2. الإنجيل

تعتمد المسيحية أربعة أناجيل وليس إنجيلاً واحداً. ومحاكمة دقيقة لنصوص هذه الأناجيل الأربعة تؤكد أنها جميعاً كانت قد كتبت بعد مائة وخمسة وأربعين عاماً بعد الميلاد، وأن نسبتها إلى الرسولين يوحنا ومتى والقديسين مرقص ولوقا ليست صحيحة والشواهد على زيفها متعددة وكثيرة تفصح عنها النصوص الواردة في الأناجيل الأربعة بالإضافة إلى الفاصل الزمني الطويل بين كتابة الأناجيل من جهة والحوادث الموصوفة فيها من جهة أخرى وهو زمن كفيل بتحوير الحادثة وتغيير روايتها حتى إخراجها من سياقها خاصة في زمن رسوخ الجهل وسيادة الأمية، ثم بين كتابتها من جهة وبين إنتهاء حياة الأخير من هؤلاء الرسل والقديسين من جهة أخرى. نؤكد على هذه الحقيقة ليس لنطعن بصدقية الأناجيل بمقدار ما هو للكشف عن حقيقة أكبر ذات شأن خطير في العقيدة المسيحية والتي تؤكد أن مسيحية اليوم تتعارض تماماً مع مسيحية يسوع وتنفيها حتى يمكن القول بكل ثقة أن مسيحي اليوم هم ضد مسيحية يسوع وكافرون بها.
يقرأ المسيحيون في كتبهم وفي " أعمال الرسل " من إنجيلهم أن بولص " الرسول " كان من أشد أعداء المسيحية وتروي بعض الروايات التاريخية أنه قام بقتل الآلاف منهم في دمشق وحدها لكنه ولمفاجأة الجميع تحول إلى المسيحية وأصبح مطارداً من قبل سلطات الدولة الرومانية بعد أن كان هو نفسه السلطة الرومانية التي تطارد المسيحيين. ولد بولص في مدينة طرسوس في جنوب الأناضول لأب عسكري مجند في أحد الجيوش الرومانية في حوالي العام العاشر بعد الميلاد ولما كان أبوه من الفرّيسيين اليهود الذين يؤمنون بشريعة موسى المجردة فقد أطلق على المولود إسماً يهودياً هو شاؤول واستصدر له فيما بعد بطاقة هوية باسمه اليهودي وبديانته اليهودية. تعلم شاؤول حتى أصبح يجيد اللغة اليونانية إجادة تامة ومتفقهاً في الشريعة الموسوية ثم انتسب للجيش الروماني باسم بولص وحقّ له أن يحمل بطاقة هوية المواطنة الرومانية بهذا الإسم. عمل بولص ضابطاً عسكرياً في القدس مكلفاً بقيادة حملات عسكرية لتحصيل الخراج والضرائب من مواطني يهودا التي حكمها الرومان حكماً مباشراً بعد أن حلّوا إدارتها الذاتية بخلاف مواطني الممالك التابعة الأخرى الذين كانوا يدفعون متحققاتهم إلى سلطتهم الذاتية كما في مملكة السلوقيين في سوريا والبطالسة في مصر.
كان لليهود مملكة في فلسطين، يهودا، تتمتع بقدر وافر من الإستقلالية تحت حماية الفرس الذين حظوا بثقة اليهود وولائهم. وعندما اجتاحت الجيوش الرومانية فلسطين عام 63 ق.م وطردوا جيوش الفرس منها، وضعت روما يهودا تحت حكمها مباشرة ورفضت منحها حكماً إدارياً مستقلاً، كما كان حالها تحت حكم الفرس، وعينت أحد القادة الرومانيين، هيرودس، ملكاً عليها عام 37 ق.م. قابل الرومان ولاء اليهود للفرس بسياسة الزجر الفظة. فبالإضافة إلى إنكار حقهم بالإستقلال النسبي وتعيين ملك روماني عليهم قاموا بفرض ضرائب باهظة عليهم لا يقوون على حملها وأوكلوا جبايتها إلى حملات عسكرية بقيادة الضابط الروماني بولص. كما اضطهدوهم دينياً لكن مع الإعتراف بحقوق العبادة وفق الشريعة وبحماية دينهم من الإنتهاك أو التحول الديني لأي يهودي حسب ما يقرره الربابنة. لم يقبل اليهود بالطبع هذا الإحتلال الجائر بعد أن كان لهم مملكة مزدهرة تحت الحماية الفارسية خاصة وأن عبئ الضرائب أخذ ينعكس عليهم بفقر متزايد. قاموا بعشرات الإنتفاضات والتمردات خلال العقود الخمس الأولى للإحتلال لكنهم فشلوا في تحقيق أي نجاح يذكر حتى أخذ اليأس يستولي عليهم فهجرت أعداد متزايدة من اليهود المدن، حيث الخضوع المباشر للسلطة الرومانية، إلى الصحراء حيث يتنفسون نسمات الحرية، بعد أن يئسوا من دحر الإحتلال الروماني والتحرر من سطوته الجائرة، وشكلوا مستعمرات صحـراوية أهمها خربة قمران وعُرفوا باسـم " يسين Essenes " ـ ولعله المرادف الآرامي لاسم " اليائسين " العربي ـ وظهر من هؤلاء يوحنا المعمدان وكانوا يبشرون بالزهد بالحياة النجسة إنتظاراً للمسيح المخلص والإنتقال إلى الحياة الأبدية الطاهرة كما دعوا إلى حياة العزوبية الطاهرة وتحاشي النساء، وبالزهد في الطعام والشراب وسموا بِ " الناصريينNaziriti " أي المنذورين والزاهدين، وآمن هؤلاء بأن روح الله تحل بهم وأنهم منذرون إلى الله وعلامة ذلك إطالة شعر الرأس ـ وهو الطقس الذي ما زال كهنة الكنيسة الأرثوذوكسية يمارسونه حتى اليوم كما لأمد قريب كانت العائلات المسيحية تنذر أطفالها الذكور فتترك شعورهم طويلة ولا يقصها إلا كهنة دير صيدنايا قرب دمشق ـ فكان يجتمع قادتهم فقط على مائدة عشاء متواضع بسيط. لقد شكل " اليائسين الناصريين " القاعدة الروحية والقيمية المباشرة للمسيحية وما اسم " النصرانية " إلا التعريب اللفظي للاسم الآرامي العبري " ناصريتيNaziriti " بمعنى الزاهد وليس اسم النسب إلى مدينة الناصرة كما يُعتقد خطـأً، ويروي أحد الأناجيل أن يسوع قال عندما أشرف على دخول الناصرة.. " لم أعرف هذه المدينة من قبل ".
أما فيما عدا " اليائسين " فقد إنقسم اليهود إلى قسمين متعارضين، " الهيروديينHerodeans " التصالحيين (نسبة إلى هيرودس) مقابل " الزيلوتZealot " الثوريين الرافضين للتبعية الرومانية. إنتصر الهيروديون للملك الروماني هيرودس وطالبوا بعد موته عام 4 ق.م بتنصيب أحد أبنائه ملكاً على يهودا إنما بدولة مستقلة تابعة لروما. أما الزيلوت فكانوا يرفضون دفع الضرائب وعارضوا التعداد السكاني الذي أمرت روما بإجرائه ما بين 4 ـ 6 م الذي عارضه المسيحيون فيما بعد إنما بإدعاء مختلف يزعم أن إجراءه كان بهدف ضبط الوليد الجديد وهو المسيح المنتظر وقتله، ودعا الزيلوت إلى الثورة المسلحة وتحرير يهودا نهائياً من الحكم الروماني، وظهر فريق منهم باسم " السيكاريSicari " أي حملة الخناجر الذين كانوا يطعنون الرومانيين بالخناجر. هؤلاء الزيلوت هم الذين قاموا بثورة كبرى عام 70 م مما استدعى إستقدام أكثر من جيش روماني لإخمادها ومحاصرة زهاء ألف منهم في قلعة " ماساداMasada " حيث فضل المحاصرون الإنتحار على الإستسلام، وفي تلك الحملة هدم الرومان الهيكل وأقاموا مكانه معبداً لإلههم " زيوسZeus ". وقام الزيـلوت مرة أخـرى بثورة ناجحة عام 132م بقيادة " باركوخبا " وألحقوا هزيمة شنعاء بالجيش الروماني الأمر الذي استدعى الإمبراطور " هدريان " أن يستقدم جيشاً لجباً من بريطانيا (35000) ويقوده بنفسه ليحتل فلسطين مرة أخرى ويستبدل إسم أورشليم باسم " إيليا ".
ما أكده المؤرخون هو أن أكثر من مائة ثورة وتمرد قامت في يهودا ما بين 63 ق.م و 70 م إلاّ أنهم لم يتعرضوا لها بالتفصيل. لا بدّ أن إحداها وقعت أثناء ولاية بيلاطس البنطي(Pilate Pontius) 26 ـ 36 م وقادها أحد أتباع يوحنا المعمدان المعمد في كهنوته واسمه " يسوع " وكان اسماً شائعاً بين اليهود ـ يكتب باليونانية بحرف الأول جي (J) الذي يلفظ يي (Ye) فيكتب“ جيزس “Jesus ويلفظ يسوع ـ ويسمي اليهود اليوم (يوسي) وهو أقرب إلى يوسف منه إلى عيسى الوارد في القرآن. نادى يسوع بكل ما نادى به اليسيني الناصري يوحنا المعمدان ونادى باستقلال يهودا إستقلالاً تاماً كما طالب الزيلوت لكن بالطرق السلمية. كان الرومان قد أعدموا يوحنا المعمدان وجزوا عنقه بالسيف واليوم وبعد فترة قصيرة يواجهون يسوع الذي أخذت دعوته تنتشر بسرعة بين الفقراء والحرفيين الصغار الذين استنزفتهم الضرائب الباهظة حتى أخذت الجماهير اليهودية العريضة تناديه " ملك اليهود " فلم ترَ روما بدّاً من إعدامه. حاك الرومان مؤامرة مع الهيروديين وربابنتهم وحاكموه بتهمة التبشير بديانة أخرى غير اليهودية ـ وكانت روما متعهدة رسمياً بحماية الديانة اليهودية ـ وبالإدعاء بأنه ملك اليهود. طالب الهيروديون بإعدامه صائحين بأنهم لا يقبلون ملكاً عليهم سوى القيصر !! وهكذا تم إعدامه بتعليقه على شجرة وعبارة " ملك اليهود " أعلى رأسه.
إنتشرت رسالة يسوع الثورية الداعية للحرية والعدالة للطبقات اليهودية المسحوقة إنتشار النار في الهشيم وخاصة بين اليهود الصدوقيين في دمشق الذين قابلوا إعدام المسيح بثورة عارمة وطردوا جميع عمال الدولة الرومانية منها. كان على روما أن تتدخل فأرسلت جيشها من فلسطين بقيادة بولص إيّاه الذي دخل دمشق بوحشية بالغة وأعمل بأهلها تقتيلاً حتى قيل في بعض المصادر أن خيول جند الرومان غاصت بالدماء في أسواق دمشق حتى الركب. ولا غرو في ذلك فقد اعتاد بولص على إمتصاص دماء الشعب من خلال جمع الخراج والضرائب لحساب خزائن روما. لم يمضِ وقت طويل بعد تلك المجزرة التاريخية حتى هبّ أهل دمشق ثائرين مرة أخرى مطالبين بالتحرر وإلغاء الضرائب. ومرة أخرى طلبت روما إرسال جيش لقمع الثورة فتم ذلك بقيادة بولص أيضاً. وبعد أن إجتاز الجيش نهر الأردن قريباً من بحيرة الحولة وأثناء إغفاءة قصيرة لقائد الجيش بولص حدث ما غيّر وجه العالم وتاريخ البشرية. لم يكن ذلك الحدث الخطير إلاّ حلماً قصيراً حلمه بولص خلال إغفاءته القصيرة. لقد تراءى له المسيح متسائلاً باستنكار.. لماذا تضطهدني يا شاؤول ؟!! ـ علماً بأن بولص لم يكن قد رأى المسيح قط وكما لو أن المسيح وهـو إبن الله، كما اعتقد بولص حالتئذٍ، لا يعرف لماذا يضطهده بولص وهو جامـع الضرائب المعروف بالقوة العسكرية !! إدّعى بولص منذ تلك اللحظة أنه الرسول الذي كلفه المسيح بنشر رسالته وأنه فقد البصر. لكنه لم يقل كيف تخفى هارباً من القيادة حتى وصل دمشق واستدل على أحد معارفه ليختبئ عنده بضعة أيام وهو أعمى تماماً وقبل أن تنزل عليه روح الله لتعيد إليه بصره !! فهل كان بولص رسولاً حقاً ؟؟
نعم، ليس ثمة شك في أنه كان رسولاً حقاً، لكن ليس رسول يسوع " إبن الله " الذي لم يعرفه ولم يره بولص قط والذي طالما إمترأ إضطهاده سواء بقتل أتباعه كما حصل في مذبحة دمشق أم بتحصيل الضرائب بالقوة من رعايا يهودا الذين طالبهم يسوع بعدم دفع الضرائب قائلاً..." أعطوا مال قيصر لقيصر ومال الله لله ". كان رسولاً حقاً لكن رسولاً لقيصر روما وليس ليسوع الذي كان قد تنبأ لتلميذه الأكبر " بطرس" أن يكون الصخرة التي تبنى عليها كنيسته. فهل أخطأ يسوع " إبن الله " في نبوءته هذه حتى وجدنا المسيحية بكنائسها وكهنتها وكتبها وطقوسها قد تأسست على هرطقات بولص وليس على صخرة بطرس ؟!! كان بولص رسولاً مخادعاً للقيصرية إذ رأى أن روما لا تستطيع قهر المسيحية إلاّ من داخلها بعد أن زاد إنتشارها بعد إعدام يسوع خلافاً لكل لتوقعات روما. وهكذا إندس داخلها بحيلة ذكية هي الرؤيا قرب الحوله والتي جعل منها رسماً له كرسول للمسيحية.
لو كان بولص صادقاً مع نفسه على الأقل وأنه رأى يسوع يسائله عن إضطهاده للمسيحيين كما إدّعى ثم تكليفه بحمل الرسالة المسيحية ونشرها بين الأمم، وأنه من أجل ذلك فرّ من العسكرية وهو القائد للجيش ليصبح مطارداً من قبل السلطات الرومانية بدل أن يكون هو المطارد للجماعات المسيحية، لو كان صادقاً في كل هذه الحكاية لما اختفى بعد ذلك مباشرة لاثني عشرة سنة في الجزيرة العربية لم يقم خلالها بأية أعمال تذكر، وهو لم يذكر لا من قريب أو بعيد ما كان يفعله في الجزيرة !! إن شخصية بولص هذا هي لغز الألغاز الكثيرة في الديانة المسيحية. فهذا الشخص الذي يحمل أكثر من إسم وأكثر من هوية ويحترف أكثر من حرفة، من حائك للخيام إلى عسكري يجمع الضرائب إلى قائد لحملات عسكرية رومانية إلى ما لا نعلم في الجزيرة العربية إلى رسول إلهي، هذا الرجل اللغز يرى فجأة في غمار مقاومته للمسيحية حماية لنقاء شريعة موسى من جهة ولريوع الدولة الرومانية من جهة أخرى، يرى المسيح في حلم يقظة أو إغفاءة فتتغير حياته تماماً وتجعل منه رسولاً للمسيحية بعد أن كان عدواً لها، لكنه مع ذلك يتخلى عن كلتا الرسالتين ليهرب إلى الجزيرة العربية ويختفي فيها لمدة إثني عشرة سنة وهي مدة كافية لتغير في الإنسان كل شيء !! لا يمكن لأي إنسان مهما كان قليل الإيمان، وليس كمثل بولص القوي الإيمان، أن يتسلم أمراً من الرب مباشرة فلا يقوم بتنفيذه حالاً بل يؤجله لاثني عشرة سنة !! ليس من عاقل يوافق على مثل هذا الأمر أو يصدقه. أما لماذا يوافق المسيحيون فذلك لأنهم يفقدون دينهم إن هم لم يوافقوا عليه ويصدقوه حيث أن بولص وحده هو المؤسس لكل شرائعهم.
ما يفضح لغز بولص هو أعماله. فبعد إختفاء دام إثني عشرة سنة على واقعة الرؤيا المزعومة ظهر فجأة في دمشق يبشر بمسيحية ليست كالمسيحية، مسيحية مختلفة تماماً عن تلك التي دعا إليها يسوع. دعا يسوع اليهود دون غيرهم (جئت لأمتي...) إلى الثورة على روما من أجل الإستقلال وإلغاء الضرائب الباهظة، من أجل تخليص الفقراء من الفقر وإطعام الجياع. أما بولص فقد دعا الأمم من غير اليهود لديانة لا علاقة لها بأمور الدنيا وإلى الولاء لروح الله وابن الله يسوع المسيح الذي لا يخص اليهود ولا علاقة له بقضاياهم مع روما وإلى نبذ شريعة موسى إذ قـال.. " وما شريعة موسى إلاّ كقشرة البيض التي يخرج منها الفرخ فيتحرر منها ويدفع بها خلفه برجله " !! علم المجلس المسيحي في القدس، وهو صاحب الولاية، بهرطقات بولص فدعاه للحضور إلى القدس، ولدى حضوره طلب بطرس وهو عميد المجلس من يعقوب (أخو الرب) أن يحضر للمجلس لمواجهة بولص. رفض يعقوب الحضور بسبب أنه لا يريد أن يرى هذا الشخص الكريه، كما وصفه، وأنه إذا ما حضر فسيبصق في وجهه.
تقول المصادر المسيحية أن الخلاف بين المجلس المسيحي في القدس من جهة وبولص من جهة أخرى تمحور حول إذا ما كان يجوز لغير اليهودي أن يعتنق المسيحية وهو ليس مختتناً كما لا تجوز مشاركته في الطعام كما تشترط شريعة موسى. في الحقيقة أن هذا هو مظهر الخلاف فقط، أما الجوهر فهو أعمق من ذلك بكثير، الخلاف يصيب جوهر المسيحية. فمخططات بولص كانت تهدف إلى تغريب المسيحية عن شعب يهودا فإذا ما أضحت دين الأمم من غير اليهود فذلك يعني مباشرة أنها ستقطع كل علاقة لها بقضايا اليهود مع روما كالإستقلال وإلغاء الضرائب والعدالة الإجتماعية. مسيحية يسوع كانت تستهدف قبل كل شيء استقلال يهودا وبعث مملكة داؤود. ولنا مثال باجتماع التلاميذ ألاثني عشر في عليّة سمعان ( بطرس ) في الجليل كي يلتقوا بعد الصلب بشبح المسيح كما وعدهم. عندما ظهر لهم المسيح أخبرهم بأنه على عجل ولا يستطيع أن يجيب إلاّ على سؤال واحد فقط؛ وبعد أن تشاور التلاميذ سألوه.." متى تقوم مملكة داؤود؟ ". هذا ما يقطع بأن إستقلال يهودا وبعث مملكة داؤود كان القضية المركزية لمسيحية يسوع؛ أما مسيحية بولص فليس لها شأن في كل هذا، إنها ديانة سماوية لا علاقة لها بما هو دنيوي يخص حياة الناس على الأرض، وهي بهذا التوجه نصرة للإحتلال الروماني.
ما يستوقف المرء طويلاً وباندهاش هو أن بولص الفرّيسيّ المتعصب لشريعة موسى ونقائها أصبح رافضاً للشريعة على عكس المجلس المسيحي الذي ظل حافظاً لها تطبيقاً لقول يسوع.. " جئت لأكمل وما جئت لأنقض ". سمح بولص للمسيحيين بعدم الختان وقال بمشاركة المسيحي لليهودي بالطعام وهو لم يخجل في وصف بطرس الرسول بالنفاق عندما شارك بطرس المسيحيين غير اليهود بالطعام بعد تردد. لكن بطرس دافع عن نفسه ووصف بولص بالكذاب. وبالرغم من أن بولص فارّ من الخدمة العسكرية الأمر الذي يشكل جريمة بحد ذاته خاصة وأنه كان يقود حملة مرسلة في مهمة قتالية، لكن السلطات الرومانية بدل أن تلاحقه وتعاقبه قامت على العكس تماماً من ذلك ووفرت له الحماية التامة وساعدته في نشر ديانته المسيحية غير اليهودية، أو الأحرى اللامسيحية، في مختلف أطراف العالم القديم. ومنعت روما محاكمته في القدس كما طالب اليهود بإصرار حين قاد من معه من المسيحيين متجاوزاً الحد الفاصل للمذبح في الهيكل وهو ما يشكل جريمة كبرى لدى اليهود. تدخل القيصر نفسه ومنع محاكمته في القدس وفي قيسارية وأمر بنقله إلى روما وتوفير إقامة مريحة له هناك.
خاتمة القول هي أن مسيحيي عالم اليوم هم من مسيحيي بولص وليسوا من مسيحيي يسوع وبطرس، وهم بذلك متنكرون لروح يسوع ولمسيحية بطرس حيث أخرجوا حكاية يسوع عن سياقها وحمّلوها ما لا تحتمل فجعلوا يسوع إبن الله علماً بأن الأناجيل المعتمدة تقول صراحة في أكثر من موقع أنه إبن يوسف وأن يعقوب (أخو الرب) أخوه، إبن مريم ويوسف؛ وما الإدعاء بأنه إبن لعذراء حبلت به بلا دنس، وهو ما نقله القرآن، إلاّ لتحقيق نبوءة أشعيا وتأسيس لهرطقات بولص المغرضة ومخططاته المعادية لمسيحية يسوع. لم يكن يسوع إلاّ ثائراً برز من بين الطبقات الشعبية المسحوقة يدافع عن بلاده ضد المحتلين الرومان وعن الفقراء ضد مستغليهم من الأغنياء وهو القائل.. " يدخل الجمل ثقب الإبرة ولا يدخل غني ملكوت الله " ؛ هكذا كان موسى من قبله وهكذا سيكون محمد من بعده،

فـؤاد الزايـر