور الترکي في الازمة القبرصية کانت و مازالت أسيرة العامل العرقي وقد کان هذا العامل هو السبب الرئيسي وراء إفشال الکثير من الجهود و المبادرات الدولية لحل الازمة القبرصية حلا عادلا. أما الموقف الترکي من أزمة " ناغورني قرباغ" في مابين جمهوريتي أذربيجان و أرمينيا فهي تدعم الموقف الاذربايجاني بدافع العامل العرقي رغم أن الحق لايجانب الاذربايجانيين، إذ أن قاطني منطقة ناغورني قرباغ المتنازع عليها بين الدولتين الانفتين معظمهم من الارمن " 80% أرمن و 20 % آذر". والامر نفسه قد کان الباعث وراء الحملة المحمومة الترکية في الدفاع عن الاتراک المتواجدين في بلغاريا. أما الذي يحدث الان فيما يتعلق بملف کرکوک فهو شئ يجري في ذات السياق، وبرغم محاولة الساسة الترک التشبث بالمبرر الانساني و الاخلاقي في تصديهم لملف کرکوک، إلا أن الحقائق تفضحهم على الارض خصوصا حين يظهر دورهم السرطاني في تغذية و تسيير بعض الاطراف السياسية الترکمانية بإتجاهات هي أساسا ليست في صالح الترکمان أنفسهم. وليس بغريب على ترکيا من بعد أن إستنفذت کل السبل و الوسائل الترهيبية و الترغيبية ضد الکورد في إقليم کوردستان فيما يتعلق بوضع حد لأمانيهم بإرجاع الکورد المرحلين عن کرکوک قسرا، أن تلجأ الى لغة التهديد بالتدخل العسکري و هو آخر مافي جعبة أنقرة العرقية للنخاع لتحسم المسألة، بيد أن الظروف الدولية و الوضع السياسي و الاقتصادي الترکي المزري ليسا بمشجعين إطلاقا على هکذا مغامرة، رغم إن ترکيا قد تلجأ إليها في لحظة إندفاع و حماسة قومية مفرطة إلا أن النتائج النهائية لهذا التدخل السافر سوف لن يکون في کرکوک فقط إذ أن کورد العراق يعتبرونه مسألة حياة أو موت وهي العامل الاهم في جمع الحزبين الکورديين الرئيسيين في خندق واحد وأنما في ديار بکر و ماردين و باتمان إذ أن کورد ترکيا هم الان معبأين أکثر من أي وقت مضى ضد سياسات أنقرة المشبوهة و المفضوحة فيما يتعلق بالملف الکوردي عموما و ملف کرکوک خصوصا. والسؤال هو هل سيکون هناک في أنقرة سياسي ترکي يستقرأ مستقبل المغامرة الترکية العسکرية التي من المزمع القيام بها في کرکوک من قبل الماکنة العسکرية الترکية أم أن الساسة سيصبحون في نهاية المطاف جنرالات ولکن في الزي المدني!!

کاتب و صحفي کوردي
مقيم في ألمانيا